كوابيس الكتابة في 'المئذنة'

سيظل سحر الكتابة عند الأديب علي لفتة سعيد متجدّدا دائما ما يؤكّد أن نصوصه السردية كانت أم الدرامية ستظلّ تحتفل بالهم المجتمعي العراقي والعربي على حد سواء، الذي نذر نفسه للمقاومة ضدّ كل أشكال الاستبداد والظلام والظلم.

المسرح جزء من الحياة، ويجب على المسرح والأدب أن يتواصلا مع الناس وإلا فلا قيمة لهما؟ في مقاومة موت الكتابة .. الكاتب علي لفتة سعيد يدخل عالم المسرح عن نصّه "المئذنة" ليصنع بيّنته المسرحية. بعد أن خاض معاركه المصيرية في عالم السرد، بدأ شاعرا ثم روائيا وناقدا وصولا الى مؤلف وفق قواعد اللعبة الدرامية. انجذبا الى هذا العالم الساحر والمتمرد هو عن لذة خالصة بالتجربة والانهماك بعالم الفرجة فتنشأ الكتابة عنده بحثا متواصلا وشاقا لتتسلل نحو اللعب بلحظات وجودها المستمرة لنراها ونشاهدها أمامنا تصرخ بضرورة البقاء.

 أقول إن إعادة التفكير بالمسرح وجدواه كوسيطٍ فني وسياسيّ، تحيلنا إلى أشكال الفرجة الني نتورّط بها دون أن نعلم، فآليات الهيمنة المعاصرة، حولت الزمن اليومي وزمن اللعب إلى زمن استهلاكيّ، بوصف الأخير نظاما وبنيانا سياسيا يوظف متعة ونشوة أن نكون مرئيين لخداعنا، في سبيل تصنيفنا، والتلاعب لا فقط بحركة أجسادنا، بل بذاكرتنا ووعينا بالعالم من حولنا.

 في نصه "المئذنة" يحدد الكاتب الزمن حال ولادة الشخصيات بالرغم من توقف عقارب الساعة الحاضرة ضمن اثاث العرض، إنه زمن الظلم والطغيان الذي ترزح تحته الشخصيات - الشاب والفتاة والأب المتوفّي - ليروي الكاتب قصّة الشخصية الرئيسية، الشاب المثقّف المتوقّف عن كتابة القصص بسبب عوامل إقصائية فتحضر السلطة الدينية المتمثلة بالمئذنة، والسلطة الاجتماعية موت الحب وتأخر الاقتران بمن يحب.

السلطة القدرية الظاهرة من خلال النعش صورة من الحروب ومن الفواجع التي عاشها الموطن ولا تزال تعيشها لنشاهد شخصية "الفتاة" وبدون ملامح، وربما أراد لها الكاتب ان تكون "الفكرة" المتعسرة الولادة فهي تحث الشاب على الكتابة وهو الرافض لكل انواع الكتابة بسبب قسوة السلطات حتى يصل الأمر التمرّد على سلطة الأب الشهيد في الحرب الأولى ضد الانكليز حين يرفع صوته عليه.

 يطرح نصّ المئذنة تساؤلات مشفرة تحيلنا إلى خاصية جوهريّة في بناء العرض المسرحيّ وهي السرد، والقدرة على قول حكاية وبنائها وخلق التعاطف معها، وهي المهارة التي تحتاج "أداء لغوياً" ورمزياً، لطالما رافق الظاهرة البشريّة التي تتميّز بقدرتها على نقل الأفكار، فأشكال التمثيل هي المسؤولة عن رؤيتنا للعالم، وكأننا أمام كمّ هائلٍ من الحكايات التي تتغيّر طرق "سردها" مراراً، وكل تغيير يعكس الظروف السياسية والاجتماعيّة التي نمر فيها كبشر، يمارسون فعل "السرد" بشكل يومي.

