ناجي والسياب والأبنودي وإسماعيل على مائدة ملتقى القاهرة للشعر العربي

خيري دومة يقدم قراءة للخط الممتد بين قصيدة "في الظلام" لإبراهيم ناجي وقصيدة "أنشودة المطر" للسياب، ولفكرة الوطن والمحبوبة حين يكونان وجهين لعملة واحدة.
عبدالرحيم الكردي يتوقف عند الأبعاد الأسطورية للصورة الشعرية بين بدر شاكر السياب ومحمود حسن إسماعيل
عبدالسلام المسدي يتناول العلاقة الجدلية بين الشاعر ورجل السياسة محللا إشكالية المعادلة في مدى احتياج كل واحد منهما للآخر
ياسين النصير يتحدث عن حركة ثانية لقصيدة الحداثة

عُقدت الجلسة البحثية الأولى لملتقى القاهرة الدولي الخامس للشعر العربي والذي اتخذ شعارا له "الشعر وثقافة العصر" صباح الاثنين 13 يناير/كانون الأول الجاري بالمسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية ورأسها الناقد الدكتور جابر عصفور، وتحدث في هذه الجلسة كل من: د. خيري دومة، ود. طارق النعمان، ود. عبدالرحيم الكردي، ود. عبدالسلام المسدي، وياسين النصير.
الدكتور خيري دومة تحدث عن الحبيبة / الوطن بين إبراهيم ناجي وبدر شاكر السياب (اللذين كانا علمي الملتقى في هذه الدورة) قراءة في قصيدتي "في الظلام" و"أنشودة المطر". وقال: إن الباحثين اعتادوا أن ينظروا إلى ما يميز كل مذهب وكل حركة وكل نوع، عن المذهب والحركة والنوع الآخر. وأوضح أنهم – أي الباحثين – اعتادوا مثلا أن يميزوا بين الرواية والقصة القصيرة، واعتادوا أن ينظروا إلى ما يميز الرومانسيين عن الكلاسيكيين، والواقعيين عن الرومانسيين، وما بعد الواقعيين عن الواقعيين، وهذا أمر طبيعي في سياق التعريفات العامة، لكنه قد يحرمنا من إدراك التواصل الطبيعي الدال بين الحركات والمراحل والمذاهب والأنواع المختلفة، وقد يحرمنا أيضا من إدراك جوهر الأدب.
ثم توقف خيري دومة عند قصيدة إبراهيم ناجي "في الظلام" التي نشرها عام 1942 في غمار الحرب العالمية الثانية التي خيمت أجواؤها على القاهرةـ، ونشرها في عدد مجلة "الرسالة" الذي صدر يوم 18 ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام، تحت عنوان "ليالي القاهرة"، وهو العنوان الذي سيصير بعد ذلك عنوان الديوان، وفيه غير ناجي عنوان القصيدة إلى "في الظلام" بعد أن أدخل عليها تعديلات جوهرية. أما قصيدة السياب "أنشودة المطر" فقد نشرها في مجلة الآداب البيروتية عام 1954، وصارت هي الأخرى عنوانا لواحد من أهم دواوينه، وفيه نشر القصيدة بعنوانها دون أدنى تغيير.
ويرى دومة أن القصيدتين تبدآن بخطاب أو نداء يوجهه المتكلم إلى محبوبة خرافية:
أليلايَ ما أبقى الهوى فيَّ من رشد ** فردِّي على المشتاق مهجته ردِّي (ناجي)
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعة السحر ** أو شرفتانِ راح ينأي عنهما القمر (السياب)
وتنتهيان بحديث صريح عن الوطن: مصر والعراق.
أيا مصرُ ما فيك العشيَّة سامرٌ ** ولا فيك من مصغٍ لشاعرك الفردِ (ناجي)
وكل عام حين يُعشبُ الثرى نجوعُ ** ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعُ (السياب)
ويوضح الناقد أنه بين البداية والنهاية عالم من الصور بالغة التركيب وإيقاعات متنوعة تتألف منها القصيدتان، مشيرا إلى أن ورقته قراءة للخط الممتد بين القصيدتين، ولفكرة الوطن والمحبوبة حين يكونان وجهين لعملة واحدة، ولطبيعة الصور ودلالتها على العالم المركب المتعدد الوجوه في الشعر عموما.

