الحامية الرومانية سيرة أخرى للمثقف العراقي

المثقف العراقي كان ضحيةً للحصار، بحكم شحة موارده، لأنه يعيش من خلال مداد قلمه،  والذي أصبح غير قادر على تلبية أبسط الحاجات الأساسية.
الأردن شهد أكبر تجمع للمثقفين العراقيين؛ من صحفيين وكتاب وروائيين وفنانين تشكيليين، وفنانين في مجالات الطرب والموسيقى وغيرهم
أدباء وشخصيات أكاديمية وسياسية غادرت الوطن قبل الحصار لأسباب متعددة

يا لها من مهمة عسيرة ، أن تقبض على جمرة الوجع العراقي إبان الحصار؟ ذلك الحصار الدولي على العراق، إثرَ غزوه للكويت، والذي انعكس على جميع شرائح المجتمع، وقام بتجويعهم وتمريغ كرامتهم ، بعد أن تدنّت القدرة الشرائية بفعل سقوط العملة، فوجد العراقي نفسه بين كماشة الشرّ والعنف والقسوة، وبين  نظام قمعي لا يكترث لهموم مواطنيه، وبين قسوة أممية، قادتها أميركا لتعاقبَ شعبا كاملا بجريرة نظامه الدكتاتوري الذي انتهت صلاحيته بالنسبة لهم، لقد جاع الأطفال حتى الموت من سوء التغذية، وتفشّت الأمراض، وتحطمت البنية الاقتصادية، وتهاوت العملة الوطنية، وبدأ ليل طويل من المعاناة للبحث عن لقمة العيش، من خلال هذا الحصار المؤلم والذي سقط على كاهل المواطن، فعصف به، وأدى إلى تجويعه وتدمير خصائصه وقيَمِهِ، لذلك كان الفرار من قفص القمع والمجاعة، هو الحل، ولم يكن ثمة ملاذات جاهزة سوى الأردن بحكم قربه الجغرافي.
كان المثقف العراقي ضحيةً للحصار أيضا، بحكم شحة موارده، لأنه يعيش من خلال مداد قلمه،  والذي أصبح غير قادر على تلبية أبسط الحاجات الأساسية، إضافة إلى وعي المثقف بسوداوية الوضع السياسي وعدم قدرته على التغيير، لذلك فقد اختار السفر، وهكذا شهدت الأردن أكبر تجمع للمثقفين العراقيين؛ من صحفيين وكتاب وروائيين وفنانين تشكيليين، وفنانين في مجالات الطرب والموسيقى، إضافة إلى بعض الأدباء والشخصيات الأكاديمية والسياسية التي غادرت الوطن قبل الحصار لأسباب متعددة.  
وهذا ما تناوله كتاب "الحياة في الحامية الرومانية" لمؤلفه هادي الحسيني، والذي صدر عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع عام 2014، ومما يمنح الكتاب أهمية، هو أن المؤلف كان أحد الشهود الذين عاشوا ظروف الحصار، وظروف العيش في عمّان، ومدى علاقاته بهذه الشريحة التي انغمر معها في ظروف قاسية من أجل البقاء، لذلك فقد تأنّى في كتابتها، فأتت على هيئة سيرة ذاتية للمثقف المغترب.

الكتاب أعاد لنا لحظة حجرية عاشها مثقفو العراق، والذين تسربوا من خيمة الوطن، ليذوبوا في مجاهيل بلدان المهجر

وقد تمثلت هذه المعاناة بتسرب الكثير من الكفاءات العراقية، مُمَثّلَةً بالكتاب والشعراء والمسرحيين والفنانين التشكيليين، والفنانين في مجال الموسيقى والغناء، إضافة إلى الأكاديميين في مختلف الاختصاصات. إضافة إلى جمع غفير من الأوساط العراقية التي وجدت نفسها على هامش الحياة، من طلاب وعمال وباعة وسائقي سيارات ودلالين وغيرهم من خارج الوسط الثقافي، والذين دفعتهم ظروف القحط لاختيار الغربة بديلاً. 
