سعد جاسم يأخذ قارئ 'قلبي وطن وجسدك غابة' إلى بواطن الوله والغرام

قصائد الكتاب نجحت في شد القارئ إليها.. وهي فيها خصوصيات جمالية ودلالية تعكس تجربة الشاعر.

الإهداء: "إلى جميع العاشقات والعشاق في هذا العالم الذي لا يزال مُحتشدا بالحب والأحاسيس النبيلة والجميلة، برغم كل الحروب والمجاعات والأوبئة والكوارث الطبيعية".

منذ العتبة الأولى العنوان -الإهداء - يأخذك الشاعر سعد جاسم فيها إلى بواطن الوله والغرام ووجع الاغتراب العاطفي، لتجد نفسك منساقا دون شعور، للغوص بسلاسة صور موحية بأسلوب آسر من الحميمية، تلك القصائد من المشاهد الغنية بالمشاعر المتأججة تقترب من عوالمنا فنتفاعل معها.

إن قصائده مشوقة، وابتداءً من الإهداء الملغز حيث الوجع السومري وهو بوابة عبور أولية للقارئ ليواصل ويكمل رحلته إلى عالم الديوان، وهكذا يضعنا مباشرة بما يحمله من تشويق وإثارة، تلك القصائد الممهورة بالأسى لا بد أن تكون حبلى بالوجع العراقي، وأن تنشئ في نفس القارئ أسئلة عديدة سيمضي قدما في البحث عن إجابتها، فيصور الشاعر من خلال اللحظات التي مر بها والذي أوصله إليها. والموقف وحالته النفسية والاجتماعية والمكانية والإرث الكامن في سره الدفين في غربته، يصورها بخيال فيه تلميح مشوق للحبيبة التي تأسر كيانه. فقد اتضح منذ تواريخ كتابة القصائد التي ذيل بها نصوصه أنها مزاوجة بين الحاضر والماضي، واستحضار الماضي الذي يكتسب صفة الحضور بالأفعال المستخدمة في النص، وإن كانت أغلبها بصيغة الماضي، إلا أنها تروي للقارئ ما حدث وكأنه يحدث أمامه من خلال أسلوب الاستحضار المشهدي.

اقتباس: "انتِ الآنَ تسكنيني قصيدة شغفٍ وقبلة ولع وضحكة فرح كوني وأغنية فيروزية خضراء دائما تتردد أصداؤها في صباحات الله"

النصوص الشعرية هي رحلة لكائن يعشق الشعر والسحر معا، القصيدة أنثى ترهقه لينسى غربة الحياة ويدونها من حيث يعيش بعبثيّة الوجود. فهل ستكون الكتابة دائمًا موضع إرهاق حتّى لو وجدها بعض الكتّاب والأدباء ملاذًا؟ إنَّ كتاب سعد جاسم الشعري هذا والذي حمل عنوان "قلبي وطن وجسدك غابة" والصادر عن دار لوتس للنشر –القاهرة 2023 يدعونا للتساؤل: لماذا كتاب شعري؟ حيث إن الشاعر جنّسَ ديوانه الشعري هذا بالكتاب الشعري، وهذا ما عودنا عليه الشاعر في ما يتبنى في كتابة قصائده بما يسمى: التّجريبُ مبدأٌ جوهريٌّ يقعُ في صُلب الإبداع بشتّى أجناسه وأنواعه وأشكاله، وهو يرتبطُ بالحداثة كفكرة إبداعيّة جوهريّة إنسانيّة من حيثُ كُونها مُمارسةً عمليّةً تتكفّلُ بإنتاج تجليّات جماليّة تنهضُ على معرفة عميقة بتجلّيات جماليّة، تنطوي بدورها، على مُحفّزات ذاتيّة لا يُمكنُ تجاهُلُها، وعلى دوافع وحاجات حياتيّة ووُجُوديّة لا تتوازنُ الذاتُ الإنسانيّةُ مع الحياة والوجُود إلّا بالاستجابة الإبداعيّة الواعية لحثّها على متابعة الإبداع، هي رغبة في وجدان المُبدع.

اقتباس: "بهذا الوجود وهذي الحياة التي نعيشها كما لو أنها مناسبة جميلة وغرائبية وعجائبية وغامضة يا انت...كوني ملاذه"

العنوانات الفرعية: "أغنية خضراء - الإقامة في كتابك - سرك في مراياه - حالات غرائبية - عاشقان في طوفان - امرأة تشبه القصيدة - ابحرْ بعيدا - قطط المواسم والطقوس - احبك في كل الفصول - اشراقات عشقية - عشاق القبلات والأغاني - في مديح الأنوثة - ثنائية الفحل والأنثى - حب في الأعالي - تعال قبل الطوفان -حب بلا أقنعة - قبلة موقوته - أخاف عليك من الكورونا - ارسمك بالقهوة والقبلات - أميرة الفصول وسيدتها القزحية - امرأة الشهقة الأخيرة - أنوثة عطر - غزالة الأبدية".

الشاعر سعد جاسم يحاول أن يعيد بنا الزمن إلى قصائد شعر الغزل والهيام والعشق الجميل لذلك الزمن الأصيل، الذي يشقى الحبيب، حتى يكون بمقدوره أن يغازل حبيبته أو معشوقته، لكنه يعيد صياغة الكلمة برؤى عصرية، قصائد عشق حالمة تحكي معنى أن يحترق الرجل من أجل حبيبته، وهي أجمل ما يختزن في ذاكراتنا من أيام الغرام وعشق يوم تحترق القلوب بشظايا ناره وتتلوع بمآسيه، وتذوب في وجدانه، لكنها تجد فيه ضالتها في أن تشعر بقيمتها وكيانها وصيرورتها، ومعنى أن يكون لها إنسان حالم، وهي مترعة بالذكريات، بلا تزييف.

