السعي إلى ارتياد مسارات بلاغية غير مطروقة

عماد عبداللطيف يذكر أن رحلته في دروب البلاغة علمته الكثير عن البلاغة والبشر، والمجتمع، والحياة، وعن نفسه قبل كلِّ شيء.
بلوغ نقطة الوصول المستهدفة ما هو إلا نتيجة طبيعية للتعلم من خبرة السير في الطريق
في استعادة الوظائف العمليّة للبلاغة الجديدة برهانا جديدا على حيويتها وضرورتها

صدر مؤخرًا كتاب "البلاغة العربية الجديدة: مسارات ومقاربات"، للدكتور عماد عبداللطيف. يسعى الكتاب إلى ارتياد مسارات بلاغية غير مطروقة، وتعبيدها أمام الباحثين. ورغم وعورة السير في سُبل غير معبَّدة، فقد واصل مؤلف الكتاب هذه الرحلة، مدفوعًا بحكمة قديمة تقول إن "الغاية هي الطريق"؛ أي أنّ ما يتعلمه الإنسان، ويكتشفه خلال سيره في طريق رحلته المعرفية أو الإنسانية هو الغاية الأسمى للرحلة نفسها. أما بلوغ نقطة الوصول المستهدفة فما هو إلا نتيجة طبيعية للتعلم من خبرة السير في الطريق. ويذكر مؤلف الكتاب الدكتور عماد عبداللطيف، أن رحلته في دروب البلاغة غير المطروقة، علمته الكثير عن البلاغة، والبشر، والمجتمع، والحياة، وعن نفسه قبل كلِّ شيء.
يقدِّم الكتاب تصورًا للعلاقة بين بلاغات الماضي والحاضر، يقوم على صهر البلاغتين معًا، واستعمالهما لَبِنة في صرح بلاغة المستقبل. فلم تقم الفصول الثلاثة الأوَل من الكتاب بمحاولة لتصحيح سرديات التاريخ فحسب، بل استهدفت في المقام الأول شق مسارات بلاغة جديدة، تغير صورتنا عن بلاغة الماضي، وتصنع تصورنا لبلاغة المستقبل. وعلى النحو ذاته، كانت الفصول الثلاثة التالية لها تنسج خيوطًا شتى بين بلاغات الماضي وبلاغات المستقبل؛ سواء بواسطة اقتراح سبل لتجديد مفاهيم البلاغة القديمة، أم مراجعة مواقف مشاريع تجديد البلاغة من التراث البلاغي، أم فحص عوامل ازدهار هذه المشاريع وذبولها.
انطلق القسم الأول من مسلَّمة غير مصرَّح بها، هي أن التراث البلاغي سيظل حيًّا في البلاغة الجديدة؛ سواء منظورًا إليه بوصفه فرصةً أم تحديًا. وقد رأينا كيف يُمكن تجديد مفاهيم بلاغية قديمة، مثل مفهوم أركان البلاغة، لتصبح أدوات لبلاغة المستقبل. وعلى النحو نفسه، رأينا كيف تَحيا البلاغة القديمة في مشاريع تجديد البلاغة العربية حتى منتصف القرن العشرين بصور شتى. حتى حين يسعى مشروع منها إلى تجاهل البلاغة القديمة وإزاحتها فإنه لا يملك إلا أن يُحيي الحديث عنها بواسطة نقده لها. 
على النحو ذاته، رأينا كيف ينصهر الماضي في بعض بلاغات الحاضر، إما في شكل قوائم مصطلحات أو أدوات تحليل أو مفاهيم. وقد تواصل هذا التصور الذي يصهر تراث البلاغة في بوتقة الحاضر في بقية فصول الكتاب. ففي القسم الرابع المتعلق بتدريس البلاغة الجديدة، كانت تجارب الماضي لبنةً أساسية من لبنات مقترح تدريسي للمستقبل، حتى في توجه بلاغة الجمهور الذي يقيم علاقة عكسية في بعض جوانبه مع التراث البلاغي، فإن التراث البلاغي المهتم بالمخاطَب، مثّل جزءًا من أرضية التأسيس.
يقدم كتاب البلاغة العربية الجديدة صورة حيّة للبلاغة الجديدة تحتفي بتنوعها، وثرائها. فقد تضمَّن مداخل للبلاغات المصريّة القديمة والصينية والهنديّة واليونانيّة. وعرّج على بلاغات مهمّشة مثل البلاغة الأفلاطونية، وقارب مشاريع تجديد البلاغة العربية، وعرَّف بمسارات ومقاربات شتَّى، عربيًا وغربيًا؛ تشمل بلاغة المرئي، والبلاغة الفاحصة، والبلاغة المقارنة، والبلاغة عبر الثقافات، والبلاغة والإيديولوجيا، والبلاغة الرقمية، والبلاغة النقدية، وبلاغة الجمهور، وغيرها. 
يزداد تقديرنا لهذا الثراء والتنوع البلاغيين إذا نظرنا إلى خريطة جغرافيا إنتاج البلاغة العربية الجديدة في زمننا الراهن. فالملاحظة الأساسية هي أن البيئات العربية كلها ممثلة تقريبًا في هذا المسعى لإنتاج بلاغات جديدة. ولم يعُد هناك مركزية ملموسة لبلد دون آخر أو منطقة جغرافية دون أخرى، وتكاد تختفي ثنائية المشرق والمغرب في ظل تعميق التواصل المعرفي؛ لتكون هناك بيئة بحثية عربية واحدة شبه منسجمة.

