الحب الحر في أعمال ارتسيباشيف

الكاتب الروسي ميخائيل ارتسيباشيف يعالج موضوع الحب في رواياته بطريقة أصيلة ومتفردة للغاية .
رواية "سانين" مثيرة ومشوقة، تأخذ بأنفاس القاريء، وتتسم بجرأة فكرية تبعث على إعادة التفكير في الكثير من المسلمات والأعراف التقليدية
الكاتب الروسي يرفض الاعتقاد السائد حول العفة لكل من الرجال والنساء

الحب هو أحد الموضوعات الرئيسية في أعمال الكاتب الروسي ميخائيل ارتسيباشيف (1878 – 1927) كما هو الحال في أعمال معظم الكتّاب الآخرين. ولكن ارتسيباشيف عالج هذا الموضوع بطريقة أصيلة ومتفردة للغاية .
يرى ارتسيباشيف أن الإنسان مزيج متناغم من الجسد والروح. ولا ينتهك هذا التناغم على نحو طبيعي، إلا الموت. ولكن البشر أيضا ينتهكونه على نحو متعسف بنظرتهم الوضيعة إلى العالم.
الحب – حسب ارتسيباشيف – هو اتحاد الذكر والأنثى لعوامل فسيولوجية في المقام الأول، وليس بسبب التقارب النفسي بينهما. الكاتب يرفض أسطورة الحب الأفلاطوني. ويرى أن مهمة المرأة هي إمتاع الرجل. وعليها أن لا تخجل من هذه المهمة، التي ليس فيها ما يخجل، بل أن الأمر طبيعي تماماً .
الحب الأسمى، الذي يربط الذكر بالأنثى، والروحي بالجسدي، ينقذ الناس من الشعور بالوحدة والكآبة والأنانية، وهو مهم باعتباره اتصال حياتين واندماجهما في حياة واحدة .
سانين: ابن الطبيعة وداعية الحب الحر
رواية "سانين" من أهم أعمال أرتسيباشيف، وهي رواية مثيرة ومشوقة، تأخذ بأنفاس القاريء، وتتسم بجرأة فكرية تبعث على إعادة التفكير في الكثير من المسلمات والأعراف التقليدية .

الحب كالسعادة يكمن في أعماق المحب، ولا يعتمد على عوامل خارجية. الحب لا ينشأ في السماوات، بل في داخل الإنسان نفسه

سانين – البطل الرئيسي للرواية - إنسان ذكي وصادق تماما، ومتحرر من كل القيود المادية، وهو مثل فيلسوف متشرد يسخر من المعايير والأعراف الأخلاقية التي عفا عليها الزمن، ويفندها بمهارة. ويحب الحياة بكل مظاهرها، ويكره كل ما يحدها أو يشلها أو يقتلها، ويؤمن بفكرة رئيسية مفادها: إن كل ما يجلب السعادة له وللآخرين، ولا يضر أحداً هو أمر طبيعي .
يقول سانين: "لقد وصمنا رغبات الجسد بالحيوانية، وبدأنا نخجل منها، ووضعناها في شكل مهين، وخلقنا وجودا أحادي الجانب. إن الأشخاص الضعفاء بطبيعتهم، لا يلاحظون ذلك، ويقضون حياتهم في الأغلال، إذ كبلتهم نظرتهم الزائفة إلى الحياة وإلى أنفسهم، وهم يتعذبون لأن الطاقة المحبوسة تسعى للانطلاق إلى الخارج، والجسد ينشد الفرح. وهم يعانون من الازدواجية طوال حياتهم، ويتمسكون بكل قشة في مجال المثل الأخلاقية الجديدة، وفي النهاية، يخافون أن يعيشوا، أو يعبروا عن مشاعرهم، رغم توقهم إلى ذلك. أنا أحلم دائما بذلك الزمن السعيد عندما لا يحول شيء بين الإنسان وسعادته، ويستسلم بحرية ودون خوف لجميع الملذات المتاحة له .
لقد كان العصر الذي عاش فيه الناس لبطونهم فقط، فظًا وبربريا وبائسًا. وعصرنا - الذي يخضع فيه الجسد للروح ولا يحظى بالاهتمام اللازم – باهت وبلا معنى. ولكن الإنسانية لم تعش عبثاً: فهي ستطور ظروفا حياتية جديدة لن يكون فيها مكان للفظائع ـو الزهد ".
ويقول في موضع آخر من الرواية: "إني أعرف شيئًا واحدًا هو أني لا أريد أن تكون حياتي شقية. لذلك يجب على المرء أن يرضي رغباته الطبيعية قبل كل شيء. إن الرغبة هي كل شيء. ومتى انقطعت الرغبة انقطعت الحياة معها. وإذا قتل المرء رغباته فإنه يكون قد قتل نفسه ".
في كل امرأة شيء أصيل وجميل
ارتسيباشيف صوّر النساء في أعماله بمهارة فائقة، وحاول أن يجد في كل امرأة شيئا أصيلاً وجميلاً، شيئا غير موجود في الأخريات. وهذا يضفي على نساء ارتسيباشيف جاذبية خاصة .
ارتسيباشيف يصف أنماطا مختلفة من النساء، ولكن معظم بطلات أعماله بريئات وساذجات، يفقدن براءتهن على صفحات أعماله. والأهم من ذلك أن الكاتب لا يصور فقدان البراءة كنوع من السقوط، ولا تبدو هؤلاء النساء للقاريء ساقطات أخلاقيا، أو أن اياً منهن قد فقدت كرامتها أو شرفها، ولا أفضل السمات الروحية التي تتصف بها . 

