الراديو يطالب بترويض الأنا الساحقة للتلفزيون


الدرس الإذاعي لا يمكن أن يقدمه التلفزيون في كل ألمعيته للجمهور، لذلك تبدو الحاجة ماسة لإنهاء احتكار التلفزيون، فالأذن أيضا تبصر، عفوا أيتها العين!
البوم العالمي للاذاعة

لا أملك إحصائية عن تأثير الإذاعات العربية على الجمهور في عالمنا العربي، مثلما كان تأثير إذاعتيْ “بي.بي.سي” ومونتي كارلو في القرن الماضي. لكن الحديث غالبا ما يخفُ ويصبح هامشيا عن الإذاعات العربية وسط التدفق التلفزيوني الهائل.

هل مازال الجمهور يستمع إلى الإذاعات العربية؟ ربما لدى سائقي السيارات إجابة معقولة لأنهم أكثر من يستمع للإذاعات، لكن ربات البيوت مازلن يحتفظن بإخلاصهن للإذاعات، الإذاعة رفيقة المنزل في النهار، وربما لا يخلو مطبخ من صوت الراديو بغض النظر عن نوعية برامجه إن كانت للتسلية أم للمنوعات أم للحوار السياسي، مع أن الشأن السياسي ليس جادا في أغلب الأحوال في وسائل الإعلام العربية ومن بينها الإذاعات، مازال الجمهور العربي لا يثق بإعلامه عندما يتحدث عن وضع البلاد السياسي.

تهميش الإذاعة لا يبعث على أي أمل إعلامي، لأنها مازالت تمتلك فكرة الدرس الأول في صناعة الرأي والتأثير على الجمهور، لذلك احتفلت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، هذا الأسبوع بـ اليوم العالمي للإذاعة، معلنة وجود نحو 44 ألف محطة إذاعية حول العالم.

احتفى بيان اليونسكو بالتاريخ الإذاعي لما تضطلع به هذه الوسيلة المسموعة من دور هامّ، مؤكدا أن الإذاعات “تواصل الاحتفاظ بدورها الإخباري باعتبارها إحدى أهم وسائل الاتصال في العالم، حيث ساهم التقدم التكنولوجي في احتفاظ الإذاعات بأهميتها، وذلك لسهولة الوصول إليها سواء عبر الكمبيوترات أو الهواتف الذكية”.

لا تبدو هذه المناسبة متأخرة لإعادة المطالبة بدعم قيام الراديو بترويض الأنا الساحقة للتلفزيون، الأمر لا يتعلّق بالمنافسة، بقدر ما يتعلّق بوظيفة مختلفة للراديو، على الأقل فيها ما يستدعي الحنين. لأن الإذاعات أرّخت في ذاكرة الجمهور لوقائع سياسية ولهفة لمعرفة ما يجري من أحداث، مثلما كانت معبّرا عما كنا نذوب ولها فيه من أغان وأصوات، يكفي أن نذكر هنا أن مباريات كرة القدم كانت تنقل مباشرة عبر الإذاعة وكأننا نرى أداء اللاعبين بمسامعنا!!

لسوء الحظ لا يمكن أن نجد اليوم مثالا عربيا كالذي عرضه توماس فريدمان عن علاقة زوجته بالراديو، فهي مولعة ببرنامج صباحي يضع مجموعة خيارات أمام المستمعين من أجل الاتفاق على خيار واحد، هذه الزوجة الأميركية تستمع للراديو وهي تعدّ الإفطار لأسرتها، الأمر الذي تحوّل عند أفراد الأسرة إلى شغف بالراديو أكثر من انتظار الطعام!

تعلم فريدمان أفكارا من هذا البرنامج الإذاعي الشعبي، ليعيد توظيفها في مقالاته السياسية. من المفيد الإشارة هنا إلى وجود 11 ألف محطة إذاعية في الولايات المتحدة.

هذا الدرس الإذاعي لا يمكن أن يقدمه التلفزيون في كل ألمعيته للجمهور على الأغلب، لذلك تبدو الحاجة ماسة لإنهاء احتكار التلفزيون، فالأذن أيضا تبصر، عفوا أيتها العين!

لا امتلك مثالا إذاعيا عربيا يجعلني قادرا على الدفاع عن فكرتي من أجل استمرارية وتطوير محتوى الراديو، لكنني مثل عدد كبير ممن يستمعون إلى الإذاعات في بريطانيا، لا أخفي شغفي ببرامج الإذاعة مفضلا إياها غالبا على التلفزيون.

هناك درس معرفي فذ تقدمة هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي- راديو 4” يتجاوز الحدود الجغرافية، وتكاد تصنّف برامج هذه المحطة ضمن مستوى الثقافة العالية المتمثلة بالمسرح والأوبرا والموسيقى الكلاسيكية والصحف ذي المسؤولية العالية، مقابل ما تمثله الصحافة الشعبية ومحطات موسيقى البوب وكرة القدم بوصفها ممثلا للثقافة السائدة.

مازال هذا الدرس في “بي.بي.سي راديو 4” مستمرا، لكن وجد من ينافسه بشكل مثير متمثل بمحطة LBC” Leading Britain’s Conversation”، تلك الإذاعة الخاصة التي تقدم سلة يومية من المحتوى السياسي عبر الحوار المستمر الذي يقرّب علاقة الجمهور مع الحكومة ومؤسسات الدولة في ديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات.

برامج تلك الإذاعية لا تتوقف عن أطلاق الأسئلة، مثلما لا تتردد عن أيجاد حزمة إجابات لها سواء من قبل السياسيين أنفسهم أو الجمهور، لذلك تستمر هذه الإذاعة لتكون موضوع اهتمام الجمهور.

وهذا سبب كاف يجعلها تحقق 1.2 مليون مستمع لطبقها الإخباري التحليلي، مع أنها لا تنافس في ذلك الإذاعات الشعبية والمنوعة، ولكي نكون عادلين، وفق فيليب ستيفنز الكاتب في صحيفة فايننشيال تايمز “كان هناك على الدوام توتر بين الإبداع والشعبية. وكان على (بي.بي.سي) منذ فترة طويلة أن توازن بين البرامج عالية النوعية، مقابل الحاجة إلى جماهير كبيرة تكفي لتبرير وضع ضريبة شاملة”.

مثل هذا الأمر لا ينطق على المحطة الإخبارية التحليلية “LBC” التي تكاد تمثل نموذجا للنجاح الإذاعي في الزمن الرقمي.

اليوم كبار السياسيين البريطانيين يفضلون التحدث إليها والاستماع لبرامجها الحوارية، لأن ثمة جديدا يأتي منها وبشكل دائم.

العصر الرقمي ليس إذاعيا بامتياز، يمكن إلا نختلف على ذلك، لكن التفريط بهذه الخدمة الجليلة التي قدمت للبشرية منذ بدايات القرن الماضي، تنهي مساحة تاريخية مؤثرة في ذاكرة أجيال، يفترض أن تستمر بمحتوى مختلف وعصري.

الراديو اليوم حل سحري في قرى ومدن متباعدة، وفق بيان اليونسكو الذي ذكر أن 83 بالمئة من سكان تنزانيا، و85 بالمئة من سكان زامبيا، يحصلون على الأخبار عبر الإذاعات.