الشعر يفقد بريقه في ملتقى الرواية

خالد خليفة: لم تعد تعنيني صفة الشاعر، إلى أن أنقذتني حماقتي وكتبت الجمل الأولى التي تراكمت وأصبحت رواية طويلة.
بهاء عبدالمجيد يرى أن النص الروائي لديه يتحاور مع نصوص محلية وعالمية لكي تشكل تمثيلا حقيقيا للنوع وهو الرواية
أمل خليفة تعترف بأن أولى المشكلات التي واجهتها أثناء الكتابة، هي تحول القصة القصيرة إلي رواية

لا شك أن التجربة الروائية الأولى يكون لها أثر كبير، صعب أن يُمحي من الذاكرة، ويكون لها أيضا ملابسات تختلف من كَاتب لآخر، وعن تجربتها الأولى لروايتها "الدوابة" قالت الكاتبة أمل خليفة: في واقع الأمر كانت قصة قصيرة ولكني أستغرقت في الكتابة فأصبحت رواية.
وتعترف خليفة - في إحدى جلسات الشهادات الأدبية التي ترأسها يحيى يخلف بملتقى القاهرة الدولي السابع للإبداع الروائي العربي - أن أولى المشكلات التي واجهتها أثناء الكتابة، هي تحول القصة القصيرة إلي رواية بسبب سيطرة بطلة الرواية "الدوابة" واستحواذها التام على تفكيرها وبالتالي طُوعت عملية السرد لصالحها.
وتوضح أمل خليفة أن المشكلة الثانية التي تعثرت فيها هي اللغة وذلك بسبب تعدد لكنات أو لهجات أبطال الرواية، حيث لا يجمعهم نسيج مجتمعي واحد، وذلك لتعدد الأصول والجذور، وكذلك الثقافات والخلفية الاجتماعية والمعرفية والاقتصادية لكل شخص منهم،  وإن كانت طفيفة بعض الشيء.
وقالت: بعد تفكير والأخذ برأي أساتذتي من الكُتاب تركت كل شخص من شخوص الرواية يتحدث بأسلوبه في الواقع أو بمعني أدق وفق ثقافته ودرجة تعليمه؛ دون الانزلاق إلى التدني اللغوي، وقمت باستخدم الفصحي للراوي. 

