الصراع النفسي في قصيدة 'وضاعت ملامح وجهي القديم'

الشاعر فاروق جويدة يرتاح تماما إلى إيقاع وإلى نغمات وإلى موسيقى 'المتقارب' لذا فقد شكّل هذا البحر وتفعيلاته أكثر من نصف بحور ديوان 'شيء سيبقى بيننا' الأربعة.
كلمة 'وجه' تكررت ست عشرة مرة، لأنها الكلمة المحورية التي تركزت حولها القصيدة
العروض لا يصنع شاعرا، ولكن الشاعر هو الذي يصنع العروض
أرفض تماما ما يسمى بقصيدة النثر، وأرفض تماما التنكر لتراثنا الشعري

"شيء سيبقى بيننا" أحد دواوين الشاعر المعروف فاروق جويدة، يضم بين دفتيه أربع عشرة قصيدة، كان لبحر المتقارب النصيب الأوفر من هذه القصائد، حيث بلغت قصائد المتقارب ثماني قصائد، بينما جاءت من الوافر ثلاث قصائد، والكامل قصيدتان، والرمل قصيدة واحدة هي "قل على الأرض السلام".

وما من شك في أن للشاعر مطلق الحرية في اختيار الإيقاع الذي يتواءم وينسجم مع تجربته الشعرية، ويبدو أن شاعرنا فاروق جويدة يرتاح تمامًا إلى إيقاع وإلى نغمات وإلى موسيقى "المتقارب" لذا فقد شكّل هذا البحر وتفعيلاته أكثر من نصف بحور الديوان الأربعة.

شعر فاروق جويدة – كما عودنا دائما في معظم دواوينه – شعر هامس، شعر رقيق، شعر يفيض عذوبة وجمالا، حتى وأن كان يتحدث عن القضايا الوطنية فإنه يحيلها إلى قضايا تكاد تكون عاطفية، وتدل على هذا قصيدتاه "لأنك عشت في دمنا، و"يا زمان الحزن في بيروت"، ففي الأولى يتحدث عن القدس ويقول في جزء منها:

وحين نظرت في عينيك

صاحت بيننا القدس

تعاتبنا، وتسألنا

ويصرخ خلفنا الأمس

هنا حلم نسيناه

وعهد عاش في دمنا .. طويناه

وأحزانٌ وأيتامٌ .. وركبٌ ضاع مرساه

ألا والله ما بعناك يا قدس.

أما الثانية فيقول في مطلعها:

برغم الصمت والأنقاض يا بيروت

ما زلنا نناجيك

برغم الخوف والسجان والقضبان

ما زلنا نناديك

برغم القهر والطغيان يا بيروت

ما زالت أغانيك

وكل قصائد الأحزان يا بيروت

لا تكفي لنبكيكِ

وبما أن شعر فاروق جويدة، يتصف بهذه الصفات، أو يتمتع بهذه الخصائص، فإننا لا نراه يجنح إلى التجديد في الشكل المعاصر، فقد أخذ من الشكل العمودي أجمل ما فيه، وأخذ من الشعر التفعيلي إحدى سماته، وحاول أن يمزج بين الشكلين دون أن يحدث أي نوع من التغريب أو الغموض أو الإبهام.

وهذا يتضج في قصائد الديوان الذي بين أيدينا، التي جاءت كلها من التفعيلة أو من البحور الصافية، بالإضافة إلى هذا الوضوح في الرؤية، وهذه السهولة في التعبير، وهذا الانفتاح – الذي جاء تلقائيا – على تجربته الشعرية المعاصرة في كل قصيدة على حدة.

وتعتبر قصيدة "وضاعت ملامح وجهي القديم" واحدة من أبرز قصائد هذا الديوان، فالشاعر في زحام الحياة، وفي زحام المعاملات بين البشر، وفي زمان فقد كل براءته وكل عفويته، قد ضاعت ملامح وجهه القديم، هذا الوجه القديم الذي يرمز إلى النقاء والطهارة والطفولة:

نسيت ملامح وجهي القديم

ومازلت أسأل: هل من دليل؟

أحاول أن أستعيد الزمان

وأذكر وجهي

وسمرة جلدي

شحوبي القليل

ظلال الدوائر فوق العيون

وفي الرأس يعبث بعض الجنون

نسيت تقاطيع هذا الزمان

نسيت ملامح وجهي القديم.

