السعودية لاعب إقليمي لا يمكن الاستغناء عنه

أكثر ما يثير غضب تركيا وإيران أن السعودية اليوم هي المشروع الثالث البديل للمنطقة.

دائما ما يردد المسؤولون في الولايات المتحدة أن السعودية دولة مهمة ومؤثرة تتمتع بثقل ديني واقتصادي وسياسي، لكن على الرغم من ذلك هناك محطات ما بين الجذب والشد. ومن المهم أن توثق أميركا علاقتها بالرياض وان ترتقي هذه العلاقة إلى شراكة، خصوصا وأن العلاقة بين البلدين قديمة منذ اجتماع الرئيس فرانكلين روزفلت مع الملك عبدالعزيز آل سعود في منطقة البحيرات على متن إحدى السفن الأميركية عام 1945 في طريق عودته بعد اجتماع في يالطا لمناقشة مستقبل أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. اتفق الملك عبدالعزيز مع روزفلت بأن إسرائيل تهدد العلاقة بين البلدين فوافق روزفلت بأن أميركا لن تدعم قيام دولة لليهود، لكنه توفي بعد شهرين وأتى هاري ترومان الذي كان أكثر تصالحا مع إسرائيل.

أعقب ذلك الاجتماع زيارة الأمير فيصل بن عبدالعزيز في نفس العام إلى أميركا لحضور تأسيس الأمم المتحدة، وتم توقيع اتفاقية الدفاع المشترك عام 1951 وفي نفس السنة تم تحويل اسم شركة كاليفورنيا أربيان استاندرد أويل إلى الشركة العربية الأميركية للنفط التي عرفت فيما بعد بشركة أرامكو.

ومرت على المنطقة حرب أكتوبر 1973 التي قطعت السعودية النفط عن العالم الغربي المؤيد لإسرائيل، وانتقاما من السعودية دعم الغرب الثورة الخمينية عام 1979 وتزامن معها بزوغ الصحوة الإسلامية التي هي الأخرى كانت نتيجة بعد اقتحام جهيمان للحرم الشريف، تلاها غزو صدام حسين للكويت عام 1990 بعد خسارة الاتحاد السوفيتي لحرب أفغانستان عام 1989 كمقدمة لانهياره رسميا عام 1991.

كان أكبر تهديد للسعودية قيام القاعدة بضرب أبراج التجارة في نيويورك عام 2001 التي اتهمت فيها السعودية، ثم الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي ضربت العالم الغربي، لكن كانت أحداث 2011 التي ضربت العالم العربي أقوى ضربة مرت عليه عبر التاريخ الحديث التي كانت اختبارا للدول العربية، وكانت السعودية الدولة الوحيد التي استطاعت الدفاع عن دول مجلس التعاون وأنقذت مصر من تيار الإخوان المدعوم تركيا وبتمويل قطري مما جعل الغرب يعترف بقدرات السعودية كدولة قائدة.

كان الغرب ينظر إلى تركيا وإيران وإسرائيل من قبل الغرب باعتبارهم أكثر اللاعبين الإقليميين تطلعا للمستقبل، والأسرع تجاوبا مع المتغيرات الدولية، والأقدر فهما للتحولات الجديدة، مما أتاح لهم أن يصبحوا في قلب التحولات الإقليمية، فيما كان ينظر للعرب بأنهم أكثر بطئا، وأكثر تثاقلا، بسبب تمسكهم بالأيديولوجيات أو أيديولوجيات الماضي التي تعيق تطورهم وفهمهم للمتغيرات والتحولات الدولية، خصوصا وأن إيران نجحت في إلصاق تهمة تصدير السنة بقيادة السعودية للإرهاب أثبتتها أحداث 11 سبتمبر لتدعم نظرية إيران.

بعد عام 2013 كان نجاح السعودية في الحفاظ على منطقة الخليج مبهرا وخصوصا البحرين والمنطقة الشرقية من السعودية، لكن تمكنت إيران من اختراق اليمن بعدما تحالف علي عبدالله صالح مع الحوثيين، مما مكن إيران من التوغل في اليمن وأجبر السعودية الدخول في حرب لاستعادة الشرعية بالاعتماد على القرار الدولي 2016.

وبعد دعم السعودية الجيش المصري وثورة الشعب المصري اللذين انقلبا على حكم الإخوان عام 2013، ظهرت ثلاثة معسكرات في المنطقة. أول هذه المعسكرات هو المعسكر الإيراني الذي توغل في العراق الذي تعتبره الآن تابعا لها، ثم التوغل في سوريا، وتمددت كالورم السرطاني في المنطقة العربية تدعمها المليشيات التي أنشأتها بقيادة حزب الله إلى جانب التنظيمات الجهادية السنية مثل داعش والقاعدة للوصول إلى البحر المتوسط والالتقاء بحزب الله في لبنان.

