السرد الفجائعي بين القهر والاستبداد وفعل المواجهة في 'الذئاب على الأبواب'

رواية الكاتب احمد خلف تمثل شهادة انسانية عن مرحلة مهمة عاشها الفرد العراقي في ظروف مأساوية وصعبة، خلال العقدين الأخيرين.

يمثل الكاتب احمد خلف" ظاهرة ادبية متميزة في تاريخ الأدب العراقي - العربي نظرا لما امتلكه من حضور رمزي ومؤثر في الوسط الثقافي، باعتباره الوريث الشرعي للمدونة السردية.

لقد استطاع الأستاذ أحمد خلف أن يرسم لنفسه، وبفرادة، خارطة خاصة في جغرافيا الرواية الحديثة، كما استطاع أن يحفر بسروده خندقا عميقا في قلوب قارئيه.

رواية "الذئاب على الأبواب" للروائي الاستاذ احمد خلف وصادرة عن دار النخبة للنشر والتوزيع في مصر 2018.

من هذا القادم يدق باب البيت؟-

باب مفتوح ندخله

باب مغلق , معتكف

نبض العالم يخفق خلف بابي..

بير البير بيرو"(امام نافذة في غرفة تطل على ساحة في شارع فرعي مهمل , وقف رجل ذو بنية رياضية متماسكة وللمرة الألف ينظر عبر النافذة …خلت الشوارع الفرعية من المارة في الايام الاخيرة …للتو أطفأ سيجارته ثم سحق بقاياها داخل منفضة قريبة …

الرجل في وقفته تلك… نقل عينيه نحو المشهد اليومي الذي يلوح له… يرنو بإمعان غير مصدق انثيال الصور على المشهد وتشكيله.

تمثل النافذة أداة من أدوات التشكيل الجمالي التي توسل بها الكاتب من أجل توليد مساراته الدلالية واستراتيجياته النصية لفعل المشاهدة .وهي طريق التواصل بين الأنا/الآخر .اذن النافذة هي العين التي تبصر بدقة لما يجري في الخارج ,وبذات الوقت أداة لترميم شقوق الذات وتخليصها من آثار الجفاف العاطفي ..

يميل الكاتب في نصه السردي هذا إلى تكييف استراتيجيته الجمالية لصالح نص مركب يبتعد عن الإنشاد المباشر ليشيد فضاءً بصريا يمتح لغته وصوره من تفاصيل اليومي والمألوف .

بطريقة إبداعية جعلتها تنطوي على توترات درامية نجمت عن تعدد الأنا وتنوع زوايا النظر التي تنطلق منها الذات في تشييد فضائها التخييلي ..

لقد كشفوا عن انفسهم بالاعتداء على بيتك

ولكن لا أظن أن لي أعداء يكرهونني الى درجة الانتقام من أسرتي ؟

عليك بالصبر وألا تبدو أمامهم ضعيفاً خائر القوى , انهم ينتظرون تلك اللحظة التي تتهالك فيها الى الارض، كي يملأ الحبور صدورهم الخاوية . حذار . حذار من لحظة الانهيار تلك.. ص13

وهنا تبرز الأنا في الرواية متعددة ومنقسمة على ذاتها. وقد تجسد ذلك نصيا في تعدد "الأنوات" المنشقة عن الذات؛ فهي تحب وتكره، تفرح وتحزن، تقترب وتبتعد، تقبل وترفض، تنكفئ على نفسها تارة وتنفتح على الجماعة تارات. كل هذه الانفعالات المتعارضة والمتناقضة يقدمها الكاتب في إطار تخييلي درامي أخاذ ..

إن تعدد الأصوات السردية استراتيجية جمالية توسل بها الكاتب من أجل تنويع صوره وأقنعته وهو ما أتاح له تنويع الطرائق التعبيرية التي أسعفته في مضاعفة معادلاته الرمزية التي وظفها من اجل الإحالة إلى ذاتيته ومرجعيته وفق مبدأ الصوغ الذاتي الذي يسمح بإعادة بناء الذات لا كمما هي في الواقع ..

