الرق والعبودية في الرواية السودانية

الروائي السوداني منصور الصُويّم يشارك في الدورة الثانية لملتقى تونس للرواية العربية التي تمحورت أوراقها حول "قضايا البشرة السمراء".
الباقر العفيف يورد مجموعة من الأمثلة والحيل، تدل على التناقض الثقافي لدى السودانيين في تعاليهم على ألوان بشرتهم
الرواية السودانية اشتغلت بكثافة ملحوظة على موضوعة الرق والعبودية

جاءت مشاركة الروائي السوداني منصور الصُويّم في ملتقى تونس للرواية العربية في دورته الثانية التي تمحورت أوراقها تحت عنوان "قضايا البشرة السمراء"، لتتناول "تسريد العبودية في الرواية العربية.. مأزق "الأسود".. ثيمة "الرق" في الرواية السودانية"، حيث أكد أنه لم يجد مدخلاً مناسباً لمقاربة الرق والعبودية في الرواية السودانية، أفضل من تناول إشكالية لون البشرة في الثقافة السودانية عامة، والكيفية التي يتعامل بها السودانيون في المركز النيلي مع ألوان بشرتهم، وما يقود إليه ذلك من تصنيفات اجتماعية وثقافية وتحيزات عرقية ـ قبيلية، تصل إلى مربع العنصرية الصريح.
وقال الصويم إن المفارقة المدهشة في هذه النقطة أن "السوداني" يأخذ مسماه التجنيسي هذا "سود ـ اني" من صبغة اللون الأسود، التي يفترض أنها إشارة إلى لون بشرته، إلا أنه لا يعترف بتاتاً بهذا اللون ويتعامل معه بعماء وكأنه لون شخص مختلف ـ آخر، وليس لونه هو بالتحديد. 
وحصر د.الباقر العفيف في كتابه "وجوه خلف الحرب ـ فصل: متاهة قوم سود ذوي ثقافة بيضاء" أزمة السودانيين، في التعالي العرقي الممارس من الجماعات النيل ـ شمالية "المركز"، على بقية مكونات السودان الإثنية، ويرجع ذلك إلى تصور "توهُّم" المجموعات النيل ـ شمالية، أنهم ينتمون إلى عرق نقي ـ شريف، هو العرق العربي، بينما تنتمي بقية المكونات إلى أعراق غير نقية ـ سوداء، يتم توصيفها على الدوام بأنها (عرق عبيد) ـ 
وللتدليل على هذا الافتراض، يورد العفيف مجموعة من الأمثلة والحيل، تدل على التناقض الثقافي لدى السودانيين في تعاليهم على ألوان بشرتهم، وربما أبرز هذه الحيل هي وصف النيل ـ شمالي للون بشرته الأسود بأنه "لون أخدر" (أي أخضر)، في حين يصف اللون ذاته لدى الآخرين بأنه لون أسود، أي لون "عبيد"، وحول هذا اللون المتوهم نسج السودانيون الكثير من الأشعار والأغاني التي تمجده، وترفع من شأنه، وتجعله متفوقاً تماماً على ذاته وطبيعته المطموسة ـ السواد: "الثقافة العربية تجعل اللون الأبيض هو الأساس والمقياس، وتحتقر اللون الأسود، وعندما يستخدم الشماليون النظام الدلالي للغة العربية، والنظام القيمي والرمزي للثقافة العربية، فإنهم لا يجدون أنفسهم، بل يجدون دلالات وقيماً تشير إلى المركز". 

