الديمقراطية ليست ثيابا جاهزة لنرتديها
قيل سابقا أن لا ديمقراطية من غير ديمقراطيين. وحين تتخلى المعارضة ما أن تصل إلى السلطة عن مطالباتها بالديمقراطية فذلك أمر لا يتنافى مع تقاليد العمل السياسي في العالم العربي. ومما يدعو إلى السخرية أن الشيوعيين العرب المبشرين بديكتاتورية البروليتاريا هم أكثر جهة تتشدق بالحديث عن الديمقراطية. كذلك يفعل حاملو لواء الإسلام السياسي. غير أن سنة واحدة من حكم الإخوان في مصر كشفت حقيقة ميلهم إلى الانفراد بالسلطة وممارسة العنف ضد خصومهم يسبب أو من غيره. كما أن تجربة حركة النهضة في تونس تؤكد أن زعماء وافراد تلك الحركة إذا استولوا على السلطة فإنهم يعيثون في الأرض فسادا ويعرضون أمن المواطن والوطن للخطر ولا يمنعهم وازع إنساني أو وطني أو أخلاقي من القيام بأي شيء من أجل إبقاء السلطة في قبضتهم.
تلك الازدواجية ما بين الدعوة إلى الديمقراطية وبين إزدرائها هي التجسيد الأمثل للنفاق السياسي الذي يُراد منه تضليل الشعب عن حقيقة ما يحتاج إليه واللعب بعواطفه من خلال بيع بضاعة غير مرئية مثل ثياب الملك في قصة اندرسون الشهيرة. فلا أحد في العالم العربي، يقف المثقفون في المقدمة في إمكانه أن يهبنا برهانا واحدا على سلوكه الديمقراطي. والديمقراطية ليست مجرد أفكار سياسية، بل هي سلوك اجتماعي وسياسي وثقافي. وإذا لم يكن العرب ديمقراطيين فليس العيب فيهم بشكل مباشر، بل في تاريخهم الذي لو نبشنا أرضه مترا مترا لما عثرنا على أثر لجذر واحد مشت في عروقه مياه الديمقراطية ودموعها.
حين غاب جمال عبدالناصر عن المشهد السياسي بوفاته تفنن الكثيرون في هجائه بطرق بذيئة، كونه لم يكن ديمقراطيا. فهل استشار أنور السادات أحدا حين ذهب إلى إسرائيل عام 1977 وهل عرض الموضوع وهو يتعلق بمسألة مصيرية على الشعب باستفتاء عام؟ لم يكن الرجل يؤمن بالديمقراطية ولا خلفه. كارثة تجر أخرى. فحين قام صدام حسين بغزو الكويت فإنه لم يخرج عن تقاليد حكمه الفردي بمعزل عن الشعب وحتى عن مَن يحيطون به من أعضاء ما كان يُسمى بالقيادة وهم ليسوا سوى منفذين لأوامر القائد يمكن الاستغناء عنهم برمشة عين.
لقد عبث الرجل بمصير العراق وداس بقدميه كل المبادئ القومية التي آمن بها ومن ثم فتح أمام الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة أبواب جهنم التي لن تُغلق في وقت قريب. وبرغم ذلك فإن مواجهته للموت بشجاعة استثنائية أشاعت مشاعر استثنائية لدى جمهور عربي عريض لا ينحى باللائمة عليه فيما حدث ويركز على المؤامرة الكونية التي استهدفت العراق من خلال إغراء رئيسه باحتلال الكويت. ليس في إمكان العراقيين إقناع أخوتهم العرب أن الخراب الذي صنعه الرئيس الراحل بكل ما انطوى عليه من ضعف وهوان وحط من كرامة الإنسان العراقي وهزيمته على المستوى الإنساني قد أغرى الأميركان باحتلال البلد الذي كان معارضو نظامه يطالبون بدمرقطة شعبه.
في حياته سخر صدام حسين مرات عديدة من الديمقراطية. لم يتخيل إمكانية أن يحل شخص آخر محله على كرسي الرئاسة. لقد خُلق رئيسا. وبغض النظر عما يرتكبه من أخطاء فإنه سيبقى رئيسا. وحين أوصى الرئيس حافظ الأسد بالرئاسة لولده بشار فإنه كشف عن ثقته المطلقة بأن قيادة سوريا قد حُسمت لآل الأسد. ولم يتحرك الشعب السوري احتجاجا على تلك الوصية إلا بعد أكثر من عشر سنوات من البدء بتطبيقها ولم يطالب بإلغائها إلا بعد أن تسبب الأسد الإبن في إشعال حرب مدمرة حين لجأ جيشه إلى السلاح في مواجهة محتجين سلميين.
في كل النزاعات السياسية بين الحكم ومعارضيه تُرفع شعارات الديمقراطية ولكن الأحداث قد أثبتت أنها شعارات مضللة يُراد منها تزييف الهدف الحقيقي للصراع وهو الاستيلاء على السلطة. فجماعة الإخوان المسلمين مثلا حكمت مصر سنة واحدة، مارست فيها كل صنوف العنف وكانت في طريقها إلى فرض الشريعة على المجتمع المصري الذي تجهل شرائح كثيرة منه أن تلك الشريعة ستنغص عليها كل سبل الحياة. ولولا تدخل الجيش لكانت مصر في طريقها إلى حرب أهلية، يمكن أن تنتشر في كافة أنحاء العالم العربي. ولكن هل المطلوب من الجيش أن يكون ديمقراطيا؟
كذبة الديمقراطية التي هبطت على العراق بالمظلات الأميركية لم تعد خافية على أحد. غير أن الواقع يؤكد حقيقة أن شعوبا عاشت في ظل حكم الفرد الواحد آلافا من السنين لا يمكن أن تقهم ما الذي تعنيه الديمقراطية. للتاريخ حكمه وحكمنه وعلينا أن ننصت إليه.