بوسف النجار الذي يجد نفسه مطارداً من جهات مجهولة، ولأسباب غامضة، تماماً إذْ قام المطاردون بنسف بيته، والتسبب في قتل زوجته سعاد، وابنته ذات الأربعة عشر عاماً، وظلوا يمطرونه برسائل تهديد متنوعة، محيلين حياته إلى جحيم لا يطاق، مما دفعه للارتياب بكل إنسان، وكل حركة، حتى بات من الصعب عليه الفرز بين الوهم والحقيقة.

ولما كان الكاتب يعبر عن صورة متخيلة- تجربة حياتية تتجاوز قوانين الواقع وإلى خلق صور وأخيلة غائمة مفارقة للإطار المتحكم في فهمها وتداولها، حيث ينشئ الكاتب بما يشكله من صور وأخيلة عالما نصيا سديميا تطفو على سطحه ذكريات متشظية ترتبط بمسير ومصير حياة بطله المفعمة بالهشاشة والامحاء أمام الحضور الطاغي للسلطة بافعالها المدمرة وبالتالي يهيمن عليه الالتباس وعدم اليقين من فضاعة ماجرى ويجري وكانه ضربا من الجنون ..

لا يمكن لهذا ان يحصل أمام انظار المسئولين في الدولة , ولا يردعهم الموت المجاني, الذي أكل الأخضر وألتهم اليابس ... ص30 

ظل ينظر إلى ما تعانيه المدينة من الإهمال والفوضى العارمة التي اجتاحت البلاد، لا أحد يجرؤ على اختراق صمت المدينة وليلها البهيم، لا بشر هناك ولا حراس أو جنود يصونون حرمتها وهيبتها المفقودة، لأن ما عانته خلال سنوات مخاضها القاسي، يوازي ما تحملته عبر العصور كلها

يوسف النجار يأكله القلق والخوف، من رسائل التهديد التي يرسلونها بالاقتناص من حياته بالقتل "لن يطول اختفاؤك عنا، أيها الواشي الرخيص .. ص187 .

 لن تفلت من ايدينا، نحن اقرب اليك من حبل الوريد

أيها الماجن ... ص209.

ويستمر استعادة السرد الاسترجاعي حين يتعرف على زميلته في الكلية (عبير) بعد حوالي ثلاثين عاما. فكان في البداية يتوجس منها, بالظنون والشكوك بأنها مرسلة منهم لتجسس عليه، او مدسوسة منهم, لكن بعد ذلك تبددت الشكوك حين عرف معاناتها الحياتية والعائلية, واقترب إليها في علاقته، ليبدد الوحشة والانطوى. في واقع لا يحمل الثقة والاطمئنان من الآخرين..

في المجمل اقول، يمثل السارد في الرواية وعيا جماليا وإبداعيا ينبثق من خلال الوحدات الحكائية التي تتخذ شكل إسقاط تخييلي للمؤلف الواقعي المتحكم في بناء النص وتشكيل جمالياته. يتعلق الامر إذن بشخصية مركزية تمثل الناظم الذاتي لنسيج النص إذ يتكفل بسرد وقائع وتفصيلات عديدة ومتنوعة ضمن سياق شعري يقترب في كثير من المواضع من الصوغ السردي حيث يستعيد الواقعي الموجود خارج النص.

ترى هل تبعه الرجل ليتأكد من الحي والشقة ـ ويجلب الجناة ـ لكي يصفوا الحساب

معه؟ …

كثافة النيران رغم تقطعها في بعض اللحظات جعله يعتقد انهم يقومون بعملية تمويه واشغال الآخرين عن هدفهم، وهو اجتياح شقته في لحظة حاسمة...ص175

تثير هذه الرواية سيلا جارفا من الأسئلة التي تخص الوجود الفردي والمصير الجماعي. خلال فترة حساسة من تاريخ العراق المعاصر (امتدت من حقبة الديكتاتورية وصولا الى مابعد 2003).

