الرقص والحياة

الرقص حركة تقوم بها الروح، وعلى الجسد أن يتعاون ويخضع لها وحين تخاطب نفسك بلغة تفهمها فتبدأ هي بالتعبير والرد على الأسئلة يكون الرقص هو المحور الذي يدور حوله الزمن.

منذ الأزل كان الإنسان يحاول التواصل مع محيطه بهدف تلبية احتياجاته، وكلما نجح في التعبير عن هذه الاحتياجات كان نجاحه في الحصول على مبتغاه أكبر.
 يتغير الوسيط الذي يقيم من خلاله الإنسان التواصل مع العالم حسب التجربة، فإن كان العالم مستجيبا تتعزز قوة الوسيط الذي استخدمه. تختلف، مثلا، اللغة المستخدمة ويختلف انتقاء المفردات باختلاف الهدف. كما يعتمد ذلك كثيرا على الآخر "المستهدف".
يبقى التواصل مع الآخر تواصلا له غاية مادية غالبا، لكن عندما يكون الهدف إشباع الروح واحتياجاتها، عندها نبحث عن طريقة فيها تجنيدٌ للروح ذاتها، فهي الأعلم بكيفية الحصول على ما تريد. 
وبمساعدة الحواس المبدعة كان الفن بأنواعه: الرسم وكتابة الشعر وغيرهما، فنحن نعلم أن ما تريد قلوبنا قوله ليس من السهل التعبير عنه بمخزون المفردات التي اعتادت خدمتنا سابقا.
الفن يحرّر الروح ويجنّدها لابتكار وسيط يستطيع الوصول إلى الآخر. وإذا فكرنا فيها جيدا، ندرك أن هدفنا ليس دائما التواصل مع الآخر، بل إن الآخر كان مجرد إشارة تجعلنا نلاحظ أنفسنا وحاجتها للتواصل معنا.
كلنا نوافق على أنّنا نتكوّن من روح وجسد، بعضنا قد يوافق على أننا، ككينونة، روحنا وقد اخترنا، أو فُرض علينا، هذا الجسد، والأمر لا يغيّر كثيرا من واقع التزاوج الموثّق بين الروح والجسد.
 وبعضنا الآخر قد يقول إنّنا الجسد الذي يحمي ويؤوي هذه الروح بكامل المحبة، أو كوظيفة فُرضت عليه ويتمّها بأمانة. النقاش هنا شائك ومركّب. في النهاية، المهم في الموضوع أن علينا إيجاد وسيلة للتواصل بين روحنا والجسد الذي تسكنه، وإلا فإنّ أيّ خلل في هذه العلاقة المؤقتة بتوقيت الجسد ستجعل الحياة صعبة على كليهما. العلاقات تنجح بالحوار، أي بالسماح للآخر بالتعبير عن نفسه وعن احتياجاتها.
عندما يطلب الجسد شيئا يكون التعبير عن هذا الطلب بواسطة ما جمعه من خبرة خلال حياته، ومن خلال معرفته بالعالم الذي يعيش حوله (باعتبار الجسد مركز الكون) فإن تلبية طلبات الجسد تكون فوريّة بالعادة. أمّا الروح فإنها تحتاج إلى استخدام هذا الجسد أحيانا للتعبير عن مكنوناتها، إمّا بالكتابة، أو بالرسم أو بتحقيق الإنجازات أو باللعب وأحيانا بالرقص.
حين تخاطب نفسك بلغة تفهمها فتبدأ هي بالتعبير والرد على الأسئلة، يكون الرقص هو المحور الذي يدور حوله الزمن، من أجل أن ترقص عليك أن تخصص الوقت لنفسك، أن تفتح قلبك للموسيقى وتسمح لها بالسيطرة على حواسك. الرقص هو حركة تقوم بها الروح، وعلى الجسد أن يتعاون ويخضع، وإلا لن تأخذ منها ما تسأل. على الجسد أن يسمح للروح باستخدامه، وعليه أن يكون متعاونا من أجل اكتشاف بعد جديد تريد الروح أن توصله إليه.
طاعة الجسد للروح هو تعبيرٌ عن حبّ الجسد لروحه، والإبداع في الرقص يكون تعبيرا عن حبّ الروح لهذا الجسد. الحبّ هو طاقة متبادلة كما هي الطاقة الكهربائية، فلا يمكن أن تكون موجودة إلا بشرط وجود شحنتين على الأقل في المنطقة نفسها، فإذا أبعدنا إحداهما من مجال الأخرى لن تكون الطاقة موجودة أبدا. يولد الإنسان بالحبّ بين روحه والجسد، ويبدأ بالرقص في الأشهر الأولى لحياته، حيث يكتشف قدرات جسده على الحركة، وتوظيف الأعضاء المختلفة للتواصل مع ما يحيط به بكثير من الشغف وحب الاستطلاع ويكون ذلك، بالتأكيد، بمساعدة الروح. الحركة هي سر الحياة، والسرّ فيها هو قوّتها على جذب انتباه العالم لها.