 يطرح النص تساؤلات حول تعطل الكتابة – الكاتب في زمن اللا حرية/ الخراب، عبر توظيف الرمز المئذنة في بناء المتخيلّ الذي نمتلكه عنه في وعينا الجمعي – المقدس، هذه التساؤلات التي يتبادلها الممثلان الشاب والفتاة ، والتي تتحدى اللغة المنطوقة والتي غالبا ما تخلق مساحة من اللعب تأثيره المباشر واللامباشر على المتلقي.

هذا اللاتعيين يحيلنا إلى مفاهيم أخرى، أيهما أقدر على احتواء الحقيقة، خصوصاً وأن كل اسم له معنى في زمنه كلما تم إنتاجه، وهذا ما نراه في بعض الحوارات التي لا تبدو منطقية في بعض الأحيان بسبب تورطنا في اللعبة المسرحيّة، لتصبح كلمة "مئذنة" صعبة على التعيين. الشخصيات تتجلى بإيقاع سيمفوني فنجد كل شخصية تحمل على كتفيها عوالمها الخاصة بها في تواتر جدلي مع الشخصية "الآخر" داخل محرّكات مختلفة أبرزها الموت- الحياة كمحرّكٍ تفاعلي بينهم ينشأ معهم كطريقةٍ تعبير فاضحة ومتوحّشة، لتعتمد كلّ شخصية على فاصلٍ دقيق تقيس إيقاعها الداخلي ضد الفاصل المتقابل لها، لنرى هذا الكم المهول من الصراعات بينهم.

يحتوي الكاتب شخصياته في قلبه الجريح وعقله المتيقّظ الذي صاغ جمالياتها داخل اللغة الحية، وما تحمله من شيفرات الواقع اليومي فيحوّل هوس الخطاب الفكري إلى سيرورة فنيّة تتجدّد دائما من داخلها لتستبطن اللغة الدرامية بكلّ صعوبته الجامحة.

 لكي تشهد العملية التوليفية نقاشًا كونيًا مع المعنى الإنساني ضدّ الموت فيرى الكاتب أن أفق الفعل المسرحي هو مواجهة ضد الموت للانتصار في النهاية الى الحياة ثانية والى أفق وجود ممكن. أيضا حضر الأب المتوفّي في النصّ ربما أراد الكتاب أن يشهد التاريخ على الماضي، هذا التاريخ المهول المليء بالهزيمة والخسران والتضحيات جراء السلطة الدينية المتمثلة برمزية المئذنة المتشبّثة بظلامة التاريخي الذي ارتبط في رحلته بالدم. المجتمع وخساراته الدائمة، كان الضحية الأولى والقربان من هول ما حدث جراء أهوال تلك السلطة.

 وفي الختام حمل نص المئذنة صفة التنبؤية ليستبشر المتلقّي بما سيحدث ليراه ممكنا في ذاته اعتماد لإمكانية الإنسان – الممثّل في تقنية توظيف الجسد، وهذه الحركة التي تتجذّر من بواطن الخطاطة الدرامية، فنرى الشاب في حالة استبطان معتّق للشخصية المسرحية ترتدّ بين الدهشة واليقين، بما حدت درامي ليأتي مفهوم مواجهة الموت كلحظةٍ جارفةٍ استعاد فيها الكاتب عقله الشجاع وفطنته ليعيد ترتيب معاوله ورؤاه النقدية، ليؤسّس فكرته المسرحية ويقدّمها كلحظة ولادة.

وختاما.. إن العالم يتطوّر، والنصوص الكتابية ليست تابوتا خشبيا يجب أن ندفن فيه إبداعاتنا الحبيسة، بل لا تزهر الكتابة إلّا في زمن الألم والقسوة وفي أيّ جنسٍ كان، لتخرج كل كتاباتنا لتنشر الفضيلة وتلعن الظلام بأشكاله، كون الكتابة كائن حيّ مثلنا يتنفّس وبتفاعل ويتغير. أقول سيظل سحر الكتابة عند الأديب علي لفتة سعيد متجدّدا دائما ما يؤكّد أن نصوصه السردية كانت أم الدرامية ستظلّ تحتفل بالهم المجتمعي العراقي والعربي على حد سواء، الذي نذر نفسه للمقاومة ضدّ كل أشكال الاستبداد والظلام والظلم.