وهو ما سمح بتشكيل فضاء نصي (تاريخي) يتسم بجدل متوتر بين ثنائية -الذاتي والموضوعي – مقطع طولي عن لوعة العزلة وفجيعة الإنسان.

ويستمر السرد التتابعي بسلسلة من الحوادث والوقائع المعقدة التي يمر بها البطل في حياته، وهو يقلب صور الحياة الاجتماعية والسياسية التي مرت به، وبشكل خاص حياته العسكرية والحروب التي فرض عليه خوضها آنذاك.

وسلطت الرواية الضوء أيضاً على اشتداد الصراع السياسي والطائفي بعد الاحتلال وسقوط الديكتاتورية، مع تركيز خاص على أزمته الشخصية داخل ذلك الأتون الخانق:

إلى أين يمضي رجل مثلي من مطاردة المافيات التي انتشرت بعد احتلال بغداد، بصورة أفزعت الناس؟ ميلشيات ومافيات وعصابات ومجانين وقتلة مدربون من زمن عاد وثمود...ص301

إن صوت السارد حاضرا في الرواية أو غائبا ليس عند ترجيع النظر سوى امتداد وتنويع على صوت الكاتب؛ أي إن السارد بأقنتعته المختلفة تجسيد لقناعات المؤلف الحقيقي الذي يوجد خارج النص؛ والكاتب لا ينفصل عن نصه السردي إلا ليلتحم به من أجل تحقيق مزيد من الظهور والحضور. المسافة الهشة بين الصوتين السرديين لا تلبث أن تنمحي وتتلاشى لينكشف الحكي عن ذات مركبة يتعايش فيها الحضور والغياب بلا انفصال.

توظيف شخصية "يوسف النجار" والتي تتصل تجربته العاطفية والانفعالية في كثير من نواحيها مع تجربة الكاتب مما يخلق التباسا من شأنه أن يعمق التجربة الجمالية التي تعبر عنها الرواية؛ ذلك أن ضمير المتكلم الذي يأتينا من النص السردي هو صوت الشخصية وليس صوت الكاتب، لكن الصوت الذي ينبعث من الأغوار السحيقة للنص ليس صوت الشخصية ولا صوت الكاتب ولكنه صوت مركب ينجم عن تفاعل وتداخل صوت الكاتب وصوت الشخصية وكأن الكاتب يعزف لحنين متزامنين.

(يوسف النجار، يقرر في النهاية الخروج من حالة العجز والانكسار، ومواجهة مطارديه، عندما يحمل سلاحه، ويفتح الباب، متجهاً لمواجهة أعدائه. وبذا فالبطل بخروجه من "قوقعته" الذاتية والنفسية والمكانية، المنكسرة والسلبية، بتعبير باشلار، المتمثلة بشقته المعتمة و نافذتها الصغيرة المطلة علي العالم الخارجي، إنما يهدم سجن الداخل الذي ظل منكفئاً داخل عتمته لينفتح على الخارج بما فيه من ضوء وحياة وإرادة فاعلة).

يكشف هذا المقطع من الرواية عن تحرر نفسي تملكت الذات نتيجة إحساسها بالهول وهي تواجه مصيرها الفاجع، لكنها تحاول تبديد المشاعر والأحاسيس المتضاربة بسيل كثيف من المواجهات المتلاحقة التي تعكس اخيرا توازنها وصلابتها. الأمر الذي جعلها تعيش حالة من اليقين بقوة المواجهة ..

وإن كان السرد في هذا المقطع يتسم بالإغراق في عوالم تتجاوز الواقع الحسي بوساطة الصيغ المجازية والتكثيف الدلالي. وهو ما يسهم في إغناء الكون التخييلي والجمالي الذي يشيده النص ؛ فالأحداث التي تجري يكشف عن سارد متماه بمرويه وملتحم بطبقات محكية من دون مواربة أو تحفظ.

