'الحيوان وأنا'.. رواية جديدة لأمجد توفيق

الرواية تأتي محملة بالكثير من الأفكار والرؤى الفلسفية وهذا ما دأب عليه الروائي في أعماله السابقة.

رواية جديدة أخرى أتحفنا بها الروائي والكاتب الكبير أمجد توفيق ألا وهي "الحيوان وأنا" ضمن أعماله السردية الإبداعية التي لاقت رواجا منقطع النظير وحصدت جوائز ودروعا تكريمية من الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ومن جهات أدبية وثقافية ونقدية مرموقة لما لها من أهمية في أنها أغنت ذائقة قرائها ومتابعيها بكل أنواع السرد الروائي الذي تتجدد أساليبه في كل مرة، ويجد القارئ لرواياته أنه منغمس في متابعة ما يكتب دون كلل أو ملل.

الرواية تأتي محملة بالكثير من الأفكار والرؤى الفلسفية وهذا ما دأب عليه الروائي في أعماله السابقة.. إنه يثير الأسئلة الصعبة ولا يتردد في تسمية الأشياء بأسمائها محافظا على لغة رصينة وقيمة جمالية عالية.

رواية "الحيوان وأنا" الصادرة عن دار الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة والآثار العراقية بما يقرب من مائتي صفحة كأنها صرخة من أجل الإنسان كما يصفها الناقد المغربي الكبير محمد معتصم الذي كتب مقدمة فريدة لهذه الرواية وعرض لنا أبرز مضامينها السردية لأزمان مختلفة من تأريخ العراق المعاصر والحروب التي خاضها منذ الثمانينات وحتى الآن، حيث تعد أعماله الأدبية الروائية نتاجا إبداعيا سبر أغواره الروائي والكاتب المعروف أمجد توفيق، وغاص في أعماق الوعي الإنساني والسلوكي والمعرفي في حوار كان بين الإنسان وعالم الحيوان.. والأدب والحياة والكرامة ونبذ الحروب وكل أسباب التدمير والانهيار.

يقول الناقد المغربي الكبير محمد معتصم عنها أنها "رواية مضغوطة كتبها صاحبها دون فصول مجزأة لكنها مليئة بالمحكيات السردية، يشد أولها بآخر سابقه، كما يقبض الرأس بذيل الأفعى، في سلسلة لا اهتزاز فيها، في تضافر عجيب يشعر فيه القارئ بالتنقل بين المحكيات: محكي دانيــال علي موسى، محكي أبي رامي، ومحكي موج ونبيل، ومحكي ذكرى وأخيها وزوجته، ومحكي دانيال وذكرى، محكي ظالم، محكي ليل، محكي علي (صديقه باصي)، ومحكي الأصدقاء الحمير، ومحكي دانيال والسجين الهارب...

ويضيف: حيوات تعيش وتروى داخل هذا المتن المركب، لكنها تبدو محكيا واحدا، ينبع من منبع واحد هو ضمير المتكلم العائد على الشخصية الرئيسية دانيال علي موسى اسم العلم الذي يجمع بين الثالوث المتصارع على السيادة والريادة والسلطة في قيادة الشأن العقائدي وهو الصراع الذي نتجت عنه أغلب الحروب وتتخفى وراءه كل المصائب والكوارث (الإنسانية والحضارية).. وهي رواية أنتجها عقل منخرط بوعي في الحاضر والواقع، من أجل بناء مستقبل واضح ومضيء للإنسان الحر ذي الكرامة والفاعل الحيوي في إنتاج المعرفة والأدب والسرد والتاريخ حيث يظهر جليا وعي الكاتب بصيغة الخطاب الذي سينِضُم داخله المحكيات السردية الوظيفية التي تقوم بتوسيع المعنى أو السردية الخطابية التي تقوم بتركيب السرد ومضاعفته موظفا تكرار الضمير المنفصل والمتصل ]+[ للمتكلـم والضميــر المستتـر والمضمـر.

ويحدثنا الناقد المغربي الذي غاص بعيدا في مضامين الرواية ودلالاتها السردية "إنها قمة التراجيديا في صميم الرؤية الفجائعية والسخرية القدرية السوداء التي فاقت الشعور بالعراء تحت السماء العاريــة كما قال باسكال.. إنها عزلة الفرد في المكان وغربة الكائن في الوجود فحَّق للكاتب أن يسخر أن يعد الحيوان أسمى في هذه اللحظة الوجودية - من الإنسان.. وإنها لرواية تنتج المعرفة من خلال الصيغ الخطابية والوظيفية للأدب عامة والسرد خاصة. ومن المحكيات التركيبية والمضاعفة المحكيات التي تؤكد على عزلة دانيال علي موسى في مزرعته مع حيواناته الأليفة (الحصان ظلام والكلب ليل والقطط والدجاجات والأشجار والشجيرات التي توَّسُع سرديا بحضور "موج" فترة من الزمن - ابنة صديقه أبورامي، وهو حضور يضيف إلى المحكيات المتكررة نفحة جديدة فتصبح جولة ونزهة دانيال مع ظالم وليل مختلفة بحضورشخصية جديدة محببة لها طباعها وتأثيرها الأنثوي والحيوي والشاب، والشيء ذاته يقال عن حضور شخصية "ذكرى" للمزرعة حيث ستُحدث ثورة فيها وتمنحها وتمنح دانيال الضابط السبعيني الأرمل المتقاعد مسحة أنثوية لا تتعارض مع رغبته في اعتزال صخب المدينة وضجيج الأحياء.

