الجميلة الخائنة تلتقي الشعر الرقمي والتشكيل البصري للقصيدة

الجلسة الأخيرة في ملتقى القاهرة الدولي الخامس للشعر العربي تحتفي بالحديث عن ترجمة الشعر وتفاعل الصوت والصورة ودلالة التشكيل البصري في النص الحديث.
غراء مهنا ترى أن ترجمة الشعر من أصعب الترجمات وتتساءل عن أسباب الكم الكبير لترجمة قصيدة "البحيرة"
رشا ناصر العلي ترى أن عملية التحرير وارتباطها بطريقة القراءة عملية أوَّلية في التلقي

الجلسة الخامسة والأخيرة في ملتقى القاهرة الدولي الخامس للشعر العربي الذي عقده المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة 13 – 16 يناير/كانون الأول 2020 أدارها الكاتب الليبي زياد علي وشارك فيها كل من: د. أسامة البحيري، ود. رشا ناصر العلي، ود. غراء مهنا.
جاء الملتقى يحمل شعار "الشعر وثقافة العصر" وحملت الدورة الخامسة اسم الشاعرين إبراهيم ناجي وبدر شاكر السياب، وتحدث د. أسامة البحيري عن "تفاعل الصوت والصورة في الشعر الرقمي"، وقال: كانت مركزية الصوت والحرف لها الهيمنة في عصر الشعرية الشفاهية والكتابية، وفي ظل العولمة احتلَّت الصورة واجهة المشهد، ففرضت نفسها في مجال الإعلام، والدراما السينمائية والتليفزيونية، وحضرت بقوة في مجال الإبداع الأدبي والشعري، والدراسات النقدية. وتغيَّرت وسيلة توصيل الشعر، وتطوَّرت قنواته الاتصالية من الوسيط الورقي في المرحلة الكتابية، إلى الوسيط التكنولوجي؛ المتمثل في الشاشة الزرقاء في الحاسوب، والجوال. وتبعًا لذلك تطوَّرت آليات الإبداع الشعري، واتسعت آفاق التلقي، وزاد دور المتلقي في العملية الإبداعية، وتغيَّرت بعض خصائص الأجناس الأدبية المنقولة عبر الوسيط التكنولوجي (الشاشة الزرقاء).
وأضاف البحيري: أفاد الشعر الرقمي والتفاعلي من التطورات التكنولوجية، وطوَّعها لخدمة العملية الإبداعية، وفتح آفاقًا هائلة لنشرها وإذاعتها، وابتكار ألوان أدبية جديدة تقوم على استثمار الوسائط التكنولوجية المتنوعة، والإفادة من الفنون البصرية التصويرية، والموسيقى وأشكال الجرافيك، في المزج بين التشكيل البصري، والصوتي، واللغوي في النصوص الإبداعية الشعرية، وإتاحة قدر كبير من "التفاعلية" (Interactivity)، وهي لا تعني قدرة المتلقي/المستخدم على الإبحار في عالم الإنترنت الافتراضي فحسب، بل تعني قوته وقدرته على إحداث التغيير فيه. فهي لا تكتفي بمتعة المشاهدة والانبهار، بل تستحضر فاعلية المتلقي في إكمال العملية الإبداعية، وتسمح له بأداء دور كبير في تلقي النصوص، وتأويلها، وتطويرها. 
وأوضح أن النصوص الأدبية التفاعلية (شعرًا ونثرًا) تستخدم إمكانات النص المتفرع (المترابط) (Hypertext)، وهو نص مؤلف من مجموعة من النصوص (اللغوية، وغير اللغوية)، مع الوصلات الإلكترونية التي تربط بينها، بحيث يقدم لقارئه، أو لمستخدمه من خلال تلك النصوص المتعددة والوصلات الرابطة بينها، مسارات مختلفة غير متسلسلة أو متعاقبة، وبالتالي فهي غير ملزمة بترتيب ثابت في القراءة، فيتيح أمام كل متلقٍّ/مستخدم فرصة اختيار الطريقة التي تناسبه في قراءته، ويصبح المتلقي له دور فعال في العملية الإبداعية التفاعلية.
ويدرس أسامة البحيري في بحثه آليات تفاعل الحرف والصوت والصورة في المنجز الشعري الرقمي والتفاعلي العربي في أشكاله الشعرية التي أبدعها بعض الشعراء العرب المعاصرين في المغرب، والسعودية، ولبنان، ومصر.

أما الدكتورة غراء مهنا فتحدثت عن ترجمة الشعر ووصفتها بالجميلة الخائنة، وتناول بحثها ترجمة قصيدة "البحيرة" التي نظمها الشاعر الفرنسي لا مارتين عام 1817 وترجمت إلى العربية عشرات المرات وبالتحديد في الفترة من عام 1926 إلى 2002.
