السلطة في الشارع فمن يستلمها؟

في غياب الرئيس القوي والمنقذ التاريخي يتوقف إنقاذ لبنان على الخروج الجماعي من معتقل الغرور والغطرسة والحقد والشعور الوهمي بالاكتفاء الذاتي المعرفي.
مآسي الشعوب تتولد عموما من نشوة الجماهير
نحن آباء هذا الشرق وأبناؤه منذ كنعان وآرام وقدموس وتغلب ولخم والتنوخيين والمعنيين
هل ننتصر على حزب الله ويتوحد لبنان أم ينتصر علينا ويتقسم لبنان أم ننتصر معا ويحيا لبنان؟

في مثل هذا اليوم، 19 آب/أغسطس 1934، حصل أدولف هتلر على نسبة 88% من أصوات الناخبين وأعلن نفسه فيوهرر الشعب الألماني. النسبة المرتفعة غير ديمقراطية؛ فكلما ارتفعت النسب اتضح أن الشعب ضحية غسل دماغ شعبوي وديماغوجي يسوقه إلى الخـيار الجماهيري الأعمى بدل الخـيار الفردي الواعي. مآسي الشعوب تولد عموما من نشوة جماهيرها.

قليلون قادة الأمم الذين اكتسحوا عواطف الشعب ولم يكتسحهم الغرور. وإذ العظماء يغطون غرورهم بالإنجازات العظيمة والمنطق الإيجابي، أصحاب العقول الوسيطة يستوطنهم الغرور، في أي عمر، فيفيضون غطرسة. والغطرسة تفرز شعورا وهميا بالاكتفاء الذاتي المعرفي يجعل الزعيم والقائد والرئيس يرفضون الفكر والرأي والنصيحة. ورفض هؤلاء يقود إلى الاستبداد والفشل. وكلما تفاقم الفشل تحول كوارث. والكوارث، بعضها يــجــر البعض الآخر... نحن في قلب الكوارث.

لم يصل أحد في لبنان إلى نسبة 88% لا في انتخابات ولا في استطلاعات رأي. ورغم ذلك أصاب البعض "الشعور الوهمي بالاكتفاء الذاتي المعرفي"، فراحوا يتصرفون على وقع الغرور المتوتر والمزاجي حتى أصبحت الأزمة اللبنانية رهينة الغرور بقدر ما هي رهن صراعات الشرق الأوسط. لا مشكلة حين الغرور يقتل صاحبه، المشكلة حين المغرورون يقتلون شعوبهم. لذلك، واجب الشعب أن يستبق الحكام ويقبض على السلطة.

في كتابه "تاريخ الثورة الروسية"، ذكر ليون تروتسكي: "السلطة موجودة في الشارع ولا أحد يستلمها". أجل السلطة اللبنانية التي نزحت عن الشرعية اللبنانية تنتظر الشعب أن يعيدها إلى دولة حرة، وطنية وقوية. من يلتقط السلطة: العهد الآفل؟ الشعب؟ الجيش؟ حزب الله؟ تحالف أحزاب؟ تحالف الشعب والجيش؟ وصاية دولية؟ كان يفترض بـــ"الثورة" أن تقوم بالـمهمة، لكن الثورة تراجعت مع أن كل ما حدث ويحدث يشكل مواد كافية لتشعل ألف ثورة...

وبالمناسبة، هل يعقل أن جميع التشكيلات الحكومية، بعد 17 تشرين الأول/اكتوبر 2019، تجاهلت كل تجمعات الثوار؟ وكيف ثورة جدية تسمح أن تتألف حكومة بدونـها؟ إن الوضع مفتوح على جميع السيناريوهات بقدر ما هو منهار على جميع الأصعدة. وبدأنا نلاحظ ظواهر خطيرة ومعـبـرة: الشعب تناسى السيادة أمام الجوع، والعدو أمام ظلم ذوي القربى، والقانون أمام سقوط المؤسسات، والـملكية الخاصة أمام الحق السائب (هل سمعتم أهالي ضحايا عكار والمرفأ؟).

الصراع على الدولة المتهاوية امتد إلى الوطن الصامد. نحن هنا، عند هذا المفترق المصيري: هل ننتصر على حزب الله ويتوحد لبنان، أم ينتصر هو علينا ويتقسم لبنان، أم ننتصر معا ونحيا معا ويحيا لبنان؟ الحالتان الأوليان مستحيلتان لأنهما مشروع حرب أهلية يشتهيها الخارج ليعود، ولا نشتهيها نحن لنبقى متحدين. أما الحالة الثالثة فتراوح بين الممكن والمستحيل. هي ممكنة إذا التزمنا جميعا بدولة لبنان، وأنهى حزب الله الازدواجية بينه وبين الدولة، وجلسنا سوية نبني لبنان الحيادي، الديمقراطي، اللامركزي، والمدني. وهي مستحيلة إذا تابع حزب الله مشروعه الموازي الدولة اللبنانية، والمناهض الشعب اللبناني. وهذا ما لا نتمناه.