تمعن في كل قصائد الشاعر المبدع سعد جاسم حتى تجد أنه يشتغل بهذه الصورة، ليُضفي مزيدا من الجمالية والتعلق الروحي بالنص الشعري، الذي يسحر مُتلقيه بكل هذا الفيض الشعري المعبر عن مكنونات الوجدان، ويبقى الحزن في كل الأحوال هو محك الشخصية وهو المفجر لطاقاته وإبداعه، ولولا ذلك ربما لما تمكنت نصوص سعد الجاسم من أن تصل إلى مرتبة شعرية مؤثرة، فحتى حزنه هو جميل ولياليه وشقاؤه، لها نكهة وطعم ولون ورائحة، بل أن ليالي العشق بكل مآسيها هي أجمل ما يختزن في ذاكراتنا من مشاعر وكلمات، تكون هي سمة أصيلة في شخصيتنا، بحزنها وفرحها وشقائها وانحسار أمانيها، وهي جميعا تشكل معيننا الذي ليس بمقدورنا أن نتخلى عنه كونه جزءا أصيلا وفاعلا في تكويننا.

اقتباس: "أعتقد انت تعرفين تماما كم أنا احب قمصانك الحريرية ومعاطف القطنية الناعمة وكم احب مناديلك وخواتمك واساورك، واحب ملابسك الداخلية الملونة كاقواس قزح"

القصائد احتوت على لغة باذخة الجمال، موازية لمستوى الشاعر الثقافي، حيث أنه استخدم بوعيٍّ اللغة التصورية والتعبيرية، واعتمد اللغة الشعرية الملتحمة بالسرد بصورة طبيعية ومؤديا وظيفته البنائية.

ولعلّنا نستطيع أن نستخلص من كُلّ ما تقدّم من تبصُّرات رُؤيويّة وجماليّة مُعزّزة بالوله والعشق، أن نستخلص ما مُؤدّاهُ أنّ المُحدّدات الحميمية عميقة بالمُقوّمات والمُكوّنات والخصائص الجماليّة، وهي واجبة الوجُود في أيّ نصّ يُرادُ لهُ أن تكون فيه إحالةً وُجُوديّةً موضوعيّةً في الواقع الفعليّ عبر شُروعها في إدراك ذاتها، وفي مُتابعة السّعي لاستنهاض ملكات هذه الذّات، وتعزيز قدراتها الخّلّاقة، لتمكينها من الاستمرار في تجديد نفسها تجديدا يأخُذها صوب كمال إنسانيّ تتكفّلُ صيرورةُ السّعي إليه بإثرائها على نحو خلّاق يُثري الحياة، ولعلّنا نُوجزُ الشعر لدى الشاعر محاولة صادقة لسبر أغوار الروح، وكشف أحاسيسه وما يرمي بثه للمستقبل، كما أنه الصوت الذي يكشف الأحلام والرؤى ليعبر عنها سواء كان ذلك بالإغراق في الخيال أو من خلال التأمل في الواقع الملهم والمشاهدات اليومية التي يسطرها الشاعر في لحظة وجدانية صادقة.

فالمشاعر تنطلق وتتقلب في وجدانه وتخرج من عالمه الخاص به الذي لا يدركه، إلى نطاق عالم المحسوسات والموجودات عن طريق أنسنتها ليرسم لنا مشاهد شعرية مغرقة في التجريب زادت في حركية النص باعتماده على لغة فيها الكثير من الإيحاء تارة والتصريح تارة أخرى والتي جمع فيها صاحبها الواقعي والتخيلي بأسلوب يجعلنا نتابع قصائده التي نقرؤها بشغف شديد، ليفتح نافذة في كل جدار ليطل على آخر، يحاول أن يعزف متوهجا ويكتب القصيدة تلو القصيدة، وقد هطلت القصائد بإحساس مرهف يدفعها إلى التعبير عما يحيط بها، باعتماده على قوالب إبداعية غاية في الدقة والإتقان ليعبر عن تجربة ذاتية تنبثق من قلق الشاعر الوجودي لتنتهي بدهشة القارئ.

وفي الختام يمكن القول إن القصائد قد نجحت في شد القارئ إليها والتي لمست فيها خصوصيات جمالية ودلالية تعكس تجربة الشاعر التي تستدعي مدلولات شتى، ورؤى متعددة تحتاج إلى درجة كبيرة من الوعي والتأمل والإدراك لمدلولها الفكري وبعدها النفسي وجوهرها الفني، فقد طرح الشاعر رؤاه الجديدة من خلال تساؤلاته وأسلوبه الشعري من ناحية الصيغة اللغوية المختلفة والمغايرة التي يرى من خلالها الشاعر صوته وصورته، وصور ما يحيط به من موجودات وما يحس بيه من محسوسات، ليبوح بمواجعه الذاتية وآلامه في شكل زخات إبداعية، وهو ما يجعل شعره أشبه بصرح من قوارير يلهب زفير الكلمات ويفتح لنا أبواب التمعن والبحث.