وأشارت أن. د. محمد زكريا عناني جمع 19 ترجمة لهذه القصيدة في كتابه "شعر لا مارتين في ترجماته العربية" (2006) ولكنه لم يتناول هذه الترجمات بالدراسة والفحص ولم يقارن بينها. ويؤكد عنانى أن ترجمات هذه القصيدة تتجاوز العشرين ترجمة بكثير، وهناك مخطوطات لم تنشر كما يؤكد أن ترجمة أحمد شوقى كانت أول هذه الترجمات ولكنها ضاعت وفقد النص.
وترى مهنا أن ترجمة الشعر من أصعب الترجمات، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا هذا الكم من الترجمات لهذه القصيدة بالذات؟ ولقد أجاب د. عنانى عن هذا السؤال، ولكن هل تختلف ترجمة نفس القصيدة من شاعر إلى آخر؟ وهل تختلف ترجمات كبار الشعراء مثل إبراهيم ناجي وعلي محمود طه وعبدالعزيز مطر ونيقولا فياض عن ترجمات كبار المترجمين أمثال محمد غنيمي هلال ومحمد مندور أو كبار الكتاب والمفكرين مثل أحمد حسن الزيات وأحمد أمين وزكي نجيب محمود إلى آخره؟ هل تختلف الترجمة من فترة زمنية إلى أخرى؟ ولماذا ترجمها البعض شعرًا والبعض الآخر نثرًا أو شعرًا منثورًا؟ وما حدود حرية المترجم؟ هل من حقه أن يحذف مقاطع ويضيف أو يغير أو يستبدل أم أن عليه الاحتفاظ بالشكل والمضمون؟ هل الترجمة هي "أن تقول نفس الشيء" (عنوان كتاب لـEmberto Eco ) أم هي شرح وتفسير وتطويع وإعادة صياغه بلغة أخرى؟
وتقارن د. غراء مهنا بين هذه الترجمات من خلال تناول ترجمة نفس المقطع الخاص بحديث الحبيبة والمعروف بـLe Chant d Elvyre  تحوُّلات الشكل الشعري.
الباحثة الدكتورة رشا ناصر العلي تحدثت عن "التشكيل البصري الكتابي ودلالاته في النص الشعري الحديث" وقالت: إذا كان الشاعر قديمًا في مأمن، لأنه يعرف حدود مكان نصه الشعري داخل إطار مغلق، فإن الشاعر المعاصر قد وعى أهمية المكان، وأن بياض الصفحة جزءٌ من البناء الشعري، كما أدرك أن القلق الداخلي ينعكس على تحريره النص وعلى طريقة ترتيب كلماته، وطريقة قراءتها بعد أن صارت القصيدة حيزًا مكانيًّا يتفاعل مع التقنيات الجديدة قدر تفاعلها مع الأحاسيس والمشاعر.
ومن هنا أصبح للفراغ الطباعي دور في النص الشعري، فهو المتمِّم لعملية إنتاج الدلالة الشعرية، وهذا ما عبَّر عنه مالارميه بقوله: "لتنظيم الكلمات في الصفحة مفعول بهي، واللفظة الواحدة تحتاج إلى صفحة كاملة بيضاء، وتصوير الألفاظ وحده لا يؤدي الأشياء كاملة وعليه فالفراغ الأبيض متمِّم".
واشارت إلى أن عملية التحرير وارتباطها بطريقة القراءة عملية أوَّلية في التلقي، وقد كان لتنظيرات دي سوسير ورولان بارت فيما يخص الدلالة غير اللغوية أكبر الأثر في التفات الشعراء والنقاد إلى فراغ الصفحة والنظر إليه بوصفه جزءًا من القصيدة، وهو ما أسماه غريماس بالشكل الخطي الجرافيكي، وهو يتعلق بالهيئة الطباعية للقصيدة.
وتضيف العلي: إذا ما عدنا إلى الوراء قليلاً نجد أن القصيدة العربية قد ظلَّت قرونًا طويلة تخاطب الأذن، ومع ظهور الورق بدأ الاهتمام بالشكل الكتابي للقصيدة، وقد تجلَّى هذا الاهتمام في العصر الحديث بعد انتشار المطبعة وتطور الفن الطباعي وتعدُّد وسائله الفنية، حتى يمكن القول إن الشعر انتقل "من الإيقاع الشفوي إلى الإيقاع البصري". مما جعل القصيدة المعاصرة تتقدَّم على خطى التعبير الفني الموصول بالبصر أولاً، إذ أصبح التشكيل البصري ركنًا أساسيًّا من أركانها، شأن الفنون البصرية كلها، وهذا يساعد على إعادة إنتاج النص الشعري الحديث وفق معطيات بصرية مغايرة لكل ما ألفناه طوال التاريخ الماضي للشعر.