شعراء الحداثة في لبنان ومصر والعراق وسوريا وغيرها، وطَّنوا قصائدهم تجارب شعرية جديدة نقلت الحداثة الشعرية من ميدانها الأول إلى ميادين قول وإنتاج جديدين

الناقد الدكتور طارق النعمان، توقف في مشاركته بالجلسة البحثية عند قصيدة "مرثية لاعب سيرك" لأحمد عبدالمعطي حجازي، وقصيدة "الخواجة لامبو" للشاعر عبدالرحمن الأبنودي، وحاولت ورقته أن تستجلي ما بين القصيدتين من ثيمات مشتركة، وكيفية تجسيد وتجلي هذه الثيمات في كل قصيدة من القصيدتين، ودلالة ما يوجد بينهما من تقاطعات على مستوى زمن إنتاج كل منهما، ودلالة ما يوجد بينهما من اختلاف على مستوى طبيعة رؤية العالم لدى كلا الشاعرين، ذلك أنه على الرغم مما يوجد بين القصيدتين من ثيمات مشتركة فإن كيفيات حضور هذه الثيمات واشتغالها تتباين تباينا لافتا في كل نص من النصين، بما ينعكس على طبيعة رؤية العالم في كل منهما، فضلا عن محاولة القراءة للكشف عن مكونات الشعرية في كل نص منهما على مستويات الحضور والغياب.
الناقد الدكتور عبدالرحيم الكردي توقف عند الأبعاد الأسطورية للصورة الشعرية بين بدر شاكر السياب ومحمود حسن إسماعيل، وقال إنه عندما ولد السياب في قرية جيكور على شاطئ أحد جداول ملتقى النهرين بجوار مدينة البصرة جنوب العراق عام 1926 كان محمود حسن إسماعيل في حوالي السادسة عشرة من عمره يتغنى في أحد أكواخ قرية النخيلة على الضفة الغربية للنيل بجوار مدينة أسيوط جنوب مصر.
وأضاف الكردي: القارئ لشعريهما يجد بينهما تشابها كبيرا، في المعجم الشعري، وفي الرؤية، وبخاصة التشابه في طبيعة المناجم السحرية القروية التي استخرجت منها معادن الصورة الشعرية. وأوضح أن القرية عند كلا الشاعرين ليست مجرد مجموعة من المباني والأكواخ، بل هي العجينة الأسطورية التي صاغا من ثقافتها صورهم الشعرية حتى في تعبيرهم عنن المدينة، فأهل القرية في كل من ريف مصر والعراق شعراء حالمون بالفطرة، يتوحدون مع الطبيعة توحدا أسطوريا، فهم يتعاملون مع النهر على أنه كائن حي ينام ويستيقظ، ومع الساقية على أنها تبكي، ومع النخلة على أنها امراة تنشر ضفائرها. لذلك نجد السياب يصور النخيل سكارى، والموج يغني، والصفصافة مخضوبة الرأس بالسنا، والريح تعول، وأزاهير القطن سكارى في الطل صفر الثياب.
وأضاف الكردي: نرى محمود حسن إسماعيل يصور النخلة في الريف صوفية تقية، وفي المدينة ملحدة، ويسمع ما قالت الريح للنخيل، ويرى القيظ وهو يقعي على أسوار البيوت، والسواقي قيثارة حزينة تنوح ولها دموع. والثور عاهل الحقد والفراشة راهبة الضحى، والغراب راهب الليل، والهلال الأحدب النشوان، والديك مؤذن الفجر، والفتاة القروية عروس النيل، والبومة شيخة عابسة.
ويوضح الناقد أنها صور لا تشبه الصور الرومانسية التقليدية التي يضفي الشاعر فيها قبسا من خياله على الطبيعة، بل – على النقيض من ذلك – فإن الطبيعة الأسطورية للأشياء هي التي تصوغ صور الشاعر، فالمادة الأولية لهذا النوع من الصور ليست الكلمات بل الرؤى الأسطورية الجاهزة في ثقافة الشاعر، فمحمود حسن إسماعيل عندما يقول عن الديك "مؤذن الفجر"، وعن النعش "زورق الموت". وعندما يقول السياب "دجلة الغضبى" و"غادة الريف" و"فراشة الحلم" لم يخترع جديدا، لأن الفلاحين في قريتهما يقولون ذلك ويتخيلونه كذلك، فالفلاح هنا وهناك يفكر بالأشياء ويشخص المعاني، وكل ما فعله الشاعران أنهما استشعرا هذا المنجم الأسطوري وصنعا منه هذا الإبداع الشعري الجميل.