لكن حينما وجدت إيران أنها لم تتمكن من الصمود في سوريا استعانت بروسيا التي هي الأخرى وجدت فرصتها في الوصول إلى مياه البحر المتوسط وقطع الغاز القطري الإيراني الذي يمكن أن يعبر سوريا إلى أوروبا مما تم تعقيد الأزمة السورية، والمعسكر الثاني التركي القطري الإخواني، والثالث السعودي المصري الإماراتي.

فبعد أن كان هناك محورين في المنطقة هما المحور الإيراني والمحور التركي برز محور ثالث عربي بقيادة السعودية، لكن هذا المحور أحدث نقلة بإعلان الحرب على الإرهاب خصوصا بعد زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسعودية، ثم واصلت السعودية تصديها للتشدد المتمثل في الصحوة الإسلامية التي تزامن بزوغها مع الثورة الخمينية وكليهما مشروعين أيديولوجيين يعتمدان على تجييش المذهبية الشعبية والبحث عن أوهام ولاية الفقيه والخلافة وإنشاء ميليشيات، بينما المشروع الثالث الذي تقوده السعودية يعتمد على استعادة الدولة الوطنية.

لكن وعكة 2011 العربية أيقظت السعودية عندما وجدت النار تلتهم المنطقة، وبعدما ألقى الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما على المنطقة العربية عواصف الدمار وسقطت على اثر ذلك العديد من الدول العربية، وتركت فراغا ملأه المحوران الإيراني والتركي.

لم يكن أمام المحور الثالث بدا من المواجهة خصوصا بعدما ارتدت ضربات 2011 على العالم الغربي، وامتدت نار الإرهاب وموجة اللاجئين ليس فقط من الدول المنهارة بل استغلت الدول الفقيرة في أفريقيا تلك الدول للعبور عبرها إلى أوروبا، كذلك وجدت أميركا وحليفتها إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط أن مصالحهما مهددة فلم تجد سوى السعودية الحليف الموثوق في لعب دور رئيسي في استعادة الاستقرار في المنطقة.

التحالف بين السعودية الجديدة والإدارة الأميركية الجديدة التي بدأت في مواجهة محور الشر، كان ضرورة خصوصا في مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة، لكن السعودية لم تتناسَ المحور الثاني التركي القطري الإخواني من خلال مقاطعة قطر كممول لإضعاف هذا المحور.

حاولت السعودية في نفس الوقت منع التواجد الإيراني والتركي في منطقة البحر الأحمر، واحتوت السودان التي حاول أردوغان التواجد في ميناء سواكن السوداني المواجه لميناء جدة. وبعودة السودان إلى السعودية أضعف التواجد التركي في سواكن بل انتهى بعد رعاية السعودية مصالحة بين أرتيريا وأثيوبيا وجيبوتي والصومال أي أن المنطقة أصبحت تحت رعايتها لضمان مصالح مصر بعدما حاولت قطر وتركيا أن تدعما بناء سد النهضة في أثيوبيا للتأثير على حصة المياه المصرية.

لكن قضية مقتل خاشقجي التي ارتكبتها مجموعة أفراد من الاستخبارات السعودية خارج سياق الإدارة السياسية، منحت أردوغان ورقة للعب مستثمرا هيمنة الديمقراطيين على البرلمان الأميركي في المقابل هيمنة الجمهوريين على مجلس الشيوخ، فوجد أردوغان صدى في أميركا من قبل الديمقراطيين.

إدارة الملك سلمان لدفة الأزمة وأفراغها من التسييس، أربك المسعى التركي وانتقل أردوغان مباشرة إلى اتهام ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وإلى الضغط على أميركا ظنا أنه قادر على إزاحة الأمير محمد بن سلمان صاحب مشروع القضاء على المحورين الإيراني والتركي القطري ويمكن أن يحل محله شخص متعاطف مع المشروع الإخواني. لكنه فوجئ أن أميركا وفرنسا وبقية الدول التي تبحث عن مصالحها، لم تكن مهتمة بهذا التصعيد خصوصا وأن المستشارة ميركل هزمت في قيادة حزبها داخل ألمانيا فخف صوتها.

إلى أن اعترفت تركيا مجبرة ورضخت للأمر الواقع عندما وجدت أن العالم أصبح لا يكترث لتسريباتها وأكدت لأردوغان بأن الأمير محمد بن سلمان لم يكن متهما بعدما برأ ترامب الأمير محمد بن سلمان من أي تهمة، وبرر ذلك بأن أي عقوبات على السعودية سيرفع أسعار البترول إلى 150 دولار للبرميل وسيهدد الاقتصاد العالمي والأميركي بشكل خاص إلى جانب تحول السعودية بشكل كامل إلى روسيا والصين.