"شوق الدرويش" ترصد بدقة متناهية تحولات الرق والعبودية خلال ثلاث حقب تاريخية متتالية، هي: التركية الأولى، والثورة المهدية، والحكم الإنجليزي المصري

وبعد استعراض موجز لتاريخ الرق في السودان رأى الصويم أن طبيعة الحكم وموقعه الجغرافي المركزي، سواء أكان الأجنبي أو الوطني؛ أتاح لمجموعات سودانية محددة، أن تكون في موقع السيد ـ البائع، ووضع مجموعات أخرى في موقع المشترى ـ المسترَق، الأمر الذي أوجد لاحقاً حالة من التنافر العنصري الحاد، مستمرة حتى الآن، أبرز ملامحها تتمثل في الحروب التي اشتعلت في أكثر من موقع في أطراف السودان، وأسهمت في انفصال جنوب البلاد بعد حرب استمرت لنصف قرن، وأدخلت السودان من جانب آخر في نفق مظلم تسيّجه المظالم المجتمعية، وتخنقه الأفكار العنصرية الضيقة. 
وأكد الصويم أن الرواية السودانية اشتغلت بكثافة ملحوظة على موضوعة الرق والعبودية، خاصة أن أكثر هذا المنتج الروائي يتمحور حول المجالين الاجتماعي والسياسي، من حيث إثارة الموضوعات، مما يضعه في مواجهة لازمة مع قضية الاسترقاق وآثارها الكارثية على سلامة المجتمع السوداني، بل وتماسك الدولة السودانية برمتها. وربما أسطع مثال على هذا الاشتغال، ما أثارته رواية الطيب صالح "عرس الزين"، من حساسية مفرطة لدى بعض السودانيين ممن لا ينتمون إلى الثقافة النيل ـ شمالية، وذلك نتيجة للإشارات التي عدوها عنصرية ضمن المتن الروائي، حين أشار الطيب صالح إلى من يمكن وصفهم بـ "العتقاء"، وتقديم صورة عدّوها شائهة عن الحياة الاجتماعية لهذه المجموعة. كذلك يمكن الإشارة إلى أعمال روائية أخرى مهمة تناولت قضية الرق، سواء عبر التسريد المباشر، أو من خلال موضعته في الخلفية السردية للوقائع، واعتباره أحد العوامل المساعدة في تنامي الأحداث. ولعل أبرز هذه الأعمال رواية "مندكورو" ـ تعني العربي أو الأبيض للروائي مروان الرشيد، وتدور أحداثها ما بين شمال السودان وجنوبه، ورواية "الطريق إلى المدن المستحيلة" للروائي أبكر آدم إسماعيل، وقارب فيها الآثار المجتمعية الحديثة لقضية الرق، ورواية "قصة آدم" للروائي عاطف عبدالله، التي تقدم تحليلاً للعنصرية الشمالية، ودورها في تأجيج الصراع في هوامش السودان، ورواية "النهر يعرف أكثر" للروائي أسامة الشيخ إدريس، وحاول فيها رسم حالة تاريخية تستدعي صورة للتعايش السلمي بين المسترق والسيد، وتنفي إحساس الغبن لدى فئة المسترقين، وصنع صورة مثالية لـ "السيد" الشهم المثالي ذي المبادئ ـ ابن البلد، ومن أهم هذه الروايات، رواية حديثة بعنوان "الإنداية.. قصة الأقنان والعبيد" لكاتبها صلاح البشير، وسرد خلالها قصة ثائر حاول تحرير الرقيق في قلب المركز النيلي الشمالي، ورغم أن بطل الرواية ـ الثائر من الأسياد، إلا أنها تعطي صورة عامة عن شكل الحياة التي كان يحياها الرقيق في واحدة من أوج وأخصب فترات الاسترقاق ـ العهد السناري.
واختار الصويم لمشاركته دراسة ثلاثة أعمال روائية وضعها موضع التحليل، قال إنها قدمت قضية الرق ـ العبودية، في قالب سردي متماسك، وجعلت منها الثيمة الأساسية للعمل، دونها لا يكتمل المسرود، فهي الركيزة الفاعلة والدافعة للعملية السردية من بداية الرواية وإلى نهايتها. هذه الأعمال هي: رواية "زهرة الصبار" للروائي الزين بانقا، ورواية "فركة" للروائي طه جعفر الخليفة، أما الرواية الثالثة فهي رواية "شوق الدرويش" للروائي حمور زيادة.
