الشعر العربي بين السلطة والخطاب الثوري

حسام جايل يؤكد أن تاريخ الشعرية العربية حافل بنماذج متباينة، وأنساق مختلفة ومتنوعة لتفاعل الشاعر مع السلطة.
عبدالرحيم العلام يرى أن الشعر ارتبط وبشكل ممتد ومتواصل بانتفاضات وأزمات العالم العربي
محمود الضبع يرى أن القصيدة تحمل دومًا في جيناتها الوراثية نزوعًا نحو مغايرة الواقع
نبيل حداد: من الصعب للمثقف الحقيقي أن يندمج مع السلطة في كل ما لها وما عليها

رأس الناقد الدكتور صلاح فضل الجلسة البحثية الثانية في ملتقى القاهرة الدولي الخامس للشعر العربي الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة خلال الفترة 13 – 16 يناير/كانون الثاني الجاري، وشارك فيها النقاد: د. حسام جايل، د. سعد البازعي (السعودية)، د. عبدالرحيم العلام (المغرب) د. محمود الضبع، ود. نبيل حداد (الأردن).
وفيه بحثه "الشعر والسلطة دراسة في أنساق الخطاب الشعري السلطوي" أوضح الباحث د. حسام جايل أن الشعر العربي كان – ولا يزال- ابنًا بارًّا للبيئة التي يحياها، ويعايشها. وكان الشاعر لسان مجتمعه في غالب الأحيان، إذ عبَّر عن بيئته، وعاش قضايا مجتمعه؛ حلوها ومرها، ورسمها بكلماته، وتغنى بها في موسيقاه الشعرية.
وقال: إن المتتبِّع لحركة الشعر العربي منذ نشأته وحتى الآن؛ يراه - في أغلب مراحله - مسايرًا لحركة المجتمع، راصدًا لمتغيرات الواقع، ومتعاطيًا - شعريًّا- لظواهر عصره.
وأشار جايل إلى أنه معني في ورقته بدراسة أنساق/أنواع الخطاب الشعري المتعلق بالسلطة، وهذا ما نقصده بكلمة سلطوي؛ أي المنتسب إلى السلطة نسبًا وممارسة، أو قبولاً وتأييدًا، أو رفضًا. وأكد أن تاريخ الشعرية العربية حافل بنماذج متباينة، وأنساق مختلفة ومتنوعة لتفاعل الشاعر مع السلطة. ومن خلال الرصد والتتبع؛ نستطيع أن نمايز وأن نفرِّق بين هذه الأنساق تبعًا لموقف الشاعر من السلطة، وعلاقته بها، وطريقة تعاطيه للقضايا المجتمعية المختلفة التي تكون السلطة طرفًا فيها.
وأوضح حسام جايل أن هذه الأنساق جاءت على النحو الآتي: نسق الشاعر الأمير أو صاحب السلطة: وهو في الغالب مدافع عن مكانته، وعن مصالح طبقته، وقد ذاع هذا النوع من الشعر في الأندلس- لا سيما - في عصر ملوك الطوائف؛ مثل المعتمد بن عبّاد، وابن المعتز في المشرق وابن زيدون إلى حد ما، وقد تميَّز إنتاجه بالغزل والفخر والرقة، أو المأساة الشخصية لضياع ملكه. وقد يكون هذا الشاعر طالب ثأر مثل المهلهل وامرئ القيس الملك الضليل.
أما عن الشاعر المتماهي مع السلطة المدافع عنها: فهذا الشاعر معبر عن السلطة وأداتها الإعلامية، يرضى لرضاها ويغضب لغضبها، ويتودد إليها ومثل ذلك كان النابغة في علاقته بملك الحيرة النعمان بن المنذر. ومثل شوقي في فترة ما قبل النفي؛ فالمدح والهجاء، كموقفه من عرابي:
صغار في الذهاب وفي الإياب أهذا كل شأنك يا عرابي؟
وحتى رثاء الأشخاص - مهما كانت مكانتهم - كان تبعًا لموقف السلطة منهم كرثاء مصطفى كامل. بل إن شوقي كان يفاخر بعلاقته بالسلطة حتى أنشد مفاخرًا:
شاعر العزيز وما بالقليل ذا اللقب
ومثل شوقي محمود حسن إسماعيل في فترتي الملكية والناصرية في ديوانه "لا بد أن نسير".