وعلى الرغم من ضياع هذه الملامح إلا أن الشاعر دائب ودائم البحث عنها، يحاول أن يستعيدها، يحاول أن يتذكرها، يحلم بها، يحاول أن يشكلها من جديد، إما عن طريق الصوت، أو عن طريق الصورة، أو عن طريق حكايا الناس عن هذه الملامح، ولكنه بعد كل هذه المحاولات والاستعادات والاسترجاعات أو الرجوع إلى الوراء، لم ينجح في الحصول على هذا الوجه القديم أو حتى على ملامحه الأصلية.

وما زلتُ أرسمُ .. أرسم .. أرسم

ولكن وجهي ما عاد وجهي

وضاعت ملامح وجهي القديم.

وتعتبر هذه القصيدة من القصائد الدرامية الجيد، من وجهة نظري، والقصيدة الدرامية؛ هي القصيدة التي يكون فيها نوع أو أكثر من أنواع الصراع، والصراع في قصيدة "وضاعت ملامح وجهي القديم" يعتمد في أكثره على الصراع النفسي، فعملية السؤال ومحاولة استعادة الزمان، ومحاولة التذكر كلها لحظات حركية مليئة بالصراع، تعطينا ما يدور داخل نفسية الشاعر أثناء إبداعه لقصيدته.

وعملية التذكر تتمثل في "وأذكر وجهي" وعملية النسيان تتمثل في "نسيت تقاطيع هذا الزمان .. نسيت ملامح وجهي القديم".

منطقتان للصراع النفسي الداخلي، محاولة التذكر، وعدم استطاعته أن يتذكر هذه الملامح، تولد عند الشاعر – وبالتالي عند المتلقي – نوعًا من التوتر، ونوعًا من الحركية الدرامية منذ مطلع القصيدة.

وينتقل الصراع إلى منطقة أخرى، حيث يحاول الشاعر أن يشرك الناس معه:

وأشباح خوف برأسي تدور

وتصرخ في الناس

هل من دليل؟

ولكن سرعان ما يعود الشاعر إلى المنطقة الأولى من الصراع مع نفسه، وذلك في قوله:

نسيتُ ملامح وجهي القديم

لأن المشكلة وإن كانت تمثل أو تصور أو تعكس ما آل إليه العصر كله، فإنها في النهاية تمثل مشكلته هو، ومعاناته هو، ومأساته هو، ويتمثل ذلك في قوله:

ومأساة عمري وجه قديم

نسيت ملامحه من سنين

ولما كان الصراع حادا جدا بينه وبين نفسه – في هذا الإطار الضيق – فإنه يحاول مرة أخرى الخروج إلى دائرة أوسع، مما قد يصعِّد من هذا الصراع:

وأصرخ في الناس .. هل من دليل؟

نسيت ملامح وجهي القديم

ويبدو للوهلة الأولى أنه سيلاقي استجابة من الناس – من الآخرين – تخفِّف من حدة هذا التوتر وهذا الصراع في قولهم:

وقالوا

وقالوا رأيناك يوما هنا

قصيدة عشق هوت .. لم تتم

رأيناك حلمًا بكهف صغير

وحولك تجري بحار الألم

وقالوا رأيناك خلف الزمان

دموع اغتراب .. وذكرى ندم

ولكن الشاعر – ويبدو أنه لم يقتنع بما يزعمون – يعود فيقول:

وقالوا وقالوا .. سمعت الكثير

فأين الحقيقة فيما يقال

ويبقى السؤال

نسيت ملامح وجهي القديم

ومازلت أسأل .. هل من دليل؟

وطالما أن السؤال مازال مطروحًا، فإن عملية الصراع لم تزل هي الأخرى باقية وموجودة، بل وتتسع مناطقها داخل الشاعر:

