الخشاب: قصيدة التفاصيل مصطلح أفضل من قصيدة النثر

توصيف القصيدة باعتبارها محتفية بالتفاصيل وأنها تستخدم لغة شفافة ومعجماً بسيطاً وأحياناً قريباً من العامية. 
إضاءة تجربة شعرية وثقافية جديرة بالتعرف عليها
الناقد بداخلي يقسو على الشاعر الذي يكتب بيدي

عرفت تسعينيات القرن الماضي د.وليد الخشاب ناقدا وأكاديميا ومترجما ومثقفا له حضوره الفاعل وعطاءه المتميز في المشهد الثقافي والإبداعي، حيث شارك في دعم رؤى وأفكار شعراء قصيدة النثر أو قصيدة التفاصيل كما يحب أن يسميها. كما عرفته شاعرا يسعى لخصوصية تجربته، لكنه لم يطبع ديوانه الأول "الموتى لا يستهلكون" إلا في مطلع الألفية الثالثة حيث تعامل مع تجربته بقسوة ربما حذرا من الاستسهال أو خوفا من الاتهام به، حيث كانت تلك الفترة زاخرة بالاتهامات لشعراء قصيدة النثر ونقادها والمدافعين عنها، ويبدو حذره وخوفه استمر حيث جاء ديوانه الثاني "التي" بعد 12 عاما، وديوانه الثالث "قمر مفاجئ"، وأخيرا أصدر ديوانه الرابع "كشك اعتماد" عن دار المرايا الذي احتفل بتوقيعه في معرض القاهرة للكتاب. 
في هذا الحوار مع الخشاب نحاول إضاءة تجربة شعرية وثقافية جديرة بالتعرف عليها، خاصة أنه منذ نهاية التسعينيات سافر إلى كندا حيث واصل عمله البحثي والأكاديمي ليقدم فضلا عن نصوصه الشعرية دراسات مهمة في النقد الثقافي. 
يقول الخشاب: بدأت الكتابة في الثمانينيات لكني لم أنشر ديواني الأول "الموتى لا يستهلكون" إلا عام 2001، وكان الديوان شبه مكتمل قبل نشره بثلاث سنوات. يعني هذا أني انتظرت ما يقرب من عشرين عاماً قبل أن أنشر شعراً، منذ أول قصيدة كتبتها حوالي عام 1983 إلى لحظة ظهور ديواني الأول عام 2001. ثم انتظرت أكثر من 12 عاماً قبل نشر ديواني الثاني "التي" عام 2013. قد يعني هذا ببساطة أني كسول. لكن المؤكد هو أني لا أطمئن لصلاحية قصيدة ما للنشر إلا بعد تمحيص وانتظار قد يدومان سنيناً، خاصة وأنني ناقد وأكاديمي بالإضافة إلى كوني أكتب الشعر. فالناقد بداخلي يقسو على الشاعر الذي يكتب بيدي، ويتحسب من أن يكون النشر متسرعاً. وكم من فترة مرت عليَ كنت موقناً فيها أن أيام الشعر وَلَت إلى غير رجعة، أو أن ما أكتبه ليس بذي قيمة جمالية. وبعد سنين، أعود إلى مخطوطاتي وأُكَوِن حُكْماً أكثر هدوءًا، بذهن أكثر صفاءً، إما بالنشر وإما بالحذف النهائي. أحتاج أن تمر على كتابة القصيدة أكثر من سنة، قبل أن أطمئن إليها.
