الصينية تسان شييه تكتب عن الحب الحر

رواية "الحب في القرن الجديد" تدور حول عدد من الرجال والنساء غادروا مرحلة الشباب ويفكرون في مصائرهم النهائية مع أنهم لم يصلوا إلى الشيخوخة.
المترجمة يارا المصري ترى أن جميع شخصيات الرواية رجالاً ونساءً هم أبطالٌ في المتن 
الرواية في معظم أحداثها قد تبدو وكأنَّها تعكس سلوكاً لا أخلاقياً لشخصياتها

تدور رواية "الحب في القرن الجديد" للكاتبة الصينية تسان شييه التي نُشرت عام 2013 وترجمتها أخيرا المترجمة يارا المصري، حول عدد من الرجال والنساء معظمهم أعمارهم متوسطة، أو هم في الغالب غادروا مرحلة الشباب إلى التفكير في مصائرهم النهائية مع أنهم لم يصلوا إلى الشيخوخة، وإذ هم كذلك فإنهم يدخلون في علاقات عاطفية وجسدية متعدّدة، فيما يبدو كلٌّ منهم وكأنه مرآة للآخر، حتى لتظنّ أن الكاتبة تدير مصائر شخصياتٍ متعدّدة من منطلقٍ واحد، هو مغزى الحياة في علاقتها بالحب والجنس ومسقط الرأس والعمل والتقاليد الصينية القديمة والطبيعة والطب التقليدي الصيني، وإذ تتشكّل الرواية من فصول، فإنّ كلّ فصلٍ يعيد الحكاية انطلاقاً من شخصية من الشخصيات، وليس بوسعنا إلَّا أن نقول إن جميع شخصيات الرواية رجالاً ونساءً هم أبطالٌ في المتن الذي تسرده الكاتبة عن كلّ شخصية، وتتبدّى فيه كذلك مصائرُ الجميع كلّها أو معظمها.
في مقدمتها للرواية الصادرة عن دار سرد مزجت يارا المصري بين رؤى الروائية تسان شييه ورؤيتها للرواية، كاشفة عن أهمية الرواية في سياق تجربة الكاتبة، لافتة أن شُييه إلى جانب الكتابة الإبداعية، كتبت الكثير من النصوص النقدية عن الكتابة الإبداعية، وعن رأيها في كتابة الرواية وتجربتها الشخصية في الكتابة. وأنها تعتبر من أهم الكاتبات الصينيات المُعاصرات. لها العديد من المجموعات القصصية والروايات الطويلة والنوفيلات والكتب النقدية، وهي أحد أكثر الكاتبات الصينيات الذين تُرجمت أعمالهم إلى اللغات الأخرى. كما أنَّ رواياتها تُدَرَّس في سياق دراسة الأدب في جامعات هارفارد وكورنيل وكولومبيا وجامعات أخرى في الولايات المتحدة، إضافةً إلى جامعتي طوكيو ونيهون في اليابان. وقد وصلتْ روايتها "شارع البهارات الخمسة" إلى القائمة الأخيرة لجائزة "نيوستاد" الدولية للأدب عام 2016، ورُشِّحَت لجائزة "الرواية الأجنبية المستقلة" في لندن. ووصلت روايتها "الحبُّ في القرن الجديد" إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر الدولية عام 2019. 