وأوضح أن رواية "زهرة الصبار" للروائي الزين بانقا تنبش في التاريخ السري لأحفاد العبيد، وترصد عبر تقديمها لسيرة ثلاثة أجيال؛ التحولات العنيفة التي وسمت حياة الرقيق السابقين، وما طرأ من تبدلات وتحوّرات على حياة أحفادهم، وتطرح خلال هذا سؤالاً مهماً ومقلقاً: هل تخلص الأحفاد من إرث الأجداد المحزن والمظلم؟ أم أن المأساة هي ذاتها وإن تغيرت أدوات القمع وأساليب النفي والإقصاء، مع تغير الزمن واختلافه؟ 

وأضاف أنه عند مطلع الرواية، تنزلق من بين ثنايا السرد هذه الفقرة، وتلخص الفاجعة: "أن تنحدر من سلالة العبيد، ذلك لا يدع مهانة إلا ويلحقها بك، ليس لأنك مسلوب الإرادة في عالم يقدس الحرية فحسب. ولكن لأن الحال الذي كان عليه أسلافك من القهر يظل ماثلاً فيك، شاخصاً إليك، ولأن جميع ما يلهج عصرك به من تنوير، يكون ماحقاً أمام فداحة ما تنوء بحمله". هذه رواية عن المثقفين، عن الاستنارة والحداثة والنضال وأحلام التغيير، وفي الوقت ذاته هي رواية عن التاريخ الأسري، حين ينشبك في حبائل ومصائد المجتمع؛ عن أحفاد الرقيق السابقين في تواصلهم وتداخلهم وانفتاحهم على أحفاد الأسياد السابقين. رواية تكشف عن سيرة غير مطروقة من قبل لثورات العبيد، انتفاضاتهم وتضحياتهم المغيبة عمداً من مدونات التاريخ الرسمية، ومرويات المجتمع الشعبية الخاضعة لمزاج الأسياد، رواية تفضح مسيرة الدم والألم التي خاض دروبها الموحلة عبيد الأزمان الغابرة، إلى أن صار أحفادهم في كفة واحدة مع أحفاد الأسياد، ليستمر الصراع. 
وفي سياق تحليل لرواية "فركة" لطه جعفر الخليفة، قال "هذه رواية جريئة ومتحدية وثورية في طرحها الحكائي، وبعدها النقدي الموازي. صوَّب كاتبها "طه جعفر" سهامه الناقدة بشكل مباشر إلى المركز؛ ببعديه الثقافي والجغرافي. ولكونه – الكاتب – يأتي من المركز – العربي الإسلامي المكاني– ذاته؛ بدت الرواية وكأنها خيانة مباشرة لهذا المركز، مما ألب السلطة وبعض النقاد على الرواية وكاتبها، حيث منعت من التوزيع داخل السودان، رغم أنها حازت أرفع جائزة أدبية محلية "الطيب صالح للإبداع الروائي". فما هو الشيء الذي تجرأت الرواية على كشفه – قوله وأغضب الجميع؟
ولفت إلى أن الرواية تحكي في قالب سردي مبسط، يخلو من التعقيد البنائي، قصة اختطاف وأسر وبيع الفتاة "فركة" ـ سليلة سلاطين إحدى القبائل الكبيرة في جبال النوبة بغرب السودان ـ ورفيقاتها، رقيقاً في أحد أكبر أسواق النخاسة بالشمال النيلي. تدمجنا الرواية منذ صفحاتها الأولى في أساليب الخداع والمكر المتبعة من قبل تجار الرقيق، في قنص الضحايا وأسرهم: "النهاضة يتراوحون حول جبل التروج، عادة يمرون على الجبل في أعداد كبيرة. قتص الرقيق مهمة خطرة"، والنَّهَّاضَة اسم غير شائع لتجار الرقيق، بعكس "الجلابة"، الذي تطور مع الزمن ليوسم به كل شمالي ـ نيلي، في إشارة تاريخية مريرة لممارسة "النهاضة" الشماليين قديماً، رغما أن "الجلابة" في حقيقتهم لم يكونوا أكثر من تجار عاديين يتنقلون بين أقاليم ونواحي السودان المختلفة، بهدف البيع والشراء والتربح، بيد أن أساليب "النهاضة" الماكرة هي التي ورطتهم ـ هم وكل شمالي - في هذه الوصمة. "النهاضة الآن متنكرون في هيئة جلابة. جاءوا لبيع الملح والقرنفل والدمور والخرز وأقمشة هندية". 