لبنان يحتاج إنقاذا لا غرقا، ووحدة لا انقساما، وخروجا من الغرور المتوتر والغطرسة المتعاظمة، خصوصا أن جميع التحديات التي تواجه هذه البلاد هي مشاريع تقسيم في حال لم نحسمها معا وأبرزها: الخطر الإسرائيلي، التوطين الفلسطيني، النازحون السوريون، التمدد الإيراني، السلاح غير الشرعي، الصراع الطائفي والمذهبي، والتناقضات المجتمعية. وكما أننا جميعا مسؤولون عن بزوغ هذه المعضلات وتطورها، مسؤولون أيضا عن إعطاء جواب واضح ونهائي بشأنها لنقرر المصير لأن التعايش مع هذه المعضلات الوجودية مستحيل. وبالتالي، إن نوعية هذه المعضلات لا تعالج بتسويات بل بحلول. لا تسوية لأي ظاهرة تؤثــر على كيان لبنان والنظام والصيغة والنسيج التكويني للصيغة اللبنانية.

حتى الآن، لا يزال اختلافنا على هذه المعضلات هو الغالب، وإلا لما كنا في هذا الوضع الحقير. وما وصلنا إلى هنا إلا لأننا كنا نعالج هذا الاختلاف بالتسويات والتسويف والتجاهل إلى أن نفد مفعولها، وأمسينا أمام معادلة "نكون معا أو لا نكون". لا يكفي أن نعلن رغبتنا بالشراكة الوطنية من دون إرادة الفعل وتغيير السلوك ونزع الولاءات الخارجية والاتفاق على "المختلف". منذ الاستقلال والوحدة اللبنانية تتلقى الطعنة تلو الأخرى. يدخلها مكون ويخرج منها آخر. يسقط مشروع عربي ويولد مشروع فارسي. وهكذا دواليك...لبنان تشقق ثم التحم. فتق ثم رئب. انفطر ثم التصق. تصدع ثم التأم. تمزق ثم جمع. انفل ثم اتحد، إلى أن انفلق وانفلقنا...

لبنان هو دولة اتحادية طمحت أن تصبح دولة مركزية فأفشلت. دولة لبنان الكبير تتألف من جماعات كانت تتقاتل قبل إمارة جبل لبنان وأثناءها وبعدها. تاريـخنا الجماعي أخبار قتال وتقاتل وكر وفر واجتياح وسطوة وسيطرة، خلاف تاريـخنا الخاص الـمقتصر بإبداعاته على النخب والأفراد.

ورغم ذلك، غامرنا وأسسنا دولة لبنان الكبير خلاصة مكونات الشرق لتكون مقبولة في محيطها العربي، فإذا بالمحيط يقبلها، ومكونات لبنانية ترفضها. نحن المسيحيين، أبينا أن نكون "إسرائيل ثانية" في الشرق، بل موضوع إجماع بين الشرق والغرب. لكن البعض يصر على أن يجعل لبنان دولة تتعايش مع حالات عسكرية مثلما إسرائيل مع غزة وحماس وسوريا وحزب الله وإيران والتكفيريين... مشروعنا هو التعايش السلمي والحضاري بين الإسلام والمسيحية ومع محيطنا الطبيعي. نحن آباء هذا الشرق وأبناؤه منذ كنعان وآرام وقدموس وتغلب ولـخم والـتـنوخيين والمعنيين. نحن آمنا بالانتماء العربي وأطلقنا الفكرة العربية لتحرر شعوب المنطقة من "التتريك" لا اللبنانيين من اللبننة.

في غياب الرئيس القوي والمنقذ التاريخي يتوقف إنقاذ لبنان على: 1) إنتاج ثورة شعبية جديدة تلتقي مع حكومة إنقاذ حقيقية لا على شاكلة الحكومة العتيدة التي ستعيد إنتاج الطبقة السياسية ذاتها. 2) التفاهم مع قائد الجيش اللبناني على توسيع دوره الوطني في إطار حالة طوارئ تأخر إعلانها، شرط أن يسيطر الجيش على جميع المناطق اللبنانية لا على مناطق دون أخرى. 3) مواصلة السعي لعقد مؤتمر دولي خاص بلبنان يعلن حياد لبنان. 4) الخروج الجماعي من معتقل الغرور والغطرسة والحقد والشعور الوهمي بالاكتفاء الذاتي المعرفي.