Cairo forum for creative fiction
التجربة الروائية الأولى 

ومن أبرز المشكلات التي تعرضتْ لها الكاتبة أيضا والتي لم تفطن لها هو تأثير عملها كصحفية في كتابتها، فقالت: كان الأسلوب الصحفي في كثير من أجزاء الرواية يطغى على الأسلوب الأدبي دون عمد، وفي أجزاء أخرى كُنت أقصد الاختصار لدرء الملل عن القاريء، ولكن رغم أن هذه الجزئية كانت هدفا واضحا للنقد من المعنيين بالأدب، إلا أنها لاقت استحسانا من القاريء العادي.
وأشارت إلى أن المشكلات لم تكن موجودة أثناء كتابة الرواية فحسب، ولكن كانت المشكلة الأكبر بعد الانتهاء منها، وهي كيفية خروج هذا العمل إلى النور، وهذه مشكلة معقدة تحتاج كثيرا من الجهود المخلصة لحلها حيث يُسحق  كثير من الكُتاب الجدد بين رحاياها وذلك بسبب استغلال بعض دُور النشر الخاصة لهم، وعلى جانب آخر عدم قدرة الهيئة العامة وقصور الثقافة على نشر هذه الكميات الهائلة من الإنتاج الأدبي، وقالت: هذه المشكلة يمكن حلها في تقديري المتواضع بطريقتين، إما من خلال زيادة الميزانية المخصصة للهيئة لاستمرار الدعم الذي تتيحه الهيئة لقرائها، أو من خلال إنشاء قسم تجاري داخل الهيئة حيث تكون تكلفة إنتاج الرواية على عاتق الكاتب "إذا أراد" بشرط أن تخضع الرواية لكافة المعايير التي تضعها الهيئة وبذلك يتجنب الكاتب استغلال دُور النشر الخاصة له. 
وعن "الرواية كنص كوني" أوضح د. بهاء عبدالمجيد أن هذه شهادته تتناول تجربته الإبداعية حول الرواية وكيف يكتبها، وما هي العوامل التي أثرت عليه في كتابة الرواية والدوافع الإنسانية والذاتية التي جعلت الرواية بمثابة المعادل الموضوعي لوجوده، وبالتالي فهذه الشهادة تطرقت لعدة مناحي خاصة بالتكوين المعرفي والإنساني، وقال: أنا أكتب الرواية من منطقة الذاتية والتي هي منبع خصب للفن الروائي السردي، وأيضا أعمال الذاكرة وارتباطها باختيارات مناطق من الحكي في الماضي والتي تستشرف المستقبل.
والرواية عند بهاء عبدالمجيد، نوع أدبي يعبر عن قيمة إنسانية وحضارية في الوقت نفسه.
وفي شهادته الأدبية قال: سأحاول التطرق إلى المصادر المعرفية والفلسفية التي أثرت في تكويني الروائي فبعد كتابة أربع روايات وهما "سانت تريزا" و"النوم مع الغرباء" و"جبل الزينة: و"خمارة المعبد"، ثم "القطيفة الحمراء (وهى رواية قيد النشر) وثلاث مجموعات من القصص القصيرة "البيانو الأسود" و"ورق الجنة" و"طقوس الصعود" يمكن القول إن الخبرة السردية قد نضجت فى إطارها الزمنى الحياتي؛ فالرواية ليست فقط إعادة إنتاج للمعارف السابقة التي قرأتها من خلال دراستي للأدب الإنجليزي والأدب العربي، لكن الرواية عندي هي موقف وجودى من الحياة ومن العالم الذي نعيشه، فالشخوص عندي هي تمثيل حقيقي للواقع ولكن برؤية فلسفية رمزية، فأنا كروائي لا أكتب فقط عما أعرفه رغم إنني اعترفت أن الكتابة هي سيرة ذاتية ولكن هي أيضا رؤية شمولية للواقع المعاش.
ويرى عبدالمجيد أن النص الروائي لديه يتحاور مع نصوص محلية وعالمية لكي تشكل تمثيلا حقيقيا للنوع وهو الرواية التي هي بمثابة نص كوني كبير حتى ولو تطرق لتفاصيل يومية وعادية ومكررة، فمثلا في "خمارة المعبد" يمكن القول هو رد فعل لقراءة جيمس جويس ومحاورة مع روايته "عوليس" التى هي قائمة على أسطورة الأوديسة، فهنا نصوص عادية تحاكي نصوصا أسطورية كونية بلغة بسيطة وسهلة، ولكن النص الأدبي قدمها في صورة المعاش والروتيني.
وعن "طرق السرد اللامتناهية" جاءت شهادة الكاتب السوري خالد خليفة الذي تساءل: هل يمكن لكاتب أن يتحدث عن تجربته في السرد؟ أشك في ذلك لأن ذلك يعني حديثه عن إخفاقه في الوصول إلى الكتابة.
وقال: ما زلت أذكر حين فكرت للمرة الأولى بأنني سأصبح روائيًّا انتابتني حمَّى حقيقية، لسنوات كنت أكتب الشعر، وأعيش كما يليق بحياة الشعراء المتهتِّكين، لكن طيف الرواية جعلني أنظر إلى قصائدي بأنها نصوص بائسة، ميتة، مجرد تمارين لكتابة مقبلة سأقدم عليها لا بد في لحظة غير بعيدة. كنت في العشرين من عمري وغارقًا في حب الكتب، وتمضية الأوقات كشاعر شاب بين أدراج وقاعات ومقاصف الجامعة وشوارع المدينة الخلفية، مكترث بكل شيء إلا دراستي، لم أكن أعرف شيئًا عن كتابة الرواية لكنني احتفظت بدفاتري بجمل منشورة في مجلة" شعر" يوصي فيها همنغواي كتاب الرواية بضرورة الجلوس إلى الطاولة لمدة ثماني ساعات يوميًّا ويشبههم بعمال المصانع. 
وأضاف: كنت أفكر بأنني لن أستطيع فعل ذلك، وأتهيب من أساتذتي. حين أقرأ دوستويفسكي كنت أشعر بالإحباط، كيف لي أن أكتب مثل هذا السرد العظيم، وهذا النهر الدافق من الأحاسيس، في أعماقي بهتت صفة الشاعر، وبدأت في كتابة نصوص شعرية طويلة كتمرين محتمل لكتابة الرواية، لم أستمع إلى نصائح بائسة توصي بكتابة القصة القصيرة كخطوة أولى، كنت أكره القصة القصيرة وما زلت، وفي أعماقي كنت أفكر بأنني إما أن أكون روائيًّا أو لا أكون، فقد الشعر بريقه، ولم تعد تعنيني صفة الشاعر، إلى أن أنقذتني حماقتي وكتبت الجمل الأولى التي تراكمت وأصبحت رواية طويلة، كتبت بشكل شبه يومي لساعات طويلة أكثر من سبعين ألف كلمة. اختبرت كل شيء، قدرتي على الجلوس إلى الطاولة، تنمية الخيال، اللغة، اللعب، بناء الشخصيات، اختبرت كل أسئلة الرواية، واكتشفت أنني أحتاج إلى الحماقة أيضًا لأحرق روايتي الأولى التي كانت مستعارة من روايات أخرى، أحرقتها، شعرت بإحباط كبير، لكني شعرت بنفسي قريبًا من هدفي، انتظرت حماقتي الكبيرة بعد سنة لأكتب نصي الأول "حارس الخديعة" الذي كان بالنسبة إليَّ إعلان هوية غير مفهومة، لكنها هوية على كل حال. 