وحول عنوان ديوانه الجديد "كشك اعتماد" وهو عنوان أقرب لعنوان رواية أو مجموعة قصصية، يضيف الخشاب: لم يدر ببالي أن عنوان ديواني الأخير "كشك اعتماد" أقرب إلى عناوين الروايات، وأظن الملاحظة في محلها. أجتهد أن أختار عناوين دواويني بحيث تبدو جديدة على الأذن، وخارجةً على المألوف في النوع الشعري الذي ينتمي له الديوان. لكن الديوان نفسه هو الذي يفرض عنوانه. عادة ما يكون العنوان عندي عبارة دالة مستخدمة في قصيدة بعينها. عنوان ديواني الأول "الموتى لا يستهلكون" هو أول سطر في قصيدة محورية بالكتاب، وكذلك عنوان ديواني الثالث "قمر مفاجئ" هو بالأصل سطر في قصيدة. وكلمة "التي" التي اخترتها عنواناً لديواني الثاني تتكرر كثيراً في مطلع القصائد بذلك الكتاب.   

Literary dialogue
عنوان أقرب لعنوان رواية 

ويوضح "كُشْك اعتماد" يتمايز بكونه عنوانا لقصيدة محورية بالديوان الأخير الذي يحمل العنوان نفسه، وليس سطراً من قصيدة. الديوان يحمل قدراً كبيراً من الحنين إلى زمن طفولتي في الستينيات وقد نعتبره نوعاً من البكاء على أطلال ذلك الزمن. والكشك في نظري تجسيد لـ "منشآت" الستينيات التي تكاد تختفي في مدن اليوم المصرية، والتي استمر وجود بعضها لكن مع تغير وظيفتها ومعناها من مبنى خشبي بسيط يكفل رزقاً بسيطا لصاحبه من بيع البسكويت والمثلجات إلى "نقطة" ارتكاز في الشارع - لم تعد بالضرورة خشبية - وتبيع منتجات الحداثة الأكثر استهلاكية مثل بطاقات شحن الهواتف. فالديوان يحمل حنيناً إلى عالم طفولتي، عالم الستينيات القاهرية، لكنه يحمل كذلك وعياً بتغير شكل الحياة وجغرافية المدينة الرمزية، بفعل تطورات التحديث والعولمة. وبالمناسبة، فشخصية "اعتماد" في الديوان شخصية حقيقية، وكانت تمتلك بالفعل كشكاً أمام حديقة منزلنا الخلفية، وكانت بطلة لمأساة حقيقية يحكيها الديوان. أراني أتحدث عن "شخصيات" الديوان رغم أنه ليس عملاً روائياً. لكنه يحتوي على قدر من السرد، فهو في جانب منه سيرة ذاتية لطفولتي وشبابي وبالتالي يلتقي قارئه بشخصيات "وليد" الطفل والأم والجد والجدة إلخ. التي يتواتر ظهورها من قصيدة إلى أخرى.
ويشير الخشاب: طيلة حياتي الأكاديمية، قاومت استخدام مصطلح "قصيدة النثر" للإشارة إلى القصيدة العربية المتحررة من المجاز التي برزت بقوة مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات المصرية، لأن المصطلح لا يتطابق مع ما يسميه النقد الأوروبي "قصيدة النثر" في الفرنسية والإنجليزية. فالأخيرة مقصود بها ببساطة قصيدة مصفوفة صفَ النثر، ذات جمل طويلة وفقرات متعددة. لكني أتفهم غلبة مفهوم قصيدة النثر على المشهد الشعري العربي، وأحتفي بتناسب تلك العبارة مع جماليات القصيدة التي سادت منذ التسعينيات: قصيدة تقتصد في الانفعال وتحتفي بالتفاصيل وتتجنب الإفراط في المجاز، ولذلك أستخدم عادة تعبير "قصيدة التفاصيل". 
أتفق مع توصيف تلك القصيدة باعتبارها محتفية بالتفاصيل وأنها تستخدم لغة شفافة ومعجماً بسيطاً وأحياناً قريباً من العامية. وبهذا المعنى، أزعم أن دواويني تنتمي بوضوح إلى قصيدة التفاصيل، لا سيما الديوانين الأول والرابع. "كُشْك اعتماد" يحمل صوت طفل يصير صبياً يتأمل مدينة الستينيات والسبعينيات بعين ساذجة، يطرح تساؤلات تخلق مفارقة بين الخطابات المعتمدة عن هذين العقدين، وبين وعي كهل تجاوز الخمسين في يومنا هذا. لذلك تتناسب جماليات اللغة التقريرية البسيطة مع التوجه الجمالي للنص.
