السعادة والوعي الفلسفي

الفلسفة ليست متعة للتفكير فحسب بل هي متعة للعيش أيضاً.
الفيلسوف الفرنسي باسكال يضعُ الإنتحار ضمن المساعي اللاوعية لتحقيق السعادة
كانت الشوارعُ فضاءً مفتوحاً أمام سقراط لنشاطه الفلسفي
الإنتحار بوصفه محاولةً للتعافي من سقم الروح

تزايد الشعورُ بضرورة الهدوء النفسي وتنظيم الإنفعالات مع الإنفجار الذي يشهده العالم اليوم في عملية الإنتاج والإستهلاك وتأجيج القنوات الإعلامية للرغبة الشرائية التي توهم بتوفير السعادة، وفي الواقع لا تحققُ شيئاً سوى دعم ماكينة السوق وتضخم السلع، كما أنَّ التسابق لتقديم وصفات السعادة على غرار برنامج المأكولات والحمية الغذائية جزء من المشهد التسويقي هذا ناهيك عن إستضافة خبراء التنمية البشرية في القنوات الإعلامية، والترويج للقصص الوهمية بشأن مسيرة شخصيات رأسمالية، وتمكن هؤلاء من الصعود نحو قمة المجد المالي في مدة وجيزة ما يعني أنَّ الهوس بالسعادة قد أصبح متغلغلاً في الثقافة العالمية. ورافق ذلك نشوء التدجيل والشعوذة. 
علماً بأنَّ مفهوم السعادة لا يخلو من التناقضات والإنهمام على هذا الموضوع قد يكون عاملاً وراء الإحباط عندما يتمُ تجاهل ما هو بالإمكان يغتربُ المرء عن حاضره. هنا يجبُ السؤال عن دور الفلسفة فيما يمكن تسميته بإشكالية السعادة. وأي وظيفة تقومُ بها الفلسفة على هذا المستوى؟ هل ثمة فرصة لمناورة فلسفية في عصر عنوانه تغول ظاهرة التشيؤ؟ ومن المعلوم بأنَّ السعادة هي الشغل الشاغل بالنسبة للإنسان وبدورها تشتغلُ الفلسفة على كل ما يمتُ بصلةٍ إلى الكائن البشري، لذلك لم يكن مفهوم السعادة بعيداً عن تناول المباحث الفلسفية. 

الفلسفة الأبيقورية تمظهرات في رؤية كثير من الفلاسفة لعل سبينوزا  وماركس ونيتشه من أبرزهم

صحيح قد تتفاوت الآراءُ حول ما يكون قاعدة لحياة هادئة أو معيشة أقلَ توتراً وتعاسةً. وما يثير الإستغراب أنَّ الفيلسوف الفرنسي باسكال يضعُ الإنتحار أيضاً ضمن المساعي اللاوعية لتحقيق السعادة.
تتضحُ صحة هذا الكلام عندما نفهمُ الإنتحار بوصفه محاولةً للتعافي من سقم الروح. ذلك المرض الذي عانى منه كثيرُ من المبدعين. يكتبُ نيتشه لمالفيدا لافتاً إلى أن ألمه مرتبط بعمق بأزماته الروحية ويعبرُ عن شكه حول ما يمكن أنْ يفعله الطبُ لإسترداد عافيته. وهذا موضوع يتطلبُ دراسة متعمقة لفهم جذور العلاقة القائمة بين السوداوية والإبداع. ومن المعلوم أن الإنهماك على المعرفة لم يمنع بعضَ الفلاسفة من الإقدام على الإنتحار. هنا نشير إلى أمبادقليس الذي أراد بإنتحاره البرهنة على أنه جديرُ بأن يكون إلهاً. وكان الإنتحار مباحاً لدى الرواقيين، ويقال بأنَّ كل من زينون وكليانثيس قد وضعا حدا لحياتهما. الأهم في هذا الإطار هو معرفة أسباب الشقاء وماتقدمه الفلسفةُ للتخفيف من فعالية المشاعر الحزينة.
مكر السعادة
لعلَّ سقراط هو من كان أكثرَ إدراكاً بعدم ديمومة السعادة ومكرها، لذا قال بأنَّ السعادة هى ما لا يعقبه الإحساس بالندم. يفيدُ منطوق كلام فيلسوف الفضيلة بأنَّ ما يولد الشعور بالسعادة لدى الإنسان قد يدفع به نحو مهوى التعاسة لاحقاً إذاً ربما يكون الحل هو عدم ارتفاع سقف التوقعات حول ما يقع خارج ذاتك أو بتَ تابعاً لغيرك. لأنَّ حجم الخيبة يكبرُ أكثر كلما كان الأملُ معقوداً على الخارج.  