أما النسق الثالث فهو الشاعر الغامض أو المهتز صاحب الرؤية الضابية: وقال حسام جايل إن هذا الشاعر لا نستطيع أن نتبيَّن موقفه بسهولة ويسر لأن موقفه متباين إلى حد بعيد؛ حتى ليصل الأمر للنظرة العاجلة أن تتهمه بالنفاق؛ مثل حافظ إبراهيم في علاقته أو في شعره بالسلطان عبدالحميد الذي يتخذ فيه موقفين متباينين.

أما نسق الشاعر الإنساني الرومانسي: فهو شاعر متعاطف مع المواقف؛ تبعًا لحسِّه الرومانتيكي، وليس وفق عقيدة أو أيديولوجيا محددة، مثل: إبراهيم ناجي فهو نموذج متفرد في بابه. أما الشاعر الناقد: فهو الشاعر الباحث عن التفرد والتميز والأفضل لبني وطنه ومجتمعه؛ فنراه يشيد بالجيد وينتقد الرديء، ومن هؤلاء صلاح عبدالصبور وحجازي.
ثم يأتي نموذج أو نسق الشاعر الرافض: وهو شاعر غلبه طموحه وطغت عليه حماسته، وأعمل حاسة التنبؤ لاستشراف الغد واستهلال المستقبل؛ ويرفض ما يخالف رؤيته وما يحلم به؛ لذا نراه رافضًا على طول الخط مثل أمل دنقل ومحمد عفيفي مطر.
الناقد السعودي الدكتور سعد البازعي تحدث عن "قول القصيدة في وجه السلطة" وناقشت ورقته ثلاثة خطابات شعرية تتمحور حول العلاقة بين الشعر والسلطة. وأوضح أن الخطابات المشار إليها تنتظم عددًا من الأعمال الشعرية لشعراء عرب معاصرين منهم: أدونيس، محمد الماغوط، سعدي يوسف، أمل دنقل، محمد الثبيتي. 
ورأي في أعمال أولئك الشعراء قصائد تنحو إما إلى الخطاب المأسوي الساخر، أو الكوميدي الساخر، أو المأسوي لكن الخالي من السخرية في تعامل أولئك الشعراء مع القوى المؤثرة في المجتمع، وهي ليست سياسية فحسب وإنما هي أيضًا اجتماعية دينية أو أيديولوجية أو اقتصادية تمارس التسلُّط بطرائق متباينة. 
وأشار البازعي إلى أن تلك الخطابات تتضمَّن استدعاء نماذج تراثية حينًا أو شخصيات أسطورية حينًا آخر أو التوجه مباشرةً إلى الوطن، وذلك عبر مجازات وصور تتلاءم مع الخطاب الموظف، لكن في كل الحالات يشتعل ألم ممض، صامت حينًا ومعلن حينًا آخر، تجاه ما آلت إليه الأحوال في بلاد يقودها من لا يستحق القيادة أو تعيش فراغًا ناتجًا عن غياب القيادة التي يمكن للناس أن يعتزوا بها ويسيروا خلفها. 
الناقد المغربي عبدالرحيم العلام تحدث عن "الشعر والحراك الاجتماعي العربي" قائلا إنه مما لا شك فيه أن الشعر العربي ظل طوال مساره العام، التاريخي والإبداعي، مواكبًا لتحوُّلات الواقع العربي، في محطَّاته وتطوُّره، وفي أزماته ونهضته، مطوِّرًا بذلك أشكاله وموضوعاته الشعرية ومنوِّعًا لها ومواكبًا لتحوُّلاتها العامة.
وفي هذا السياق نفسه، ارتبط الشعر العربي الحديث والمعاصر، وبشكل ممتد ومتواصل، بالثورات والانتفاضات والأزمات المتعاقبة في بلادنا العربية، سواء تعلَّق الأمر بتلك الثورات التي تمخَّضت عن مقاومة الاستعمار الأجنبي، أو بغيرها من الثورات والانتفاضات المتتالية، هنا وهناك، بما ولَّدته من أشكال وأساليب شعرية موازية، إذ إن كل الثورات في العالم دأبت على خلق أشكالها التعبيرية والجمالية المتنوِّعة، في تفاعلها مع الأحداث الموازية ومستجدات العصر، وفي تأثيرها فيها.
وأوضح العلام أنه فيما يتعلَّق بالثورات والانتفاضات ومختلف أشكال الحراك العربي، كما تعرفها اليوم مجتمعاتنا العربية، كان الشعر حاضرًا كالعادة، وقد غدت له أشكال وبدائل ووظائف جديدة، بما أن الشعر أضحى بدوره فضاءً للصراع ونشدان التغيير، في تماسِّه الحركي مع صيرورة الثورات العربية الجديدة في أبطالها الجدد الشعبيين، بعيدًا عن أبطالها من القيادات والزعامات التقليدية، وأيضًا قريبًا من مساحات الأمل والمستقبل، وإن تم ذلك بدرجات متفاوتة من مشهد شعري عربي إلى آخر.