إلى جانب سارد خارجي غريب عن الحكاية. يتعلق الأمر بسارد غائب غير مشارك في الأحداث ..

حيث يغدو المحكي أكثر غنى وفاعلية عندما يقدم من خلال وجهة نظر غائبة تسرد وتستبطن تتأمل وتعلق على ما يتصل برؤى الراوي- الناظم الذاتي ورهاناته الجمالية ومرجعياته الثقافية. إنه جزء من الاستراتيجية الجمالية التي يطورها الكاتب في هذه الرواية الغرض منها تنسيب الحقائق وتكسير رتابة الصوت الواحد..

وفجأة تذكر ان عبير لم تزره منذ عدة أيام , ولم تتصل به خلال النهار .

الغريب كان يشم رائحة البيرة من جسده أو رائحة قريبة منها اعترته نشوة عارمة , ألقى داخل الشقة نظرة تفقدية، دارت عيناه في كل زاوية من زواياها كأن غيابه عنها سيطول أو أنه سيأخذ اجازة لأسابيع عدة، رغم انه يُمَنّي نفسه بالعودة اليها حالاً، تيقن من وضع سلاحه تحت طيات ثيابه، قام بفحص السلاح الناري قبل الهبوط نحو الأسفل , تأكد من وجود الاطلاقات داخل السبطانة، أعاد مسدسه الى وضعه ورتب هندامه، أغلق الباب وراءه وهبط لملاقاة الرجلين ,استجابة لتحديهما العنيد] ـ الذئاب على الأبواب  ص327.

لقد حاول الكاتب أن يهجر العام إلى الخاص وأن يستبطن الغد لكي يطل على المستقبل في محاولة لسبر كنهه والقبض على حقيقة وهوية المصير الذي ستؤول إليه الذات وفتح أفق أفق التوقع على مناطق داخل الذات عصية على الرصد بتوظيف لغة شعرية تميزت بثراء جمالي ودلالي مكنها من نقل التجربة الفاجعة التي تكبدتها الذات في صورة فاتنة أخاذة. وهو ملمح من ملامح الشعرية في سرديات القبح "المدينة/الشخصية"، دون تفجع أو مأساوية. وقدمها جماليا بطريقة نفذت إلى صميمنا..

الرواية متوجهة إلى تدوين خراب السيرة -مدينة وشخصيات - تتساند فيها الممكنات الإبداعية من أجل تشييد نص إبداعي ينغرس عميقا في الحياة ليواجه فجيعة التواري والغياب ..

واخيرا اقول - رواية الذئاب على الابواب شهادة انسانية عن مرحلة مهمة عاشها الفرد العراقي في ظروف مأساوية وصعبة، خلال العقدين الأخيرين.

حيث ينشغل الكاتب بتشييد واقع جمالي يروم التعبير عن حالة وجدانية انفعالية تتلبس الذات عندما تواجه سؤال المصير. ومن رحم المحنة والعذاب والذي حاول الكاتب ان يستنفر كل طاقاته الفنية وإمكاناته الجمالية من أجل تصوير دراما مصائر انسانية عانت الفاجعة بكل حملاتها القسرية ,سردها كاتبها بلغة شعرية كثيفة وشفافة أساسها الرمز والإيحاء.

"يوسف النجار" الذي يعيش "صراعا مستمرا بين زمن تاريخي واقعي وزمن لانهائي يسمى الخلاص أو على الأقل الانبعاث المتجدد. فقد شكلت الرواية بانوراما من وعي بصري فني اختزالا لسؤال الوجود والمصير لشرائح اجتماعية عانت الامرين الحرب والقهر الاجتماعي. صورها لنا كاتب الرواية بصبر وأناة من أجل مقاومة الخراب والخوف.. لماجرى ويجري وسيكون مدونة ذاكرة الزمن المعاصر.