ويرى الكردي أن منابع الأسطورة عند السياب أكثر اتساعا إذ انفتحت على الأساطير العالمية والتاريخية، بخلاف محمود حسن إسماعيل الذي استغرقته الثقافة الأسطورية الشعبية، كما أن الصورة في شعر السياب مؤدلجة، لذلك كانت الأسطورة في صور محمود حسن إسماعيل أكثر فطرية وتلقائية، وكانت في شعر السياب أكثر دقة وعمقًا.
الناقد التونسي الدكتور عبدالسلام المسدي تحدث في تلك الجلسة البحثية عن "الشعر وتحديات الزمن الجديد" متطرقا إلى علاقة الشاعر بالسياسة – بحكم أنه معنيٌّ بالحرية – ليتحدد مدى انخراط الشاعر في ميثاق المثقف العضوي ما دام ناطقا باسم الضمائر في لحظة سعادتها وفي  لحظات شقائها.
وتناول بحث د. المسدي العلاقة الجدلية بين الشاعر ورجل السياسة محللا إشكالية المعادلة في مدى احتياج كل واحد منهما للآخر سواء بحكم الاختيار أو بحكم الاضطرار. ويذكر البحث بعد ذلك بما يتسرَّب إلى ثقافتنا الراهنة من الإرث الذي حدد الفن القولي في الحضارة العربية انطلاقا من أن المدح هو أبو الأغراض الشعرية، ليخلص بعد ذلك إلى استخلاص القيم التي تجمع أطراف ملتقيات الشعر العربي في صياغتها الدولية على أساس مقاييس النقد الحديث وفقا لثنائية بنية الشعر ووظيفته.
أما الناقد العراقي ياسين النصير فقد كانت ورقته تحمل عنوان "نحو حركة ثانية لقصيدة الحداثة" قائلا: لم تبق الحركة الشعرية التي انبثقت في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي ضمن أشكالها التعبيرية الأولى، فقد جرت عليها تغييرات جديدة، من بينها البنية الدرامية كما في شعرية صلاح عبدالصبور، ومنها الشكل المدوّر للقصيدة الحديثة كما في شعرية حسب الشيخ جعفر، ومن الأشكال الجديدة استثمار البعد الأسطوري والمثيولوجي كما عند الشاعر محمد عفيفي مطر وشعراء آخرين، ومن الأشكال الجديدة قصيدة غير اليومي والمألوف كما عند سعدي يوسف، ومنها قصيدة النثر بأشكالها كما عند أدونيس ومحمد الماغوط.
وأضاف النصير: هناك أشكال شعرية عديدة رصدتها في كتابي "شعرية الحداثة" كقصيدة الكولاج، والقصيدة الكونكريتية، وقصيدة الصرخة، وغيرها من الأشكال الشعرية التي طورت قصيدة الحركة الأولى للحداثة ونقلتها من الموضوع المباشر إلى الموضوع الإنساني بأبعاده الثقافية والفلسفية التنويرية والإنسانية.
ثم تناول الناقد العراقي ياسين النصير مجموعة من شعراء الحداثة في لبنان ومصر والعراق وسوريا وغيرها، حين وطَّنوا قصائدهم تجارب شعرية جديدة نقلت الحداثة الشعرية من ميدانها الأول إلى ميادين قول وإنتاج جديدين.