وفي رأيه أن اتساع الهوة بين الأنظمة السياسية (السلطة الحاكمة) وبين المواطنين، من مختلف الشرائح الاجتماعية، بمن فيهم شريحة المثقفين والمبدعين، جعل من قضية السلطة اليوم قضية مركزية في ثقافة هذا العصر، في أبعادها الثورية ضد الأنظمة وضد التبعية، بعد أن تفاقم مستوى فقدان المجتمعات العربية لثقتها في الأنظمة المتآمرة على شعوبها.
وقال: من هنا فلا أحد ينكر مدى حاجة الشعوب العربية اليوم إلى أصوات شعرائها وإلى جرأتهم في التعبير والتحريض على المعارك المصيرية من أجل التحرُّر والديمقراطية، إيمانًا من هذه الشعوب بدور الشعر في التغيير وفي بث القيم الإنسانية في نفوسها. وإذا كانت الآراء وردود الفعل تختلف من شاعر إلى آخر ومن متلقًّ إلى آخر، حول مدى مساهمة الشعر في الثورات وفي انتفاضات ما سُمِّي بالربيع العربي، موازاةً مع ما يعاب على الشعر المواكب للحراك الاجتماعي العربي، على مستوى غياب الشعراء المكرَّسين إبداعيًّا، عن المساهمة شعريًّا في حركية هذه الثورات العربية، لاعتبارات مختلفة، فهي آراء تختلف، أيضًا، بين من يقول بحدوث تغيير ومن يقول بحدوث خيبة أمل فقط، نتيجة استمرارية رداءة السلطة وسطحية ما جرى في بعض البلدان العربية، أمام محدودية التغيير المرتجى، فإن صوت الشعر مع ذلك ظل حاضرًا ومؤثرًا في هذه الثورات، وإن بمستويات وأشكال متفاوتة، في مواكبته لها ولآمال شعوبها، في تغيير الحياة حسب رامبو.
مشاركة الناقد الدكتور محمود الضبع جاءت تحت عنوان "الإبداع الشعري للألفية الثالثة: التواصل الثقافي والخطاب الثوري" حيث قال: تحمل القصيدة دومًا في جيناتها الوراثية نزوعًا نحو مغايرة الواقع، وهدم ما هو قار وسائد، سواء على المستوى الجمالي الشكلي، أو على المستوى المضموني وما يحيل إليه من طرح لقضايا وموضوعات كلية أو جزئية، وهو ما يمثل في إجماله طورًا من أطوار الثورة، أو على أدنى تقدير محفزًا لها، وهو ما يكشف عنه تاريخ القصيدة وعلاقتها بصناعة الثورة، أو تجسيد أبعادها ونشر مفاهيمها، حيث يميل الإنسان بالفطرة إلى حفظ الكلام المنتظم في سلك واحد (إحدى خصائص الشعرية) أكثر من ميله وقدرته على تذكر المقول النثري، مهما قصرت تراكيبه.
وأوضح الضبع أن القصيدة لا بد لها من إطار ثقافي يحكمها، فإن تحليل الأوضاع الثقافية الراهنة لزمان مقولها، وما يكتنف هذه الأوضاع من تحولات، وما تحمله القصيدة ذاتها من سعي نحو خلخلة القار، وإعادة بناء الوعي الجديد، كل هذا يسهم في إحداث وعي مزدوج، يؤول بعضه إلى رصد واستيعاب ملامح التجديد في البناء الشعري كليةً، ويؤول بعضه الآخر إلى رصد واستيعاب النسق أو الأنساق الثقافية السائدة، وما ينتمي منها إلى المتن، وما ينتمي إلى الهامش، وبالتالي الوعي بالإمكانات المستقبلية لتطور هذا المجتمع وثقافاته. 