كان الحصول على العمل هو التحدي الكبير الذي كان يواجه هؤلاء الذين نزحوا عن الوطن، فاشتغلوا في أعمال الصيانة والبناء والخدمة العامة، والمطاعم والمقاهي، وفي كل عمل ممكن، وقد أورد أمثلة طريفة على ذلك، ومنها العرض الذي تلقاه أحد الشعراء لرعي الغنم في البادية. والذي دفع الشاعر أن يتحمل الجوع على أن يشتغل راعيا. كما تحدث عن بعض الأدباء والأكاديميين الذين حالفهم الحظ، فاشتغلوا في جامعات الأردن كأساتذة، والبعض الذي اشتغل في بيع الكتب على الأرصفة، والمحظوظين الذين اشتغلوا في الصحافة العربية والأردنية، كمراسلين أو كاتبي أعمدة، فيتلقون النزر اليسير من النقود التي تساعدهم في الهمّ المعيشي اليومي. 
وكان غلاء السكن تحديا آخرَ، لذلك فقد تحولت بيوت العراقيين وغرفهم البائسة والضيّقة إلى أمكنة للضيافة، ولمساعدة بعضهم البعض، رغم بؤس السكن، وهنا يتجلى الغنى الروحي لهذه العيّنات الثقافية والفكرية، والتي تحدّت قهر الواقع وتمردت على أغلاله. ومن المفارقات المبكية التي ذكرها الكاتب، أن صحفيا أردنيا دعا بعض الأدباء العراقيين في منزله الفاره في أحد المناطق الراقية من العاصمة الأردنية، وقال لهم متفاخرا: لقد كلفتني هذه الفيلا دينارا أردنيا فقط! وحينما وجد الدهشةَ قد سمّرتهم، أضاف شارحا، ذلك لأن صدام حسين قد تبرع إلينا بهذا السكن، تعبيرا عن تقديره للأقلام العربية التي تكيل له المديح!
لقد كانت عمّان أو - الحامية الرومانية – كما يسميها الرومان سابقا، تعجّ بحملة القلم من المهاجرين العراقيين، الذين تختلف أسباب تواجدهم، فمنهم من يبحث عن فرص عمل لإرسال بعض النقود لعوائلهم التي تتضور من الحصار، ومنهم من هرب من ملاحقات النظام الاستخباراتي والقمعي، والذي كان شديد الشراسة مع من يعتقد أنه من المعارضة، لذلك فحكم الإعدام شائع ولا يحتاج إلى أدلة، كما حدث بالنسبة للشاعر حميد المختار الذي تخلص من هذا الحكم بأعجوبة، وذلك حينما تمّ العفو العام نتيجة لتهرئ النظام وخشيته من التهديدات الأميركية.   وبعض العراقيين قَدِم إلى عمّان للبحث عن ملاذات آمنة عن طريق الأمم المتحدة، التي تقوم بتوزيع طالبي اللجوء إلى أوروبا أو أميركا الشمالية أو استراليا.
وذكر الكاتب الكثير من أسماء الأدباء والشعراء، وبعضهم مرّ عليهم مسرعا، بينما توقف كثيرا عند بعض الأسماء الأخرى، ومنهم البياتي وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر وجان دمو، والذين شكلوا حضورا مكثفا في صفحات كتابه، بغض النظر عن زاوية الطرح لكل منهم، وطبيعة الحضور الثقافي لذلك الشاعر أو غيره على مُناخ المدينة الثقافي. 
لجاليري الفينيق حضور كبير في هذا الكتاب، حيث احتضن الأمسيات الشعرية، والفعاليات الأدبية والفنية المختلفة، وكان البياتي من الناس الذين لهم مجلسهم اليومي هناك، حيث أصبحت قاعتُهُ مَحَجّةً للمثقفين العراقيين والأردنيين، وبما أن الكثير من المبدعين العراقيين قد انتقلوا إلى هذه المدينة، فقد تضوع وانتشر عطر ثقافة عراقية ذو طعم خاص لم يألفْهُ أهل المدينة من قبلُ،  ولذلك فقد استنشقت عمّان هواء التيارات الثقافية المختلفة، والتي حملها هؤلاء المبدعون مما ساهم في تحريك البركة الثقافية الراكدة، وكان جاليري الفينيق يعمل بأياد عراقية، ومنها الأديب العراقي الساخر علي السوداني. الذي يقوم بدور أساس في تسييره.  