ويلفت الخشاب إلى أنه: كقارئ وكاتب للشعر، ربما تأثرت بشكل غير واعٍ بجماليات القصيدة عند بعض الشعراء الغربيين، مثل الفرنسيين إليوار وبريفير، وهي جماليات قريبة من سمات قصيدة التفاصيل: معجم بسيط، صور غير مألوفة لكن تبتعد عن المجاز المعقد، إيجاز شديد في العبارة، وبناء يعتمد على تفاصيل عادية أو يومية. لذلك كثيراً ما أقول إن أنسي الحاج ومحمد الماغوط ليسا وحدهما ضمن آباء قصيدة النثر العربية، بل إن الترجمات العربية لناظم حكمت وبريشت ونيرودا ولوركا، بالإضافة إلى فيرلين وإيلوار وبريفير تنضم إلى قائمة "أسلاف" تلك القصيدة العربية. مع ملاحظة أن التفات هؤلاء الشعراء إلى قضايا اليسار لم يكن هو ما انتقل لقصيدة نهايات القرن العشرين في العالم العربي، بل إن تأثيرهم كان يتمثل في النظرة للتفاصيل دون الكليات، وللمفردات والتراكيب السهلة اليومية. هذا تصوري عن الشعر الذي أكتبه والشعراء الذين أحب أن تتلمس قصائدي خطاهم. لكن ذائقتي كناقد وأكاديمي تتسع للاستمتاع بجماليات متباينة ومتناقضة من التراثات الغربية والعربية، قد لا تنعكس على كتابتي، أو قد تظهر على شكل مداعبات وتحيات. لا أخجل من لذة قراءة كلاسيكيات غربية للفرنسيين مالارميه أو فاليري رغم استخدامهما لمعجم معقد وإغراقهما في الإلغاز أحيانا. كما لا أستحي من احتفائي بشعر المتنبي وشوقي، رغم ابتعاد ما أكتب عن عالمهما، وإن كنت قد استمتعت بمداعبة بعض أبياتهما المشهورة في ديوان "قمر مفاجئ".
ويوضح الخشاب "قبل سفري إلى كندا في نهاية التسعينيات، كان إنتاجي النقدي محصوراً في تحليل منتجات ثقافية أدبية وسينمائية، وكثيراً ما ركزت دراساتي على ظاهرة تفاعل النصوص بعضها مع بعض في الاقتباس، مثلاً بين الأدب والمسرح، أو بين الرواية والسينما، أو في التناص الأدبي، مثلاً بين مسرحي العبث في أوروبا ومصر. منذ استقررت في كندا، وبالتوازي مع تقدمي في دراسة الدكتوراة ثم مناقشتها، بدأ أفق اهتماماتي الأكاديمية في التوسع، في إطار شغفي بالنقد الثقافي. مازلت مهموماً بقضية الاقتباس بوصفه نموذجاً أساسياً في التفاعل الثقافي بين العرب والغرب، حيث إن نقل الحداثة من الغرب إلى العالم العربي قد تم من خلال اقتباس العرب لأساليب الحياة ولأدوات الإدارة والحكم وللقضايا الفكرية والأنواع الفنية والأدبية الغالبة في الغرب. وكتبت عدة دراسات في هذا المبحث عن اقتباس الواقعية في السينما العربية وعن ارتباط مفهوم التنوير بالاقتباس في مرحلة النهضة العربية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث إن الاقتباس يعني حرفياً نقل النار (أو النور). 
وكذلك أحتفي بتراث الصوفية كنموذج للتفاعل بين الفرد والجماعة دون الاعتماد على وساطة الدولة، وكمصدر للفرح يجد في الشوق لذة وبهجة، على نحو يغاير مفهوم الفرح الحديث المرتبط بالقدرة على اقتناء الأشياء واستهلاك السلع. وكتبت في هذا المحور عن مفهوم الرحلة عند ابن عربي وعن مفهوم الوساطة والشرع عند ابن عربي وابن القيم. 