Philosophy
أبيقور

يقول نيتشه بهذا الصدد "لاشيءَ يساعدُني لا بدَّ أن أساعد نفسي وإلا فأنا منته". كما أنَّ حدةَّ القلق والإضطراب لن تخفَّ دون التحكم بالإنفعالات، ومن الضروري أيضاً التفريق بين ما في قدرتك وتحت تصرفك، وما هو فوق إمكانياتك، وإنَّ مهتتك أنَّ تكون ذا شأن في تلك الأمور التي هي في قدرتك هذا ما ينصحنا به إبكتيتوس. 
هنا يجبُ الإشارة إلى أنَّ هذا الرأي لا يكرسُ مبدأَ الإستسلام بقدر ما يؤكدُ على أهمية ما يعيشهُ الإنسان في هذه اللحظة "تمتعْ بيومك" وفق حكمة هيوراثيوس ما يعني أنَّ المراهنة على المجهول أو الأمل هو شر البلية على حد تعبير مؤلف "هذا هو الإنسان". 
يتقاطعُ الرواقيون مع أتباع الفلسفة الأبيقورية في هذه النقطة أي رفض تعويض الحاضر بالمستقبل المجهول. بالطبع ما أن يدور الكلام عن العلاج الفلسفي للأزمات الإنسانية على مختلف الأصعدة حتى تنصر ف الأنظار إلى الرواقيين والأبيقوريين على إعتبار أنَّ هؤلاء قد بادروا بتأسيس مقومات الفلسفة العملية. 
يعتقدُ جون غرايش بأنَّ ما يحرك الفيلسوف وفقاً للمباديء الأبيقورية هو هم إسعاف المرضى. كما أنَّ أراء الفلاسفة تستمدُ قيمتها برأي أبيقور من وظيفتها العلاجية إذ يرى بأنَّ لا جدوى من فن الطب إذا لم يخفف من آلام الجسد، كذلك الأمر بالنسبة للفلسفة ستصبحُ عبارة عن رطانة لفطية إذا لم تلخصنا من وجع النفس. إذاً يستحيلُ العيشُ بالسعادة دون التمسك بالنزاهة والإعتدال والحكمة، لكن من أين نتعلم هذه المباديء الثلاثة؟
متعة العيش
ليست الفلسفة متعة للتفكير فحسب بل هي متعة للعيش أيضاً، فلا بدَّ أن تكونَ عاملاً لتحسين نمط المعيشة. وذلك يتم بتشخيصِ أسباب القلق والتوتر وتشذيب الأفكار من الوهم الذي يعتمُ الرؤية. 
أكثر مما سبق فإنَّ جانباً آخر من أهمية المسعى الفلسفي تكمنُ في تفحص الأفكار والعزوف عن إطلاق الأحكام على الظواهر قبل تفهمها، وبهذا يمكنُ تعقل أسلوب الحياة. ونحنُ بصدد الحديث عن دور الفلسفة في إستقامة التفكير والإعتدال في الرغبات والتخلص من الأوهام، فلا بدَّ من التوقف عند ما يراه أبيقور سبباً لتضاعف معاناة الإنسان إذ تأتي الظنون الخاطئة في المقدمة. فيجبُ الإقرار بأنَّ الإنسان ليس كائناً خالداً لذا من العبث إعراض عما هو في متناولك اليوم مترقباً لما يحملهُ المجهول. ويلي ذلك الخوف من الموت. ينصحنا أبيقور بالتعود على التفكير بأنَّ الموت لا شيءَ بالمقارنة معنا وبما أنَّ الإحساس هو ما يحدد الخير والشر، فبالتالي لا تصحُ الخشية من الموت طالما هو يعادلُ فقدان الإحساس. ومن ثمَّ يضيفُ أبيقور الرغبة اللانهائية إلى لائحة ما تنجمُ منه حياةُ مرهقة. هنا من الضروري أن يتمَ التمييز بين الرغبات الباطلة، والرغبات الطبيعية، يضعُ "صاحبُ الحديقة" سلماً تراتبياً للأخيرة، ويتصدرُ ما يخدمُ الحياةَ والبقاءَ وتأتي تالياً الرغبات التي تتوقف عليها راحة الجسد وهكذا دواليك. 

كما أنَّ الصبر على الآلام هو ما يطالبُ به أبيقور، فبرأيه لا يوجدُ ألم دائم وفي ذلك مصدر للعزاء. وما يمكنُ  التوصل إليه بناءَّ على الآراء المذكورة أعلاه أنَّ راحة النفس هو ما تهدف إليه الفلسفة الأبيقورية والإنسان الذي يحظى براحة النفس لا يزعج نفسه ولاغيره.
يشارُ إلى أنَّ الفلسفة الأبيقورية تمظهرات في رؤية كثير من الفلاسفة لعل سبينوزا  وماركس ونيتشه من أبرزهم، وما أنجزه فرويد بعد إستغواره في قارة اللاشعور تجدُ مؤشراته في مضمون مقولة أبيقور "أننا لسنا بارزين جلياً لذواتنا لكن غالباً ما تحركنا إعتقاداتُ نجهلها".  ما يجدرُ بالإشارة في هذا المقام أنَّ أبيقور ولد 241 ق.م لأبوين أثينين، رحل إلى آسيا الصغرى حيث جذبته فلسفة ديمقريطس وبعدما يعودُ إلى موطنه يقومُ بتأسيس "الحديقة" مع جماعة من أتباعه، وبذلك ذاع صيته بحديقته كما اشتهر إفلاطون بأكاديميته وزينون برواقه الفلسفي. أما سقراط فكانت الشوارعُ فضاءً مفتوحاً لنشاطه الفلسفي.