novel
أهم عائق في السعادة الزوجية

ماذا يبقى لدى الرجل من مشاعر سامية، إذا حرم العالم من الجمال الأنثوي الذي يشبه إلى حد بعيد زهور بواكير الربيع في جماله وتأثيره؟
يعتقد أرتسياشيف أن ثمة سمة أخرى ينبغي أن يتصف بها الحب، وهي الحرية: لا ينبغي أن يكون الحب مرتبطا بأي شيء: لا بالعنف والإكراه، ولا بالمال، ولا بالأحكام الأخلاقية المسبقة، ولا بالقيود الرسمية. الحب تحت تأثير العنف يصبح غير طبيعي، وهو غير مقبول .
 يمكن قول الشيء ذاته عن الحب مقابل المال. رغم أن ذلك لا يثير اشمئزاز الكاتب بشكل واضح. بطلة قصة "تمرد" بائعة هوى. القصة من حيث الحبكة تكاد تكون مشابهة لرواية تولستوي "البعث". وإذا كان تولستوي يرفض البغاء، ويعده من أخطر آثام البشرية، فان ارتسيباشيف لا يرفضه، معتبرا ذلك وسيلة لكسب المال وإن كانت غير طبيعية، لأن بائعة الهوى لا تضر أحداً، رغم أنها عنصر معاد للمجتمع. ويلمح الكاتب إلى أن أولئك الرجال، الذين يرتادون بيوت البغاء ليسوا في الواقع أفضل من بائعات الهوى .
 هل الزواج يقتل الحب؟
تناول الكاتب موضوع الحب في قصة أخرى بعنوان "الزوجة" وهي مكرسة لمشكلة الزواج. الكاتب لا  يقبل الزواج لأنه يشكل عقبة كأداء أمام الحب، ويعتبر السبب الرئيسي لجعل العلاقة بين شخصين محبين لبعضهما البعض عادية ومملة بسبب العيش المشترك .
 ويعتقد الكاتب أن الافتقار الكامل للحرية لكلا الشريكين أهم عائق في السعادة الزوجية.  الحب يجب أن يكون حرا، وحيث لا توجد حرية لا يوجد حب. الشريكان في الزواج يرتبطان بروابط  قانونية واجتماعية ودينية قوية، مما يؤدي إلى ضياع مفهوم الحب .
يرفض ارتسيباشيف الاعتقاد السائد حول العفة لكل من الرجال والنساء. وهو يربط مفهوم العفة بمفهوم الغيرة - كلاهما له جذر واحد: غريزة التملك. يعامل الرجل الغيور المرأة كشيء خاص به، وهو أمر غير مقبول بالطبع .
يشار إلى أن ارتسيباشيف عندما يصور الحب بهذه الطريقة - التي قد تبدو صادمة ومرفوضة للوهلة الأولى - إنما يكشف جوهره، وهو لا ينكر مفهوم الحب ذاته، ولا يقلل من جاذبيته. فالحب شعور سام وقوي، وقد سعى ارتسيباشيف إلى فهم هذا الشعور للعثور على جذوره ووجد هذه الجذور فعلاً: الحب كالسعادة يكمن في أعماق المحب، ولا يعتمد على عوامل خارجية. الحب لا ينشأ في السماوات، بل في داخل الإنسان نفسه .