السوريون في توقهم إلى الحرية
أكثر من عشرة مليون سوري يقيمون اليوم خارج بلادهم. البعض منهم لن يتخلى عن وطنه الجديد، حتى لو صارت سوريا جنة. فـ"الجنة لسورية" لا تصلح للعيش مقارنة بالحياة العادية في أوروبا.
سوريا كما العراق بلد لا يمكن للمرء أن يطمئن له أو يثق بمستقبله. اتمنى أن أكون على خطأ أو أن تغير الأقدار مسار رياحها. ولكن الوقائع على الأرض تقول إن الانتقال من نظام إلى نظام لا يخلق وطنا.
هناك نوع معتق من الطغيان يبقى مهيمنا على تجربة الحكم بغض النظر عن شخصية الحاكم. ستكون الشعارات مختلفة غير أن الروح هي نفسها. الجوهر هو نفسه.
سوريا التي حكمها حزب البعث من خلال عائلة الأسد عبر 54 سنة لن تتغير في ليلة وضحاها. فكيف إذا حدث تداول السلطة فجأة ومن غير مقدمات؟
سيُقال "ألا تكفي 13 سنة من الحرب لكي تكون مقدمة لذلك الانتقال؟" تكفي 13 يوما أو أقل إذا كان الشعب على دراية بمَن سيحكمه ويقوده إلى الضفة الأخرى. ضفة االحرية التي لم يكن يقف عليها عبر الـ54 سنة الماضية.
كل الذي قيل منذ أن حدث التغيير الذي هو أشبه بالانقلاب هو عبارة عن إنشاء خطابي ينطوي على أمنيات لطالما وضعها السوريون على دفاتر أحلامهم.
السوريون على حق حين يقدمون التفاؤل على التشاؤم. وهم لا يملكون سوى أن يفعلوا ذلك. لقد تعبوا قتلا وتشردا وعذابا وانتظارا وذلا وقهرا وجوعا. آن لهذا الشعب الحي والمنتج والمبدع أن يستريح ليتأمل مكانته بين الشعوب.
ولكن عشرة ملايين من البشر تنتظر في الخارج اكتشفت بعد حياة العزلة التي عاشتها في "سوريا الأسدين" أن الحرية ليست مجرد كلمة بل هي حياة كاملة لابد أن يكون سقفها أعلى مما كان عليه أيام اندلعت الاحتجاجات عام 2011 فلم يعد إسقاط النظام هو مطلبها الأخير.
لا ينحصر الأمر بسوريي الخارج الذين ستشكل عودتهم المفترضة إلى بلادهم عبئا اقتصاديا لن تستطيع الدولة الوليدة تحمله أو التصدي له. سوريو الداخل لا تقل مطالبهم سعة وهم وإن تعرضوا لذل الفاقة لن يتخلوا أو يتراجعوا عن المطالبة بالحرية التي تضمن قيام نظام سياسي لا يحيد عن العدالة الاجتماعية لأسبب عقائدية.
تعبت سوريا من العقائد.
ذلك ما لا أظن أن القائمين على النظام السياسي الجديد سينظرون إليه بطريقة جادة ويضعونه في اعتبارهم لا لشيء إلا لأنهم لا يملكون بديلا عن العقيدة في النظر إلى الحياة والعالم والإنسان. العقيدة أولا ومن ثم الإنسان الذي يقع مكانه في خدمة العقيدة.
لا يحق لي أن أفكر بدلا من حكام سوريا الجدد ولا أملك الوصفة التي تعينني على اكتشاف ما يفكرون فيه وقد تفسد التكهنات ما ينطوي عليه الواقع من مفاجآت. غير أن ما أعرفه ويعرفه الكثيرون أن البيئة الفكرية التي نشأ فيها أولئك الحكام لا يمكن أن ينتج عنها سياسيون معتدلون يؤمنون بالديمقراطية ويعترفون بحق المواطنة الذي في إمكانه أن يخلق وطنا للجميع.
ولأن سوريا بلد متعدد الأديان والطوائف والأعراق فإن أي عقيدة ستحكمه بالقوة لابد أن تفشل ما لم تكن عقيدة وطنية جامعة. ما حدث في جرمانا، الضاحية الدمشقية كان تمرينا فاشلا على الاخضاع. بعد كل ما شهدته سوريا عبر سنوات الحرب الأهلية لن تنفع الحلول الأمنية أما الفصائل المسلحة فإنها ستزيد الأمور سوءا.
الإنسان السوري اليوم هو ليس الإنسان الذي كتمت الأجهزة الأمنية أنفاسه عبر الـ54 سنة الماضية. أتذكر أن صديقتي رفيا قضماني كانت تعد أيام الثورة السورية يوما بيوم. ذلك ما فعله الكثير من السوريين. بعد كل هذا العد هل يمكن حكم السوريين بالطريقة الأمنية السابقة؟
لا يحتاج حكام سوريا الجدد إلى إطلاق العنان للفصائل في معالجة مشكلات مختلقة لكي يتأكدوا أن كل شيء قد تغير وأن هناك اختلاف جذري نشأ بسبب الحرب ما بين الشعب الذي خرج محتجا من أجل إسقاط نظام الأسد وبين الشعب صار على ثقة من قدرته على صنع مصيره في مرحلة ما بعد الأسد. تلك معادلة قد يُغطى عليها بالإنشاء البلاغي الذي يضمر الكثير من التضليل، ولكن الحقيقة تظل قائمة ولا يمكن إخفاؤها. شعب سوريا لن يرضى بأقل من الحرية.