الكاتبة تدافع عن الشخصيات انطلاقاً من مفهومٍ تسمّيه "تماسك النفس الداخلي" وتقول: "كلّ شخصية في هذه الرواية أخلاقية

وتنقل المصري عن شييه قولها "قبل أن أبدأ الكتابة، أكون قد هيّأتُ الشروط الأساسية لأدائي، لكن حين أدخلُ في العالم الاستثنائي لروايتي، أدركُ أنه أداءٌ ذو صعوبةٍ فائقة ومن دون نموذجٍ أوّلي. وما أقصده بالنموذج الأوّلي أنَّه ليس نموذجاً أصلياً ينتمي إلى هذا العالم، فنموذجي الأصليّ يقبع في أعماق الفوضى والظلام. وعليَّ أن أغوص، وأغوص، ثم أقوم بجهدٍ مضاعف لأُظهر هذه المشاهد التي لا مثيل لها، والتي لم تُرَ من قبل على الورق، لذلك يرى العديد من القرّاء أن أعمالي شديدة الغرابة وأنها تشبه السحر، ولكن لها، في الآن نفسه، جاذبيةَ تفوق الوصف". 
وتعقب "هذا بعض ما تقوله الكاتبة شُييه، في نصٍّ لها بعنوان "الأداء"، لتصف الرحلة الإبداعية من التصوّر الذهني للعمل الإبداعي، إلى كتابته، ولعلَّ ذلك ما يخوضه كل كاتب، وإن كانت الكاتبة هنا تعود بما تسمّيه "النموذج الأصلي" إلى أعماق الفوضى والظلام، فلربما كانت تشير إلى عملية الخَلق ذاتها، التي لا خطوط واضحة فيها، وإنما جهد الكاتب في بناء عمله، حتى يراه القرّاء "شديد الغرابة والسحر"، وهو ما قد نراه بالفعل في هذه الرواية: "الحبُّ في القرنِ الجديد".
وتتابع المصري "لكن الغرابة والسحر قد نجد لهما جذوراً في سيرة حياة الكاتبة، سواء على صعيد الواقع بعملها في مهنٍ منها الخياطة، أو في علاقتها بجَدّتها التي كانت تمارس "طرد الأرواح"، أي تمارس عملاً من أعمال السحر حسب تقاليده الصينية، وفي السيرة الذاتية للكاتبة نقرأ أن اسمها الحقيقي "دينغ شياو هوا"، وقد وُلدت في الثلاثين من مايو/آيار عام 1953 في مدينة تشانغشا بمقاطعة هونان في الصين. والتحقتْ عام 1961 بالصف الأول الابتدائي، وتركت المدرسة عام 1966 بعد إنهاء المرحلة الابتدائية، بسبب اندلاع الثورة الثقافية في الصين". 
وتضيف: عاشت دينغ شياو هوا أو تسان شُييه جزءاً من طفولتها مع جَدّتها، بسبب ظروف عائلتها، وهذا ما سنرى له تأثيراً لاحقاً في أعمالها. كان والداها يعملان في صحيفة "هونان اليومية"، وكان والدها رئيساً لتحرير الصحيفة آنذاك، وفي عام 1958 اعتُبرَ يمينياً ومناهضاً للحزب، وانتقل وعائلته عام 1959 من منزلهم إلى غرفتين في جامعة هونان للمعلّمين عند جبال يوي لو، غرب حوض النهر الأصفر. أُرسلت والدتها إلى "هينغ شان ـ جبال هينغ" للإصلاح من خلال العمل، كما خُفِّضت رُتبةُ والدها إلى عامل عام. وفي عام 1962 عادت والدة تسان شُييه للعمل في الصحيفة، وعادت العائلة للعيش في السكن الخاص بالصحيفة. ثم اعتُقل والدها مرّةً أخرى أثناء "الثورة الثقافية"، وبعد أن جاب الشوارع معروضاً في شاحنة في حملة تشهير، سكن في "زريبة البقر"، والمقصود بـ "زريبة البقر" هي بعض الغرف المخصصة في آخر الرواق في سكن الطلبة حيث يمكن للعائلات زيارتهم. 