ويضيف: للوهلة الأولى قد لا تبدو الصلة واضحة بين هذه الهموم الأكاديمية وعوالم دواويني. لكن الواقع أن قضية الحداثة وتغيرات العالم بفعل التحديث المتواصل هي إحدى القضايا المركزية في كافة دواويني. في "الموتى لا يستهلكون" أتأمل تحولات القاهرة، وتبدل شكل بعض أحيائها حتى يشبه بعض أحياء مدن أميركية حديثة، من حيث هيمنة رأس المال عليها وتطبيعها بطابع التسليع والميكنة وتوحيد المناظر. كذلك في ديواني الأخير "كُشْك اعتماد"، يتتبع الصوت الشاعر تاريخ بعض شوارع القاهرة الإسلامية والقاهرة الحديثة، ومعالمهما، راصداً قيمتها الرمزية وتداعيات التغيرات التي طرأت عليها عبر العقود العشرة الماضية. أما اهتمامي بالتراث الصوفي فلم تفصح عنه إلا قصائد قليلة نشرت في مجلات، مثل "الثقافة الجديدة"، لأني حريص على مزج تيمة تجلي القدرة في الطبيعة، مع التأمل في ما وراء العالم، بقيمة الإيجاز الأسلوبي والتكثيف، حين تتملكني الرغبة في كتابة هذا اللون الشعري. الكتابة المتصوفة تحبسها عندي المفارقة بين غزارة التراث المعني والحرص على تجنب الثرثرة في إنتاج يسعى إلى ألا يكرر ما كتبه السابقون. 
ويتابع الخشاب: أعتز بتجربتي في ترجمة كتاب "مدخل إلى الشعر الشفاهي" لبول زومتور الذي صدر عام 1999 عن دار شرقيات، فهو سِفْرٌ وكتاب عُمْدة في ذلك المجال، وأظنها أنضج تجاربي في الترجمة. لفت سؤالك نظري إلى أنني كنت أترجم الكتاب بالتوازي مع كتابة القصائد التي ضمها ديواني الأول، وأن الديوان قد اكتمل في الوقت نفسه الذي اكتملت ترجمتي لكتاب الشعر الشفاهي، وما تأخر صدور الديوان عن وقت صدور الترجمة إلا بسبب عادتي أن اتأمل مخطوطة ديواني لعام أو أكثر بعد اكتمالها، حرصاً على تنقيحها وتصفيتها مما لا طائل منه في الشعر. 
لا أعي تأثيراً لنظرية زومتور في الشعر الشفاهي على كتابتي وإن كنت أتعاطف فكرياً مع تعريفه الواسع للشعر، الذي لا يقتصر على ما هو مكتوب ومنشور في صورة طباعية، بل يدخل فيه ما قد يسميه البعض بالأغاني والأهازيج والإنشاد، وهو يلمس بذلك عصباً حساساً عند الشعراء المعاصرين، إذ يذكرنا بأن الشعر في أصوله عند الإغريق القدماء كما عند عرب الجاهلية كان شفاهياً، وأن تداول الشعر كان يعتمد أساساً على أدائه الحي بين الناس. ظهر كتاب زومتور قبل ظهور الإنترنت وقبل تشجيع منصات التواصل الحديثة وموقع يوتوب على عودة الشعر العربي لحالة شفاهة "بدائية" أو مبدئية، لكنه يساعدنا في فهم وتثمين الجانب الشفاهي في الشعر اليوم، وقيمة تداوله لفظاً لا طباعةً. وأزعم أني أعتني بهذا الجانب في قصائدي. فلا أكتفي بضبط إيقاعها الحر في الصف الطباعي وإنما أعدل فيها حتى تستقيم مع الأذن السامعة إذا أُلْقِيَت جهراً.