لقد بات معروفًا أن الخطاب الشعري الحديث لم يعد مجرد كلمات وأفكار فقط، بل أصبح يشمل عناصر أخرى لا يمكن الوصول إليها إلا بالبصر لفهم النص وفق التشكيل الخطي الذي ينتقيه الشاعر لنصه، ومن هنا حدث تحول في طريقة تلقي القصيدة المعاصرة التي تؤثر القراءة الصامتة، مما أوجد مجالاً لتوليد هوية بصرية للنصوص، ومن ثم أصبحت طريقة كتابة النص تدخل في تحديد معناه وتأطير مساره، فإذا كان الصوت من أهم المعايير التي اتكأ عليها الشعراء عبر مرحلة الشعر الإنشادية على اعتبار أنه فن الأُذن، فإن الاهتمام بالشكل/الكتابة بوصفه عنصرًا بانيًا له قيمته الجمالية والدلالية، لذلك أولاه الشاعر المعاصر اهتمامًا خاصًّا، ومن هنا ظهرت تعبيرات جديدة تعبِّر عما طرأ على النص الشعري الكتابي المعاصر سيقف البحث عند أهمها: مثل السواد والبياض وما يرتبط بهما من فراغ دلالي، ذلك أن التناوب بين الامتلاء والخواء، وبين منطوق الكلام وما كان منه مخفيًّا شكَّل تقنيةً جديدة في كتابة القصيدة وفي إخراج نصها على هيئة غير مألوفة من قبل، ومن ثم آثر الخطاب الشعري المعاصر ظاهرة الفراغ الطباعي، التي استفاضت كأداة كتابية لا تكاد تتوافق مع الظاهرة الشفاهية التي لا تحتمل هذه الفراغات بأنماطها المتباينة، وهو ما يعني أن هناك تصادمًا بين النطق والصمت من ناحية، وبين البياض والسواد من ناحية ثانية. 

كما أشارت رشا ناصر العلي إلى علامات الترقيم والأشكال الهندسية وتفتيت الدوال، إذ يلجأ الشاعر المعاصر – أحيانًا - إلى تنسيق الدوال هندسيًّا مستهدفًا إنتاج المعنى على نحو موازٍ لهذا التنسيق، وقد يسعى الشاعر في تشكيل قصيدته إلى تكوين تشكيل خارجي هندسي محدَّد يقتضي من القارئ أن يشمل القصيدة بنظرة كلية تتناولها أفقيًّا وعموديًّا في آن واحد، إذ ليست القصيدة حينئذٍ سلسلة من الكلمات المتتابعة تتابعًا زمنيًّا، بل هي أشبه باللوحات ذات البعد المكاني الواحد.
ووقف البحث عند ظاهرة تفتيت الدوال التي بدأت – كما يرى الدكتور عز الدين إسماعيل- على استحياء في السبعينيات واستمرت بعد ذلك، بالتركيز على إبراز صوت الكلمة المفردة موزعًا على أصوات حروفها (فونيماتها)، وذلك عن طريق المعاينة البصرية لشكل كتابة هذه الحروف. 
ولما كانت علامات الترقيم مؤشرات بصرية لها دلالات مقصودة، أصبحت في النص الشعري مؤشرات تخدم إنتاج الدلالة بالإضافة إلى ما تلعبه من دور على مستوى التشكيل، إذ تقوم علامات الترقيم بضبط نبرة الصوت في الكتابة، وبالتالي ليعوض الصوت كليةً بالعين، فهي دوال بصرية تتفاعل مع الدوال اللغوية في إتمام المعنى وإنتاج الدلالة، وتنظيم المفاصل المهمة في الخطاب الشعري، وقد ازدادت ضرورة استخدام علامات الترقيم مع الانتقال من النصوص الشفهية إلى النصوص المكتوبة، ومن ثمَّ فهي تساعد على قراءة المكتوب حسب نطقه شفهيًّا، وأصبح استخدامها في الشعر الحديث متممًا للمعنى والشكل الشعري، وقد كثر استخدامها بشكل واضح في شعر التفعيلة، ومن ثمَّ أصبحت تمثل عنصرًا مهمًّا في النظام الطباعي للقصيدة، حيث تتحوَّل من مجرد محدد لعلاقات المفردات في الجملة إلى محدد للعلاقات بين أجزاء النص ككل. ومن هنا استدرج النص الشعري الحديث علامات الترقيم المختلفة لخدمة التجربة الإبداعية الخاصة بالمبدع، وتم شحنها – أحيانًا - بدلالات ووظائف جديدة انحرفت عن دلالاتها ووظائفها المتعارف عليها.