وهكذا ظلَّ والدها في سكن الطلبة، وانتقلت تسان شُييه إلى غرفة في جامعة هونان للمعلّمين لتعتني بوالدها، وقد سمَّتها فيما بعد: "غرفتي الصغيرة المظلمة"، ورُحِّلَ باقي العائلة إلى الضواحي. في عام 1970 وُزِّعت من قبل مكتب الحيّ للعمل في العديد من المهن، فعملت في أشغال الفرز والتجميع، وبعد أن أنجبت ابنها عملت مدرّسةً بديلة. ثم قرّرت أن تتعلم الخياطة لأنها لم تستطع الحصول على عمل رسمي، وفتحت مع زوجها محل خياطة واستمرّا في العمل لمدة خمس سنوات. وفي عام 1985 بدأت نشر كتاباتها، وانضمّت إلى اتحاد كتّاب الصين عام 1988".

الرواية الصينية
المترجمة يارا المصري

وتشير المصري إلى أنه بالعودة إلى طفولة شييه مع جَدّتها، نقرأ في بحث بعنوان "في العلاقة بين روحانية ممارسات سحر منطقة تشو وروايات تسان شُييه": "ظلّت تجربة الطفولة الغامضة تُلاحق تسان شُييه، حتى أصبحت ذكرياتٍ عجزت عن محوها بعد أن كبرت، وتقول تسان شُييه إنَّ تجربة طرد الأرواح مع جَدّتها عدّة مرّات من فناء المنزل مطبوعةٌ في روحها. تجربة النمو الفريدة تلك، جعلت تسان شُييه متأثرة بالعناصر الغامضة لثقافة ممارسات السحر في منطقة تشو، التي انصهرت شيئاً فشيئاً في مزاجها الروحي الفريد. وقد توفّيت جدّتها بسبب الجوع وتسان شُييه عمرها سبع سنوات". 
وتضيف: "إنَّ طفولة تسان شُييه، سواء السنوات القصيرة التي عاشتها مع جَدتها أو مع عائلتها فيما بعد، وتجربة موت جَدّتها وأخيها، و"الغرف الصغيرة المُظلمة" التي تنقّلت بينها، والتي كتبت فيها نص "أنا وغرفتي الصغيرة المظلمة"، وقضية اعتبار والدها يمينياً ومناهضاً للحزب، إن كلّ ذلك له تأثير بيِّن في أعمالها، فهي كأيّ كاتب، يحمل تجاربه وخبراته ويستبطنها بشكلٍ أو بآخر، أو تتجلّى في أعماله. وتقول شُييه في أحد الحوارات "أنْ أرى الناس يدفعون والدي إلى شاحنةٍ ضخمة ويُعلِّقون في عنقه لافتة كبيرة، فقد كان لذلك تأثيرٌ حاسمٌ على طفولتي ومراهقتي وشبابي".
تقول شُييه في حوارٍ آخر "كتبتُ الرواية في مدّة تزيد عن عام، وتقريباً هي المدّة نفسها التي كتبتُ فيها كلّاً من رواياتي. أكتبُ كلّ يوم ساعة واحدة فقط، وأقلّ من ألف رمز. كما أنني أكتبُ بخط اليد ولا أستخدم الكمبيوتر، وهذا سريع. رواية "الحب في القرن الجديد" هي "كتابة تلقائية"، وما يُسمّى "الكتابة التلقائية"، هي الكتابة من دون تصوّر مُسبق، تُطلق العنان لأفكارك، بالضبط مثل فنون الأداء، حالما يبدأ، يتحرّك القلم تلقائياً، وتُشكِّل اللغة مُستوياتها وتراكيبها الخاصة، لأن ثمّة قوّةً مظلمة تتحرك داخلي وتقود جسدي. لذلك لم أفكّر مُطلقاً في أيّ بداية أو نهاية، كلّ شيء كان تلقائياً، ولهذا لا يستطيع أحد تقليد أسلوب كتابتي. و"الكتابة التلقائية" ليست سهلة، لأنّ عليك أن تصقل نفسك باستمرار وليس أن تنظر أكثر من مرة في عملك، فأنا أكتب منذ ثلاثين أو أربعين عاماً، وأصبحتُ ماهرة، فلا حاجة إلى أن أزن كلماتي أو أفكر فيها، فما أكتبه بطبيعة الحال هو شِعر".