ترقص المرأة مدركة لأهميّة تواصلها مع جسدها، لأنها إن لم تفعل، أي إن لم تجنّد هذا الجسد لتعبّر عن روحها، فإنها ستختنق وتذبل، ولن تقدر على العطاء، بل تفقد، على الغالب، الصلة مع العالم من حولها فتقبع فيه سجينة أفكارها الحائرة تتخبط كالأمواج داخل "تلك القوقعة" البحرية.
الخروج من الإطار المحدّد لرؤيتنا ونمط تفكيرنا
عندما نسمح للروح بالتعبير عن ذاتها، تقوم هي بتجنيد الخيال، فبالخيال تحلّق الروح إلى مستويات لا يصلها الجسد، وتحاول هي حثّه على التحليق إلى أسبار الخيال عن طريق الرقص. بالرقص يعبّر الجسد عن أبعاد أخرى في روحه، فتراهُ يقفز تارة محتلا الفضاء بكلّ جرأةٍ، وتارة يختلس النظر إلى أعماق هذه القوقعة باحثا عن صوت الموج المختبئ هناك في الداخل البعيد. الأمواج التي تحاول الهروب من الأعماق لتخبر الشاطئ بما تحمل من أسرار ساحرة.
المرأة والرقص
النساء كائنات تحتاج إلى التعبير عن ذاتها أكثر من حاجتها للتنفس، ولذلك تجد المرأة نفسها في الرقص ملكة في عالم لا يمكن لأحد الاقتراب نحوها، أو تهديد استقرارها، فهي من يُسيطر على جسدها وتنسجُ به لنفسها تلك المملكة التي حلمت بها عند ولادتها. روح المرأة هي روح ملوكية وليست روحا خادمة بسيطة، فالمرأة تدرك بالفطرة كمّ القدرة التي لديها لإنجاز أيّ عمل على هذه الأرض، فهي من تلد الأرواح الأخرى، بل تدرك جيدا قدرتها على توليد المشاعر لدى الآخرين.
في هذا العالم الماديّ، تجد المرأة نفسها تائهة في بيئة لا تفهمها ولا تلبي احتياجات روحها. المرأة روح راقية عن المادة التي تشكّل العالم حولها، فتبحث، طوال الوقت، عن وسيط يوصل ما تفكر به إلى العالم لعلّها تحصل في المقابل على القليل من مسحوق السعادة السحري الذي يساعد روحها على التحليق إلى تلك البلاد غير الموجودة، لكنها، هي، تعرفها جيّدا ويمكنها هناك المشي حافية القدمين لا تخاف شوك الأرض، لأنها تعرف جيدا كيف تحلّق هناك، لتقطف ما يتسنى لها من الطاقة، لتعود إلى العالم البشريّ مكمّلةٌ مهمّاتها بجدارة اللبؤة المسؤولة عن عرين الأسد الذي تستضيفه عادة، بمحبة أو رغما عنها.
ترقص المرأة مدركة لأهميّة تواصلها مع جسدها، لأنها إن لم تفعل، أي إن لم تجنّد هذا الجسد لتعبّر عن روحها، فإنها ستختنق وتذبل، ولن تقدر على العطاء، بل تفقد، على الغالب، الصلة مع العالم من حولها فتقبع فيه سجينة أفكارها الحائرة تتخبط كالأمواج داخل "تلك القوقعة" البحرية.
الراقصة التي تدرك ما ترقص، تعلم أن بإمكانها تحريك مشاعر وأفكار الآخر، بصورة ذكيةٍ فتمنح ما تريد وتمنع ما تختار أن تمنع عنه. فالاختيار هنا، هو الحريّة التي تتمتع في عيشها الراقصة، وتكون الموسيقى بمثابة النّفَس اللازم لإحياء هذه الحريّة، فتهرب من البُعد الزمني الذي يقيّد الجسد بوجودٍ محدود.
الرقص هو حياة لا يدركها إلا من يمارسها، وتحتاج للكثير من الشجاعة والإرادة لإتقان قواعد الرقص من أجل بلوغ المستوى المطلوب لدى الروح للتعبير عن ذاتها. والواقع أنك حين تصل لهذا المستوى في التعبير لا تعود هناك أهمية لرأي الآخر، ولا يهم إن استطعت الوصول إليه أم لا، فالتواصل معه يصبح إضافيا في هذه الحياة.