كان هدفي كتابة نص روائي لا يشبه نصوص الآخرين. كانت الفرادة دومًا تؤرقني، وما زالت. نجحت التجربة رغم إخفاق النص في منحي لقب الروائي الذي كنت أطمح إليه. كانوا يقولون إنه نص شعري طويل ومكثف لكنه ليس رواية، لم أرد أو أناقش أحدًا، عرفت أن الطريق طويل وقاسٍ، شعرت بأنني على الطريق الصحيح، ويجب أن أختبر كل الأشياء التي تصنع من كائن غير مكترث مثلي روائيًّا، أقضي ليالي طويلة وأنا أفكر في تفكيك نصوص الآخرين التي علمتني الكثير، شعرت في تلك السنوات بأنني شخص غير مفهوم، أستطيع الجلوس إلى الطاولة لأشهر دون أن أغادرها، يكفيني القليل، وأستطيع الدفاع عن نفسي ضد النظرات المتشكِّكة، والشيء الرئيس الذي فهمته جيدًا أنني يجب أن أصبح ناقدًا قاسيًا لنصوصي، لا أنتظر رأيًا من أحد، والشيء الرئيس الذي تعلمته كذلك أنني ينبغي ألا أدافع عن نصي، يجب أن يدافع النص عن نفسه، وهذا ما حدث في روايتي "دفاتر القرباط". 
أصبحت حياتي مرتبطة بشكل أو بآخر بالعمل طوال اليوم في كتابة الروايات، ببساطة رتَّبت حياتي على تقريب كل ما يفيد كتابة الرواية، وإبعاد كل ما يؤذيها، حتى علاقاتي الشخصية حكمتها هذه القاعدة، تعلمت أنني قد بدأت الغوص في عالم لا متناهٍ؛ يتكون من طرق سرد لا متناهية، خيال غير محدود ولا يمكن تأطيره في سقف أو تبريره، بحثت في حياتي عن مستحيل لا يمكن تحققه بسهولة، وما زلت. 
بالتأكيد بعد روايتي الثالثة "مديح الكراهية" شعرت باسترخاء كبير، شعرت بأني قد ذهبت إلى المكان الذي لا أمل في العودة منه، لقد أصبحت تلميذًا من جديد، كل جملة تعلمني كيف يكون السرد، اللعب، الكهوف المخفية في الذات، تعلمت بأنه لا يمكن لكاتب أن يتحدث عن الكتابة، هناك طرق سرية في تلك المدن الخفية التي أعيش فيها منذ ربع قرن، تقودني طرقها إلى متاهات لا متناهية، وكلما وصلت إلى مفرق طرق أترك لقلبي أن يقودني إلى الطرق الأكثر وعورة، لم أعد أرى الحياة والموت كما يراه الآخرون. أصبحت حياتي المرئية مملَّة، فقيرة في مفرداتها، لكن حياتي الأخرى غير المرئية شديدة الصخب لا يمكن لأحد أن يراها، تعلمت الحفاظ على أحاسيسي طازجة، قوية، لا تخطئ هدفها، أصبحت أكثر جهلًا وأكثر قوة في النظر إلى الأشياء المرئية، لكن بطرائق مختلفة أيضًا لا يمكن حصرها. 
وأضاف خالد خليفة: حتى الآن ما تبقى مني هي تلك اللحظات التي تذكِّرني بجهلي، ويقيني بأن طريق الروائي لا ينتهي، مفارقه كثيرة ومتشعبة وليس بالضرورة كلها تؤدي إلى روما أو إلى الطاحون. قد يكون الروائي محظوظًا ويؤدي به طريقه إلى مجرات غير مكتشفة. كثيرًا ما أسمع عظامي تنهرس تحت وطأة الخوف من السرد والجمل المقبلة، لكن جلوسي الأبدي إلى الطاولة، وشعوري بأنني أمتلك وقتًا طويلًا يجعلني أشعر بأن كل شيء سيكون على ما يرام، سأجرب السير في طرق السرد التي توصلني دومًا إلى طرق مجهولة أخرى، لقد اعتدت عيش هذه الحياة – المتاهة بعد ربع قرن من جلوسي اليومي إلى الطاولة لمدة ست ساعات يوميًّا واللعب مع طرائق السرد اللامتناهية والمنفتحة على مغاور ظلام النفس البشرية. 
كل نص جديد يعلمني بأنني ما زلت في أول الطريق، هناك وعد دائم بملذات كثيرة يجب اكتشافها ما دمت قادرًا على السير بتؤدة، والنظر إلى العالم بهدوء وبرود. 
وأنهى خليفة شهادته بقوله: أستطيع كتابة مئة صفحة لكن يجب أن أتوقف هنا.