وتتحدّث شُييه عن ماضيها في علاقته بأبطال روايتها، وكأنها تشير إلى أنهم قادمون من القاع الذي أتت هي منه، وتضيف "أنا مولعة بمسقط رأسي. نشأتُ في الجبل أثناء صغري، وتعرّضت عائلتي لمحنة، ولم نكن نجد شيئاً لنأكله، وكنت آخذ أخويّ الصغيرين ونذهب إلى الجبل ونبحث طيلة اليوم عن الأعشاب البرية الصالحة للأكل. الجبل بالنسبة لي كالأم، أنا وهو واحد. بمجرّد أن يتاح لي الوقت أرتمي في أحضانها بحثاً عن مختلف الوجبات الخفيفة. أحبّ الطبيعة منذ صغري، هذه طبيعتي، وإيماني، لم يعلّمني أحد. ما دام حيواناً أو نباتاً، فأنا أحبّه".
وتلاحظ المصري أن في الرواية ثمة أسماء شخصيات لها معنى نباتات كذلك، مما يعكس تلك البيئة التي تتحدث عنها الكاتبة في مسقط رأسها. كما ألفت النظر هنا إلى أنَّ ترجمة الأسماء في الرواية جاءت استناداً على المنطوق الصوتي للاسم في اللغة الصينية، أو ترجمة معنى الاسم حسبما يقتضيه السياق، وفعلتُ هذا بالاتفاق مع الكاتبة. وإذ تتحدّث الكاتبة عن روايتها "الحبُّ في القرن الجديد"، فإنها تكشف أكثر عمَّا تريد قوله، وإن كان ذلك لا ينفي، بالطبع، المغزى الذي سيخرج به كلّ قارئ حسب قراءته للرواية. مثلا، تقول شييه عن مفهومها للحرّية "أكتب عن الحبّ الحقيقي، الحب الحرّ. والغرض من الكتابة عن مهنة خاصة هو وضع الشخصيات في حالة يائسة والسماح لهم بأداء الأدوار بأنفسهم. وهذه الحالة اليائسة ليست العالم الحقيقي، لكنها تعكس جوهر العالم الحقيقي. أريد للقرّاء أن يروا كيف يمكن أن يكون الحبّ الحرّ الحقيقي، ربما يكون غير تقليدي، لكنّه يظهر جمال الحرية. النساء في الرواية "لونغ سي شيانغ، جين تجو، آسي" كلّهن جميلات، وقع في غرامهن الرجال لأنهنّ حُرَّات، لا لأن أرواحهن حرّة فقط، بل أجسادهن كذلك، وهنَّ يمثّلن وحدة الروح والجسد". 
وتوضح "لأن الرواية في معظم أحداثها قد تبدو وكأنَّها تعكس سلوكاً لا أخلاقياً لشخصياتها، فإنَّ الكاتبة تدافع عن الشخصيات انطلاقاً من مفهومٍ تسمّيه "تماسك النفس الداخلي" وتقول: "كلّ شخصية في هذه الرواية أخلاقية. ويِ بو مثلا، دخل السجن بإرادته، لأنه أحسّ بأنه غير مثالي، أَليس هذا أخلاقياً؟ كلّ شخصية في الرواية في حالة من تماسك النفس الداخلي، يفضِّلون الانغلاق على أنفسهم، على أن يجرّبوا شيئاً عكس طبيعتهم. وفي ظنّي، أنّه كلّما كان المرء على طبيعته، كان أكثر أخلاقية. المجتمع المثالي الحقيقي هو حيث يكون الكلّ على طبيعته، وهذا بالطبع من الصعب جداً تحقيقه، لكن يُمكن السعي إلى تلك الوُجهة، الأمر الذي يتطلب القوة".