وتساءل: أي ثقافة تلك التي يمكن التحدث عنها في إطار الشعر، هل هي مجرد كم المعلومات والمعارف والأحداث الواقعية التي يمكن أن يحيل إليها النص؟ أم أنها السلوكيات الدالة على وعي وحضارة الأفراد والأسس التي تحكم تشكُّلهم في جماعات؟ أم أنها الإنتاج الفكري في إطار تشكيل المعرفي أو إعادة صياغته قبل أن يتحوَّل إلى ثقافة؟

وأشار  إلى تغير مفهوم الثقافة، وأنه انتقل من مجرد كم المعلومات المختزن في عقول جماعة من الأفراد، أو مخطوطاتها الأثرية وتراثها المكتوب، إلى مفهوم الثقافة المعتمد على الإنتاج، والمرتبط بتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية على نحو ما.. أي التحول من مفهوم المعرفة المرتبط بالوجاهة الاجتماعية، إلى مفهوم المعرفة المرتبط بالإنتاج، ومن ثم المرتبط بالقوة. ومع حركات العولمة، والنظام العالمي الجديد، طرحت الدراسات والبحوث مفاهيم جديدة عن الثقافة، يمكن قراءة الشعر في سياقها بوصفه قمة الهرم الثقافي على مستوى الإنتاج، والتلقي.
الناقد الأردني نبيل حداد يعود إلى موضوع "الشعر والسلطة" من خلال شاعر الأردن مصطفى وهبي التل (عرار) موضحا أنه من البديهي عند الحديث عن الشاعر والسلطة، أن يتبادر إلى الذهن، وبمقتضى الرؤية المنهجية، علاقة المثقف بالسلطة، وهي بالأعم الأغلب، علاقة ضدية، إذ إن المثقف بمفهومه الإيجابي يبحث عن المثالي، وقد لا نغالي إذا ما زعمنا، أن العديد من مواقف المثقف قد تجنح إلى الطوباوية، وهي بالتأكيد متأثرة بروح العصر، أو على الأقل شروط المرحلة التي يعيش فيها المثقف. 
مشيرا إلى أنه من الصعب للمثقف الحقيقي بميله الغريزي إلى المثالية أن يندمج مع السلطة في كل ما لها وما عليها، إلا إذا كان جزءًا منها، يعبِّر عنها أو تعبِّر عنه، ولكن قد يتركها بعد أن يكتوي بنار التجربة، أو أنه يتحوَّل إلى نموذج آخر من أشكال المثقف (النموذج الانتهازي مثلاً)؛ فالمثقف والسلطة، في الحالة العادية في تناقض في الأغلب الأعم. 
ويرى الحداد أن الأديب إما أن يترفع عن السلطة فيكون الأديب الطوباوي، وربما قيل عنه ذلك الذي يعيش في برج عاجي، ولكن ثمة أدباء وهم بالضرورة مثقفون، اختاروا الالتزام، وحين يختار الأديب أو المفكر الالتزام فإنه يجد نفسه بالضرورة في السياسة. والالتزام كما نرى يقترب اقترابًا شديدًا من السياسة حينئذٍ يواجَه بكثير من المشكلات الموضوعية والفنية التي لا بد للأديب في عصره أن يدرك طبيعتها ومدى ما يمكن أن يكون لها من تأثير في أدبه من حيث شكله ومضمونه على السواء، وقد ظل الأدب العربي- كما يقول عبدالقادر القط- من أكثر الآداب العالمية التصاقًا بالسياسة منذ العصور القديمة إلى اليوم وكان شأن الأديب يعظم أو يصغر في أغلب الأحيان بمقدار انغماسه في السياسة أو بعده عنها منذ أن بدأت نهضة الوطن العربي الحديثة، ونمت فيه حركات التحرُّر والاستقلال وتطوَّرت فيه أساليب الحكم، وقد أسهم الأدباء بنصيب وافر من مواكبة تلك النهضة والتعبير عن أماني الشعب العربي وقضاياه، وكان الشعر- بفضل ممارسته التاريخية الطويلة - سبَّاقًا في هذا المجال. 
ويتوقف حداد عند الأردن حيث شاعره الأول حتى يومنا هذا (هكذا يوصف مصطفى وهبي التل – عرار) يعدُّ قمة رومانسية، بل رمزًا من رموز الرومانسية العربية الحديثة خلال تجربته التي آتت أكلها منذ منتصف العشرينيات وحتى رحيله في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين. 
ويوضح حداد أن حكاية عرار مع السلطة، وتجاذباته معها، وتمرُّده الدائم عليها، يختصر قصة الشعر مع السلطة في الأردن خلال الفترة الرومانسية، إنها – عند عرار تحديدًا- حكاية اتخذت عددًا من الوجوه الرافضة من أبرزها: تمرُّده على المؤسستين الأسرية والاجتماعية. مقاومته شعرًا وممارسةً لبقايا السلطة الاستعمارية. وقوفه، في معظم الأحيان، من السلطة السياسية موقف العصيان. تحديه للمؤسسة الدينية، وسخريته الدائمة من رموزها. وهذه هي المرتكزات الأربعة التي قامت عليها ورقة الناقد نبيل حداد.