استطعنا أن نتعرف عن كثَب على شخصية البياتي، من خلال وجهة نظر الكاتب الذي كان يلازمه بشكلٍ يومي، حيث إن هذا الشاعر الكبير يرعى الشعراء الشباب ويساعدهم ويستأنس بهم، وقد تبرع بطباعة كتب للبعض. كما كان البياتي محط احترام الأوساط الثقافية الأردنية، وكانت مائدته اليومية الساهرة في الفنادق الفخمة أو المطاعم، حافلة بالأصدقاء الشباب، كما أظهر لنا الكثير من جوانب شخصية البياتي التي تحنّ إلى الوطن وتعيش آلامه، كما أنه كان يحب الحياة، وتبدو عليه علامات السرور حينما يُحتفى به، أو يُثنى على شعره، وقد كَرِهَ المطرب كاظم الساهر، لأنه لم يلحن أغنية من قصائده رغم وجود تفاهمات أوّلية بهذا الشأن. 
رسم الكاتب صورة البياتي الإنسان، البسيط والودود، حيث ينام أحيانا في جلسات السمر، ولكنه يصحو بعد نصف ساعة لإكمال السهرة، وكأنه يعيد نشاطه. كما إنه يعشق الوجود الأنثوي، وخاصة إذا كانت مثل جمال النادلة التي ذكرها الكاتب.  
كما تطرق الكتابُ إلى نتف من حياة الشاعر سعدي يوسف الذي كان يعيش في عمّان أيضا، وكان قدوة شعرية للكثير من الشباب، كما تحدث عن أسفاره وأشعاره، وعن العلاقة المميزة التي تجمعه بالبياتي، وعن مجموعته الشعرية التي عنْوَنها بـ "حانة القرد المفكر"، وعن مصابه الأليم بوفاة ابنه حيدر في الفليبين، حيث شكّل موته جرحا عميقا، وذهب إلى هناك، ليأتي بجثمانه ويدفنه في أرض قريبة من الوطن. 

كما تحدث عن حسب الشيخ جعفر، ودراسته للأدب الروسي، وقدرته في الترجمة التي نقلت أدب بوشكين وماياكوفسكي وحمزاتوف وغيرهم، إضافة إلى إمكاناته الشعرية العالية، وأخيرا موت زوجته في العراق وهو بعيد عنها.
كما أفرد الكثير من فصوله عن حياة الصعلكة التي يعيشها جان دمو، كما تناول طرائفه وحكاياته مع الخمر والتسكع والاعتقالات في سجون الأردن بتهمة السكر العلني، وكيفية قبوله من قبل الأمم المتحدة في استراليا. كما تناول مواقف ساخرة عن حمودي الحارثي حينما اُعتقل مع علي السوداني، وسخرية علي حول تنظيف تواليتات المعتقلات. 
لقد تناول الكتاب الكثير من الأسماء من الشعراء، وحكاياتهم: عن الشاعر كاظم الحجاج الذي أتى من البصرة لفترة وجيزة، ولكنه كان يحمل مسرحية شعرية قصيرة باسم "المدرس" تتناول جوانب من شخصية الأديب العراقي محمد خضير، وقد قام بإخراجها وتمثيلها الفنان علي منشد في جاليري الفينيق. تحدث أيضا عن عبدالستار ناصر وأنشطته. وعن إلقاء بعض النصوص القصصية والشعرية، والتي شهدت قاعة الفينيق صدى لها. وعن كثير من الشعراء الذين مروا في فصول كتابه ومنهم فاضل جواد ونصيف وسعد جاسم وسلام كاظم وكاظم الرويعي والذي مات قبيل أن يحصل على اللجوء. 
كما اكتنز النص بأسماء الأدباء الذين قدموا إلى الحامية الرومانية، فقد حفل بالمطربين والملحنين، ومنهم فاضل عواد الذي ذهب إلى ليبيا، وعن أغنيته الشهيرة "لا خبر" والتي مُنعت في لجنة اختيار النصوص، في أواخر الستينات، ولكن الشاعر حسب الشيخ جعفر قد أجازها. حتى أصبحت من الأغاني التي حققت شهرة ونجاحا.
عن مجيء المطرب الشعبي سعدي الحلي، والطرائف التي مروا بها حينما استضافوه في غرفتهم. وكيفية مصارحته بالنكات الشائعة عنه، والتي تتناقض مع جوهر سعدي الحلي الذي يتحلى بالأخلاق الفاضلة. عن قدوم المطرب رياض أحمد، الذي يتميز بالأناقة، وقد جاء للغناء في أفخم فنادق عمّان، ولكنه مات قبل أوانه. عن لقائهم بالمطربة أنوار عبدالوهاب، والتي كانت طيبة القلب، ولا تتوانى في مساعدة الشباب العراقيين. 
