الحاجة لوقفة دولية حازمة في ليبيا

تستغل تركيا التناقضات داخل أوروبا وتتصرف بجرأة وصلت إلى درجة عدم الممانعة في مناطحة قوى كبرى.

يفرض اعتراف غسان سلامة مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا بأن مصداقية المنظمة الدولية على المحك؛ أن تتبنى قوى مختلفة موقفا حازما حيال الانتهاكات التركية المتتالية، بعد تعمد أنقرة خرق القوانين والأعراف وتصعيد التحركات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وردع حكومة الوفاق الوطني التي هيأت الأجواء أمامها لتكشف عن صلفها في التعامل مع الأزمة.

قدم تحذير سلامة في حواره مع جريدة "لوموند" الفرنسية الاثنين الماضي صرخة قوية على أن هناك مخاوف كبيرة من خروج الأزمة من عقالها، عقب توقيع مذكرتي التفاهم البحري والأمني بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس حكومة الوفاق فايز السراج.

ولذلك من الضروري تغيير الآلية القديمة العقيمة، ووضع رؤية دولية محكمة تتناسب مع التطورات المتسارعة، وتتخلى عن الإجراءات الفردية التي تقوم بها بعض الدول وفقا لما يناسب خططها المرحلية. فهناك جهات خارجية وجدت مصالحها في دعم الطرفين المتحاربين لضمان عدم الخسارة في النهاية.

فرضت الصراعات الإقليمية الجديدة هذا النمط من التدخلات. هناك دول تدعم فصائل وخصومها، وحكومات ومعارضيها. ودول تتصارع مع أخرى في قضية وتتفاهم معها حول أخرى في الأزمة الواحدة. شاعت هذه الظاهرة في سوريا وحافظ البعض على الكثير من التوازنات بموجبها.

بدأت العدوى تنتقل إلى ليبيا، ما ينذر بطول أمد الصراع الذي لن تُنهك فيه بسهولة أطرافه الرئيسية، بل تتغذى على ذلك الميلشيات والعصابات المسلحة والمرتزقة وجميع العناصر المتشددة التي تعلم أن ساعة الحساب سوف تأتي عندما تسكت المدافع.

وأخذت الأزمة الليبية أسوأ ما في نظيرتها السورية، من تدخلات مستترة لبعض القوى، وتمركز أعداد كبيرة من الإرهابيين، وحرب بالوكالة تحولت إلى ملمح خطير. ودول كبرى تقف عاجزة عن الحل. وأخرى تريد الهيمنة بطرق ملتوية. وثالثة غير مكترثة بالتطورات الدرامية التركية. ورابعة تتدخل كنوع من إبراء الذمة. وما لم ينتبه كل هؤلاء لطبيعة الخطر المحدق قد تنفلت الأزمة وتزداد عملية السيطرة عليها صعوبة.

تستغل تركيا هذه التناقضات، وتتصرف بجرأة وصلت إلى درجة عدم الممانعة في مناطحة قوى كبرى. فقد مرت باختبار قاس في سوريا. وتلقت تهديدات بعقوبات غالبيتها بدت مثل الدخان في الهواء. وظهرت كأنها تتحدى الولايات المتحدة، ولم تجرؤ الأخيرة على لجمها، وتوافقت معها في شمال شرق سوريا ضمن لعبة دقيقة لتوزيع الأدوار.

وتتجاوز ممارسات أنقرة الأفكار التي يرددها البعض بخصوص استعادة أمجاد عثمانية غابرة، أو المطالبة بحقوق تركمانية وهمية، وتصل إلى حد المساومة والابتزاز والضغط لعقد صفقات، مستغلة حالة نادرة من الوهن تجتاح بعض الدول الغربية.

استقر في يقين أردوغان أن معظم القوى الكبرى باتت تشبه البطة العرجاء، ولن تستطيع استخدام الوسائل الخشنة لردعه، ولن تتمكن من التصدي لجموحه. فعدد كبير مكبل بأزمات داخلية، أو لديه ممانعات سياسية بشأن استخدام الحلول العسكرية.