 رواية أمجد توفيق تدين المعنى الجديد للسياسة والممارسة السياسية في فترة الاحتلال الأميركي للعراق وما تلاه من غلبة المصالح الشخصية والجماعية (المجموعات) على حساب الدولة الوطنية والمصلحة من أجل البناء والعودة إلى حظيرة الدولة المدنية والسيادة من جديد، ليرتبط العراق الحديث بالعراق العريق، وتلتحم حضاريا الثقافة الحديثة بالثقافة الضاربة بجذورها في عمق وصميم تاريخ الإنسانية، وفي ذلك إدانة للحرب والحروب جميعها، وإدانة لعمليات التغيير الديموغرافي التي تحاول بعض الجهات ممارستها في العراق كونها تتنافى والقيم العليا والمثلى لوجود الإنسان، ولمعنى الثقافة والحضارة والعمران.. هكذا يخبرنا الناقد المغربي معمد معتصم.

وأجمل الصور التي أبرز فيها الكاتب أمجد توفيق هذه الظاهرة والحالة الإنسانية، وصف لقائه في إحدى مقاهي لندن بجندي إيراني وحد بينهما شعور "لاجدوى" الحرب.. حرب الخليج الأولى عندما استسلما وغيرهما الإرهاق وأعياهما عبث وجودهما في مكان قفر واكتشافهما أن الحرب التي يخوضانها لا تعنيهما شخصيا، كما أن وضعيتهما تلك دليل على أن لا أحد يهتم بهما أو يعرف بوجودهما. يقول السارد:

 "كان يوما ينتمي إلى الجحيم، وينتمي إلى إنكار مطلق لقيمة الإنسان.. التعب والإعياء والجوع فعلوا فعلهم فكانت البنادق تتساقط من الأيدي والأكتاف.. فالجميع يعيش ونحالة من قهر جعلتهم يفقدون مرة واحدة أي إحساس بالتفرقة بين الصديق والعدو بين من يحارب معهم أو ضدهم"..

وهنا يؤكد الناقد المغربي في مقدمة الرواية أن رواية "الحيوان وأنا.. ليست خطابا فكريا أو نقديا وسياسيا، وإن كانت تنتج "معرفة سردية" تدين جل الخطابات المهادنة البائسة التي تسعى نحو القضاء نهائيا عن آخر معاقل وجود الإنسان، ومقاومته وروح الإبداع فيه والشعلة المتوقدة من عقله وأعلى منارات تاريخه المضيئة ليستسلم للتفاهة ويعلن موته: موت الإنسان البنيوية وموت "نهاية التاريخ" لـفوكو ياما وموت المؤلف وموت الأدب وكلها نهايات تقود نحو نزع شوكة الصراع والمقاومة والدفاع عن الحق في الوجود والبقاء.. إنها رواية جميلة مكثفة "مضغوطة"، كأنها كتبت دفعة واحدة كطلقة احتجاج على هذا المآل والنهايات التي تلي عصر الكارثة ونظريات الموت التي تبشر بها الأفلام الأميركية المتشائمة التي تبشر بالزوال وتبث السموم في النفوس بعد "القيامة الآن" (now Apocalypse) التي هيمنت على المتخيل الغربي "نظرية الكارثة" (Théoriechaotique).

نترك للقراء الإطلاع على مضامين رواية "الحيوان وأنا" للكاتب والروائي المبدع أمجد توفيق.. وهم من سيجدون فيها متعتهم ومآلهم في نصوص أدبية سردية وحكايات تجمع بين "أنا" الكاتب و"الحيوان" الذي أدخله الروائي ضمن سطور روايته كي يشارك المجتمع الإنساني همومه ومشاغله، بالرغم من أن حاله قد يكون أفضل بكثير من حال الإنسان الذي وجه إليه الكاتب سهام نقده، بعد أن وجد فيه من الأطماع والتوجهات الغريبة التي تخلو من معنى إنساني، وقد انغمس في ذاتيته حد القرف، وربما قد اتخذت سلوكياته أنماطا لم يألفها حتى الحيوان نفسه..