ومثلما كان الكتاب يتحدث عن المثقف ومعاناته، فقد تناول الظواهر السياسية التي هاجرت إلى عمّان أيضا، ومنها هروب حسين كامل وحاشيته وأخوته وزوجاتهم، ذلك الهروب الذي ترك صداه في الصحافة العالمية، وأوجع النظام القمعي في بغداد، وتحدث الكتاب عن بعض الجوانب التي رافقت هذا الهروب، ومنها عجرفة حسين كامل وغبائه، وانكشاف شخصيته الهزيلة، حيث هدد تلفونيا رئيس تحرير جريدة أردنية بالقتل، لأنه كان يعتقد بأنه يملك السلطة في الأردن أيضا، مما دفع بالصحفي أن يرفع دعوة قضائية ضدّه، وحينما استجار بالملك الحسين، ردّه بأنه لا يتدخل بشؤون القضاء. وفي ذلك الوقت كانت الجهود حثيثة من رأس النظام لاستدراج حسين كامل بمعسول الوعود، فعاد الرجل بعد أن آمنه عمّه صدام، والتي انتهت بقتله. 
كما تناول الكتاب وجود حركة الوفاق الوطني برئاسة أياد علاوي، وتجنيدها للكثير من المثقفين للكتابة في صحافتها لقاء مبالغ كبيرة، وكيفية الانشقاق في الوفاق الوطني. وشخصية البعثي السابق عمر العلي الذي جنّد بعض الهاربين من نظام صدام، للاصطفاف في صفوف المعارضة. كما تحدث عن وجود المال الوفير لدى حركة الوفاق، قياسا بحالة القحط التي تحيط بالمهاجرين العراقيين الذين يفترشون الأرصفة. ومنهم النسوة من دلالات يبعن السجائر في الساحة الهاشمية، والشباب الذين يعملون في الأعمال الشاقة والرثة، كما تحدث عن جموع من العراقيين الذين يبحثون عن الخلاص، بواسطة السفر إلى أوروبا، أو من خلال مساعدة الأقارب والمعارف لهم. 
كما تناول الفنانين التشكيليين الذين يبيعون لوحاتهم في الشوارع، والذين كانوا يبادلون الفن لقاء لقمة العيش، وكذلك ينطبق الأمر على الكثيرين من الفوتوغرافيين.
كانت سهرة رأس السنة لعام 1997 سهرة جميلة، ولأنها جمعت أصنافا مختلفة من الشعراء العراقيين، ومنهم فوزي كريم الذي أتى من لندن في زيارة طارئة، والشاعر خزعل الماجدي والبياتي والكثير من الشعراء الشباب، وكانت الحفلة التي تخللها الشعر والأدب والرقص، وكأنها تجمع الأجيال المتعاقبة في الشعر العراقي، ابتداءً من جيل الرواد والستينيات إلى جيل الثمانينيات. 
ومن خلال هذا السرد الذي ورد في الكتاب، تشعر بحجم االخسارة الفكرية والأدبية التي تعرض لها العراق وهو ينزف مثقفيه وكتّابه وفنانيه! 
ومع أن الكاتب هادي الحسيني قد بذل جهدا في جمع كمٍ هائلٍ من التفاصيل المهمة والمثيرة ، والتي تؤرخ مرحلة حرجة من محطات الألم العراقي، ولكنه انزلق في الإطناب والإعادة والتكرار، والتي تُفقد من النص بعض جماليته، فالكتاب يحتاج إلى مراجعة وتكثيف وتدقيق.
ولكنّ  من ناحية أخرى، فالقارئ يشعر بأن الكتاب قد لبّى فضوله، وفتح أمامه الكثير من الحجرات المغلقة لشخصيات عراقية، كنّا نعرفها من خلال إبداعاتها الكتابية، سواء كانت سردية أم شعرية أو إبداعاتها الفنية، في الرسم والنحت أو الغناء أو التمثيل. ولكنّ هذا الكتاب "الحياة في الحامية الرومانية" قد قرّبهم إلينا أكثر، فتعرفنا على حياتهم بلا رتوش، تحسسنا دفقهم الإنساني، وتلمسنا بعض همومهم وأشجانهم. كما أن الكتاب قد أعاد لنا لحظة حجرية عاشها مثقفو العراق، والذين تسربوا من خيمة الوطن، ليذوبوا في مجاهيل بلدان المهجر.