وحذت فرنسا وبريطانيا حذو الولايات المتحدة وإن كانتا تودان استغلال قضية خاشقجي لتضعا حدا للحرب في اليمن والمطالبة بأن تخفف السعودية الضغوط عن قطر لتوحيد الجبهة الخليجية أمام إيران. استجابت السعودية ومصر اسميا لتلك الضغوط وقدمت كل منهما إشارات سواء في خطاب الأمير محمد بن سلمان في منتدى الاستثمار بأن قطر جزء من الاقتصاد المستقبلي، أو كما أشار السيسي في معرض أحد خطاباته عن قطر.

فالكرة الآن في ملعب دولة قطر التي عليها أن تتوقف عن التمويل الذي يهدد ليس فقط الدول الخليجية بل حتى الدول العربية، والانخراط في المنظومة الخليجية والعربية، والتوقف عن إدارة المحاور التي انتهى زمنها، خصوصا بعدما اعترف حزب الإصلاح اليمني في لقاءات أبوظبي اتهام قطر بتقويض الأمن في اليمن وفي المنطقة.

على قطر وتركيا وإيران أن تدرك أن الزعامة ليست تضخما إعلاميا، كما أن الدول الكبرى لا تقاس فقط بالقوة النووية، فأميركا تمتلك من المقومات حتى الآن ما لا تمتلكه الدول الأخرى. كذلك السعودية تمتلك من مقومات القوة ما لا تمتلكه إيران أو تركيا، فمثلا تبقى إسرائيل أكبر قوة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط لكن صغر مساحتها وهي محاصرة بدول لا ترغب فيها لا يؤهلها لقيادة المنطقة، وهو ما ينطبق على قطر التي تمتلك ثالث احتياطي من الغاز لكن صغر مساحتها لا يؤهلها حتى ولو دعمت اقتصاد الغاز بقوة إعلامية، وأصبحت اليوم محاصرة، ولو كانت قوة كما تدعي لما تمكنت الدول من محاصرتها، ولكن لإعطاء قطر فرصة لقياس قوتها الحقيقية التي لن تكون مع تركيا قوة بل مع السعودية.

فحلم زعامة عبدالناصر وصدام حسين والقذافي هو الذي دمر هذه الدول، كذلك إذا استمر أردوغان في هذا الحلم سيدمر بلده على غرار إيران التي لم تستطع البقاء في سوريا واستعانت بروسيا مما همشها وجعلها دولة تابعة لروسيا في سوريا تحقق مصالحها، بينما تحاور إيران الارتزاق والاحتماء بالقوة الروسية رغم ذلك تم تدمير مواقعها من قبل إسرائيل، لأن الزعامة نتيجة وليست مطلبا، والسعودية روحيا هي القائد مهما حاولت تركيا وإيران التقليل من مكانة السعودية، فالحجاج والمعتمرون يشهدون للسعودية، بينما إيران وتركيا لا تمتلكان شيئا مقدسا للمسلمين، رغم إيران تحاول ابتداع مواقع مقدسة، ولكنها حتى ليست لكل الشيعة، لأن هناك شيعة لا يقبلون بمثل تلك البدع والخرافات التي تبتدعها إيران لمنافسة السعودية.

تركيا وإيران خسرتا كل استثماراتهما التي تم ضخها بعد حروب الربيع العربي، وحتى التمدد التركي الإيراني العسكري الذي حاولتا فرضه على حساب دولة عربية صغيرة قطر في البحر الأحمر والخليج العربي خسرتاه أو أنه مؤقت ستخسراه، والفرق بين تركيا وإيران من جهة والسعودية من جهة أخرى أن السياسة الخارجية السعودية دفاعية وليست هجومية كما هو حال تركيا وإيران.

تبني السعودية شبكة من التحالفات الدفاعية مثل الشبكة الدفاعية لحرب اليمن ومن قبل لإخراج صدام حسين من الكويت. رغم ذلك لا تريد السعودية خلق شروخ مع تركيا، باعتبارها دولة مهمة وكبرى، وكذلك لم تصطدم مع روسيا في سوريا، وهو ما كانت تتمناه إيران وحتى أميركا، لكن ما حدث العكس وهو التحالف مع روسيا في قيادة أسواق النفط من أجل البحث عن استقراره بعد مرحلة من التنافس حول الحفاظ على الحصص التي وجدت أنها لا تصب في صالح الدول المصدرة.