'الرحلة إلى مكة': ابن بطوطة العصر الحديث

الكتاب يمكن اعتباره من الكتب المفيدة والمسلية في الوقت نفسه إذ ينقل لنا عبر قلم أحمد محمود أبوزيد تجارب آخرين طافوا وجالوا في منطقة زارها كثيرون، وما زال كثيرون يتوقون لزيارتها.

من أهم فنون الأدب العربي، أدب الرحلات، حيث يرتبط بالصورة الأدبية والبحث والاكتشاف والوصف، وغير ذلك مما يجعله من أمتع الفنون الأدبية وأقربها إلى النفس.

هذا ما يود أن يقوله أحمد محمود أبوزيد في مقدمته لكتابه "الرحلة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة..أدباء ورحالة ومؤرخون وعلماء في الحجاز".

أبوزيد يرى أن للرحلة إلى الأراضي الحجازية مكانة خاصة في التاريخ والسِّيَر وأدب الرحلات، إذ ترتبط بأشرف بقاع الأرض على وجه الأرض وأطهرها. كذلك يذكر أبوزيد أن الحضارة الإسلامية قد شهدت في ذروتها رحلاتٍ لأدباء وعلماء وجغرافيين غادروا ديارهم وجازفوا بأرواحهم ليسيروا في أطراف الأرض وأكنافها، وليكشفوا عن المجهول في البلدان والأمصار، خدمة للعلم والمعرفة.

الكتاب يمكن اعتباره بداية من الكتب المفيدة والمسلية في الوقت نفسه، إذ ينقل لنا عبر قلم أبوزيد تجارب آخرين طافوا وجالوا في منطقة زارها كثيرون، وما زال كثيرون يتوقون لزيارتها. الكتاب يضم مدخلًا تسبقه مقدمة المؤلف ثم فصليْن، يتحدث أبوزيد في أولهما عن أدباء وشعراء رحلوا إلى الحجاز، بينما يتحدث في ثانيهما عن رحالة ومستشرقين في بلدان الحجاز.

أبوزيد بعد أن يؤكد على أهمية كتب الرحالة ابن جبير وابن بطوطة والإدريسي وياقوت الحموي، بسبب دقتها وأهميتها العلمية، وهي في جملتها وصف إنسان لأسفاره وما شهد فيها من أرض وبلاد وأمم ودول وملوك وعلماء وعادات وأخلاق، يعود ليؤكد على أن رحلات الأدباء والعلماء والمفكرين والرحالة والمؤرخين إلى الأراضي الحجازية تكتسب بريقًا خاصًّا، إذ يحرص كل من يقوم بهذه الرحلة على تسجيل مشاهداته بلغة أدبية شائقة تجذب العقول والأفهام للاطلاع على ما في الحجاز ومدنه المقدسة من آثار. ولقد حرص الأدباء والرحالة مسلمين وأوروبيين عبر العصور على زيارة مكة والمدينة المنورة وتسجيل انطباعاتهم عن هذه الأراضي المقدسة وما شاهدوه فيها من أشكال العيش وصنوف العبادة، كما سجلوا ما تكبدوه من مشاق ومخاطر في طريقهم إليها.

أبوزيد يرصد في كتابه هذا أربع وثلاثين رحلة حجازية لمجموعة كبيرة من الأدباء والشعراء والعلماء والمؤرخين والرحالة العرب والأوروبيين منهم محمد حسين هيكل، إبراهيم عبد القادر المازني، عبد الوهاب عزام، عباس محمود العقاد، عبد الرحمن الكواكبي، أنيس منصور، مصطفى السباعي، محمد حسن الزيات، مصطفى حمام، إلى جانب رحلات ابن جبير الأندلسي ، المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس، الرحالة والمستشرق الايرلندي رتشارد بيرتون، الرحالة الانجليزي تشارلز داوتي والرحالة الفرنسي جرفيه كورتلمون، إضافة إلى رجاء جارودي ونعمات أحمد فؤاد وزينب كوبولد.يستهل أبوزيد فصل كتابه الأول بحديثه عن أنيس منصور وأيامه في الأراضي المقدسة فيذكر أنه كاتب وأديب ورحالة، وهو واحد ممن اشتهروا بأدب الرحلات في القرن العشرين، بل يأتي على رأس الرحالة المعاصرين الذين اهتموا بالسفر والترحال لمعظم دول العالم، درجة أن البعض يعتبره ابن بطوطة العصر الحديث.