العلوم التي تنشأ استجابة لحاجة في زمن ما، قد يستمر وجودها بفعل العادة والتقاليد عبر الزمن، حين يفشل اللاحقون في إدراك العلل المحركة لنشأتها

يذكر المؤلف أنه على الرغم من هذا التقارب بين البيئات البحثية العربية، فإن واقع التنوع والثراء يكشف عن خصيصة مهمة للبلاغة المعاصرة هي ميلها المطّرد إلى تغيير هويتها وصورتها إلى حد أنه يصعُب على بعض الباحثين تعرُّفها، خاصة ممن تبنوا تصورًا بعينه للبلاغة، وظلوا متمسكين به. ويُعبِّر السؤال الاستنكاري "أهذه بلاغة؟!!"، عما أسماه الدكتور عماد عبداللطيف "صدمة الهويّة المعرفيّة"، حين يكتشف بعض الباحثين أن هويّة علم كامل قد تغيرت إلى حد لا يكاد يتيح تعرُّفه. تؤدي "صدمة الهويّة المعرفيّة" إلى تنازع على من يمتلك حق تمثيل العلم. وكلما كان وجه البلاغة الجديد مغايرًا لوجوهها القديمة زاد هذا التنازع حديّةً وشراسة. ومن الشيق دراسة لحظات التحول بين الوجوه المتتابعة للبلاغة علمًا وكلامًا، ورصد كيف يجري التفاوض على حل النزاعات بين المتشبثين بالصورة التقليدية والمجددين، على نحو ما نرى على مدار صفحات الكتاب.
يرى المؤلف أن كتابه يستند إلى حقيقة أن المعارف تنشأ تلبيةً لحاجات عمليّة، تلك حقيقة تدعمها شواهد التاريخ. ولم تكن البلاغة منذ ابتكرها الإنسان استثناءً من ذلك. فالبلاغة بوصفها كلامًا يُنجز إقناعًا وتأثيرًا أو جمالًا، أم علمًا يُرشد إلى طرق إنتاج هذا الكلام، ويحلله، ويقيِّمه، وينقده، تُلبي حاجات عمليةً ماديةً ومعنويةً للبشر. لكن سيرة المعارف تضعنا أمام حقيقة أخرى تدعمها أيضًا شواهد التاريخ، هي أن العلوم التي تنشأ استجابة لحاجة في زمن ما، قد يستمر وجودها بفعل العادة والتقاليد عبر الزمن، حين يفشل اللاحقون في إدراك العلل المحركة لنشأتها. وقد جرى ذلك على علم البلاغة، مثل غيره من العلوم. إذ تحوَّلت إلى معرفة مقصودة لذاتها، وتوقفت عن أن تكون أداة تُحقق أغراضًا عملية محدّدة للأفراد والمجتمعات.
يشرح المؤلف أن كتابه حرص على استعادة الوجه العملي لعلم البلاغة. فعلاوة على وظائفها الأساسية سابقة الذكر، رأيناها، على مدار صفحاته، أداةً لبناء أرضية مشتركة بين الثقافات والحضارات بفضل ما تُنجزه البلاغة المقارنة والبلاغة عبر الثقافات، وأداة فهم تاريخ الإنسان، وخصوصيات الأمم والشعوب بفضل ما تُنجزه البلاغة المقارنة، وأداةً لفهم وظائف العلامات المرئية في إنجاز الإقناع والتأثير في زمن الصورة بفضل ما تُنجزه البلاغة المرئية، وأداة لنقد خطابات الهيمنة والتلاعب، بفضل ما تُنجزه المقاربة النقدية، وأداة لإعطاء صوت لجمهور الصامتين، بفضل ما تُنجزه بلاغة الجمهور، وغيرها. ولعل في استعادة الوظائف العمليّة للبلاغة الجديدة برهانا جديدا على حيويتها وضرورتها.