مضيت أسائل نفسي كثيرا

ترى أين وجهي؟

وأحضرت لونًا وفرشاة رسم .. ولحنًا قديم

وعدت أدندن مثل الصغار

تذكرت خطّا

تذكرت عينا

تذكرت أنفا

إنه يحاول المحاولة الأخيرة مع نفسه، وذلك عن طريق رسم هذا الوجه الذي ضاع منه، ولكن هذه المحاولة باءت بالخيبة والفشل، وتنتهي القصيدة عند هذا الخسران المبين:

ومازلتُ أرسمُ .. أرسم .. أرسم

ولكن وجهي ما عاد وجهي.

وضاعت ملامح وجهي القديم

لتترك في كل واحد منا حزنا نتج من خلال هذا الصراع النفسي الذي جسده لنا الشاعر بكل ما يمتلك من أدوات فنية في قصيدته هذه التي كرر فيها كلمة "وجه" ست عشرة مرة، لأنها الكلمة المحورية التي تركزت حولها القصيدة ضمن الجملة الشعرية "ملامح وجهي القديم".

وإذا كنا قد ركزنا مقالنا حول فكرة الصراع في هذه القصيدةـ، فإنه من ناحية أخرى لا بد أن نعترف بأن الشاعر غير مطلوب منه في مثل عمله الفني هذا أن يضع لنا حلا لهذا الصراع أو يضع لنا مخرجًا منه، ولكن يكفيه أن يجسد لنا هذا الصراع وأن يضعنا – كمستقبلين للعمل أو متلقين له – في بؤرة معاناته، لأن معاناته كفنان، وكإنسان، ما هي إلا جزء من معاناة البشر، ويكفيه أنه حاول أن يجسد هذه المعاناة أو هذا الصراع، وأعتقد أنه نجح في هذا كل النجاح.

وقد علق الشاعر فاروق جويدة على هذا المقال قائلا: إن كل ما يسعدني حقيقة هو أن يصل إحساسي إلى الناس دون أدنى تعقيد ودون ادعاء ثقافة، وأنا لا أختار بحورا معقدة حتى ادعي العلم بالعروض، فهناك أساتذة للعروض في المدارس يجيدونه أكثر منا. وأنا شاعر اختار البحر الذي يتناسب مع إحساسي وحالتي النفسية، والعروض لا يصنع شاعرا، ولكن الشاعر هو الذي يصنع العروض، والعلاقة بيني وبين الكلمة هي علاقة صدق، وأنا اختار كل الوسائل التي تستطيع أن توفر المناخ الذي يساعدنا معا، أنا والكلمة، حتى نصل إلى حالة شعورية معينة.

وأشار فاروق جويدة إلى ابن زيدون، الذي كتب عنه مسرحية شعرية بعنوان "الوزير العاشق"، قائلا: إن ابن زيدون شاعر عظيم، قصائده الرائعة كلها من بحر البسيط على سبيل المثال، فهل هذا يعيب ابن زيدون؟

ثم قال: أنا في أعمالي الأولى كان يغلب علي استخدام بحر الكامل، وقد تركت هذا البحر، ولا أدري لماذا، لأتعلق بعد هذا بالوافر، ولا أدري أيضا لماذا. والمتقارب بحر لي فترة أتعامل معه، وحاليا أكتب من المتدارك، وأنا لا أختار البحر، ولكن البحر هو الذي يأتي مناسبا لشعوري وحالتي النفسية، والشيء الوحيد الذي أؤمن به، هو أن لكل فن قواعده، ولهذا أنا أرفض تماما ما يسمى بقصيدة النثر، وأرفض تماما التنكر لتراثنا الشعري، وأرفض المغامرة بتراث ثلاثة آلاف سنة.

ويتساءل جويدة: "الذين أهملوا الموسيقى في الشعر ماذا ترتب على إهمالهم؟"

ويجيب: "ترتب على هذا أن انفض الناس عن الشعر والذي خسر فعلا هو الشعر. إن التجديد لا يعني إطلاقا التنكر لكل قواعد الشعر والخروج عليها".