أنيس منصور سافر كما يروي أبوزيد إلى بلاد كثيرة شرقًا وغربًا، وطاف حول العالم، وشاهد ودرس حياة شعوبه وعجائب مخلوقاته من أعلى المستويات الحضارية إلى أدنى المستويات البدائية، وألّف عدة كتب دوّن فيها مشاهداته وما رآه من عجائب وغرائب.

أبوزيد يرى أن أهم رحلة في حياة أنيس منصور هي رحلته إلى الحج التي حاول خلالها الوصول إلى ما يهدي قلبه وعقله من مشكلات الفكر والعقيدة، إذ اعتبرها خاتمة المطاف أو شاطيء النجاة بعد كل الرحلات الطويلة في أطراف الأرض وأعماق الفكر.أبوزيد يقول إن منصور سئل عقب رحلة الحج: كيف تجد نفسك الآن؟.. فأجاب قائلًا إن السؤال صعب، لكنه يستطيع أن يقول إنه كان صحراء قاحلة، والآن أصبح فيها ماء.ثم يتساءل منصور مرة أخرى فيقول "هل كان عالمي بلا إله، فأصبح لي إله، أو الله وهو الأصح؟".

هل كان عالمي بلا إله، فأصبح لي إله، أو الله وهو الأصح؟

أبوزيد يذكر أن رحلة منصور هذه قد سجل تفاصيلها في كتابه أيام في الأراضي المقدسة، أو طلع البدر علينا، وكانت رحلة من الشك إلى اليقين، ومن الحيرة إلى الاهتداء، ومن حياة فارغة إلى حياة مليئة بالقيم والمباديء النبيلة التي تمنح النفس الطمأنينة والسلام النفسي والروحي.

ومتحدثًا عن مصطفى السباعي يقول أبوزيد إنه عشق أرض الحجاز وارتبط بها، ولهذا كان لها مكانة خاصة في كتاباته وأدبياته، وخاصة كتابه هكذا علمتني الحياة الذي يتحدث في جزء منه عن فلسفة الأعياد في الإسلام.

أما حين يتحدث أبوزيد عن رحلة نعمات أحمد فؤاد فيقول إنها من القمم الفكرية والأدبية التي برزت في القرن العشرين، وهي من الأدباء والمفكرين المصريين الذين رحلوا إلى أرض الحرمين وانبهروا بما شاهدوه في أرض المقدسات، وسجلت ما شاهدته في كتابها رحلة الشرق والغرب، إضافة إلى مجموعة كبيرة من الرحلات التي قامت بها إلى مختلف دول العالم وشملت أوروبا وأمريكا وتركيا وقبرص وفرنسا وإنجلترا والمغرب والسودان وتونس وليبيا.

نعمات تصف رحلتها إلى الحجاز بأنها رحلة بيضاء، سياحة في داخل النفس وخارجها، في المكان والزمان، لتكون الرحلة نبضًا إنسانيًّا خلّاقًا ودافئًا بمشاعر الأمل والألم والإشادة والنقد والتطلع والاستطلاع والإضافة والطموح.

أما عن رحلة محمد كامل حته ، فيقول أبوزيد إنه واحد ممن تعددت رحلاتهم إلى العديد من البلدان، وأسهموا في إحياء أدب الرحلات، إذ قام بعدة رحلات إلى المملكة العربي السعودية وفلسطين وسوريا والعراق والسودان والجزائر، وأصدر عدة مؤلفات في التاريخ والاجتماع والتراجم وأدب الرحلات، أهمها كتابه في ظلال الحرمين الذي يعد من أهم كتب الرحلات الدينية ويقدم حصيلة رحلات الكاتب إلى الحجاز على مدى ربع قرن، ويعرض فيه ألوان الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.وهكذا، ومن صفحة إلى أخرى ينقل لنا أبوزيد رحلة لأحد الرحالة الذين طافوا بلدان العالم في أسلوب سردي جميل وممتع.