كما تشير الرواية منذ بدايتها إلى قبائل النهاضة، الذين لم يجمع بينهم شيء سوى "أحلام الثراء وروح الغدر"، ينحدرون من قبائل البطانة، والشوايقة والجعليين والرباطاب، وحراسهم من قبائل الغديات والفور في غرب البلاد. "الحراس هم من يجيدون لسان الكواليب".
ورأى أن كاتب الرواية ركز بشكل كبير على وصف أصناف العذاب الذي قاسته بطلة الرواية "فركة"، هي ورفيقاتها، بعد اختطافهن بوساطة النهاضة تجار الرقيق، ومقتل ابن عمها وحارسهن انتحاراً لعجزه عن إنقاذهن: "البنات ولول الكرباج على أردافهن وصدورهن وظهورهن (...) الضرب أخرس أصواتهن فوقعن باكيات ونافدات القوى. هكذا تم ربط كل واحدة منهن على سرج جمل". 
إجمالاً واختصاراً، تسرد رواية "فركة" لطه جعفر، وبتفصيل دقيق، كل مظاهر ومراحل تجارة الرق في تلك الحقبة من تاريخ السودان ـ أواخر الدولة السنارية المتاخمة لبدايات العهد التركي الأول ـ بداية من أساليب قنص وصيد العبيد، إلى طرق تعذيبهم وتقتيلهم واستغلالهم جنسياً، وأساليبهم في المقاومة والثورة والتمرد والعصيان، إضافة إلى وصف مناطقهم الأصلية المتصفة بجمال الطبيعة، وأساليب حياتهم قبل الأسر، المختلفة عن طرائق آسريهم في الحياة، كما لا تغفل الرواية تقديم خريطة طوبوغرافية متكاملة توضح طرق قوافل قنص وبيع الرقيق، والمدن التي تستقبل أسواقها قوافلهم، هذا إلى جانب تشخيص نفسي ـ اجتماعي لطبيعة "النهاضة - الجلابة" والسادة أبناء السادة ملاك العبيد في أهم المدن المركزية قديماً وحديثاً.
الرواية الثالثة كانت "شوق الدرويش"، لحمور زيادة؛ والتي رأى فيها الصويم مختبرا سرديا ـ حكائيا يرصد بدقة متناهية تحولات الرق والعبودية خلال ثلاث حقب تاريخية متتالية، هي: التركية الأولى، والثورة المهدية، والحكم الإنجليزي المصري. فأحداث الرواية تبتدئ في لحظة سقوط المهدية وبداية تدشين دولة الاستعمار، وتقدم من خلال السرد تاريخياً اجتماعياً سرياً غير مطروق من قبل، لا في الأدب السوداني ولا في الوثائق التاريخية الرسمية، وهو تاريخ الأرقاء والعتقاء ـ المتحررين من الرق ـ في تماسهم وعلاقاتهم مع أسيادهم القدامى، والتغيرات السياسية العنيفة التي ضربت البلاد. 
وقال إن الرواية تقدم وجهاً آخر غير مألوف في الكتابة السودانية، وهو صورة السوداني ـ الأسود، في ذهنية الآخر الأجنبي - الأبيض، وشكلاً للتفاعل الثقافي الحضاري على المستويين الفردي والمجتمعي بينهما. كما ضمت الرواية ما يمكن عده خريطة إثنوغرافية توضح طبيعة الأسماء والأعلام في تلك الفترة، تبادلاً ما بين السادة والعبيد".