 كما أن التشابكات الإقليمية في منطقة شرق البحر المتوسط، وارتباك المواقف الدولية، وما يكتنف الأزمة الليبية من تعقيدات. كلها عوامل وفرت لأنقرة مساحة للحركة والطرق بقوة في اتجاهات متباينة.

تحارب تركيا على جبهات عدة في الآن نفسه، وهي مدفوعة برغبة عارمة في الحصول على مكاسب اقتصادية من كعكة اكتشافات الغاز. وتعلم أن هناك خطوات حثيثة اتخذت أفضت إلى خروجها من منتدى شرق المتوسط الذي بات نواة للتعاون والتنسيق في مشروعات الغاز بالمنطقة.

وفشلت دبلوماسية البوارج الحربية في فرض أمر واقع يمكنها من المشاركة كطرف إقليمي محرك للأحداث، ولم تجد آذانا صاغية لها، ولجأت إلى تفجير معركة الحدود البحرية مع ليبيا كقفاز، ربما يحميها من ضربات خصومها.

وتظل الجبهة الثانية، وهي ليبيا، محكومة بالدفاع عن مشروع أيديولوجي، إذا نجحت في تثبيت نفوذ أصحابه كرست وجودها في شمال أفريقيا. وبعث أردوغان برسائل عقائدية واضحة عندما زار تونس مؤخرا، ويعمل على الاستفادة من وجود كتلة حرجة من الإسلاميين في كل من الجزائر والمغرب، سواء كانوا في قلب السلطة أو على هامشها. ويدرك أن محطة ليبيا هي الفيصل في النفوذ أو تلاشيه، ما جعله يرمي بكل أوراقه غير المشروعة في ساحتها.

قدمت تركيا براهين تثبت أنها محرك رئيسي للعنف في ليبيا، وأهم جهة تقوم بتصدير الأسلحة والمرتزقة والمتطرفين إليها، ودعم الجماعات الإرهابية من كل صنف ونوع. ووفرت أدلة دامغة على قيامها بعدم احترام حظر تصدير السلاح المفروض من قبل مجلس الأمن. وما كان يدور في الأروقة السياسية والمراكز البحثية همسا وتخمينا صار علنا وواقعا. ومع ذلك لم يستطع المجتمع الدولي الوقوف في وجه أنقرة.

يحاول الرئيس عبدالفتاح السيسي حث القوى الرئيسية على التعاون لوضع حدود للانتهاكات التركية والسعي لإيجاد حل سياسي للأزمة الليبية. وأجرى أخيرا اتصالات برؤساء دول وحكومات، الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا واليونان وقبرص.

لم تتوقف الجهود الدبلوماسية على الصعيدين الإقليمي والدولي لمنع نقل سيناريو سوريا إلى ليبيا، والبحث عن وسيلة ناجحة تحافظ على حقوق الشعب الليبي، وتمنع انزلاق بلاده إلى حرب أشد دمارا.

أخرجت التصرفات التركية الأزمة من إطارها المحلي إلى فضاء أوسع وأعقد قابل لمزيد من التصعيد، ويهدد مصالح قوى إقليمية ودولية عديدة لن تقف طويلا مكتوفة الأيدي، لأن ما تخطط له أنقرة يمثل اعتداء صريحا، ولن تكفي معه بيانات الشجب والتنديد والغضب المعتادة، ويلحق أضرارا مباشرة بمكاسب استراتيجية راكمتها ويصعب التفريط فيها.

إذا أخفق المجتمع الدولي في التعامل بحسم مع أردوغان لن يتورع عن تخطي المزيد من الخطوط الحمراء. وقدم الرجل ما يكفي من أدلة لتأكيد أنه داعم مركزي للإرهاب في المنطقة، ما يستوجب التحرك للعقاب، إلا إذا كانت هذه النوعية من التصرفات تحظى بمباركة من قوى كبرى، وقتها لا يلومن أحد نفسه عندما تزحف القوى الإرهابية من جنوب المتوسط إلى شماله.

ويتضخم أردوغان ويصبح رجل أوروبا القوي. وهو ما ترفضه التطورات الشعبوية التي تجتاح الغرب وتفرض على قادته تحركات تكبح جماح تركيا وذيولها في ليبيا أو غيرها.