الضحيتان

بعد مئة يوم على انطلاق الثورة اللبنانية الرائعة، غريب أن يجد الثوار من ينظم نزولهم إلى الشارع ولا يجدون من يمثلهم للوصول إلى السلطة.

إذا كانت الثورة تستطيع أن تقتلع الطبقة السياسية الحاكمة ولا تفعل، فهي جبانة. وإذا كانت الطبقة السياسية الحاكمة تستطيع أن تواصل الحكم من دون أخذ الثورة بالاعتبار، فجبانة هي أيضا. أما إذا كان الطرفان يدركان أنهما محكومان بالتعاون لإنقاذ لبنان، ويمارسان التعطيل المتبادل لمصلحة طرف ثالث، فتلك جريمة في حق الثورة والحكم والشعب.

تخطئ الثورة إذا ظنت أنها قادرة على طرد كل الطبقة السياسية برجالاتها ونسائها وأحزابها وتياراتها وطوائفها ومذاهبها، حتى لو سقط الحكم والعهد والحكومة. هذا لبنان. بعد مئة يوم على انطلاقها الرائع، لم تقدم الثورة بعد أوراق اعتماد أي شخصية جديدة يهف لها القلب. الأسماء المتداولة "آوت لت" (outlet). وكلمة اختصاصيين، التي تعني كل شيء ولا شيء، تحتاج أن تتجسد في فريق حكم جديد قادر على ممارسة الحكم بمعناه السياسي والإداري.

النزاهة جزء من الحوكمة الرشيدة وليست كل الحوكمة. والحكم ليس مدرسة إعدادية للاختصاصيين، بل قيادة شعب نحو التقدم والعلى وتقرير المصير. غريب أن يجد الثوار من ينظم نزولهم إلى الشارع ولا يجدون من يمثلهم للوصول إلى السلطة؟ قدر الثورة أن تصل إلى السلطة حتى لو انقسمت، فالثورات تنقسم، سواء أوصلت إلى السلطة أم بقيت تدور حول نفسها.

إذا كانت الطبقة السياسية أساءت إلى البلاد، فما بال فئات ثائرة تتشبه بها وتكمل المهمة؟ نرى جماعات دبقت بالثورة الجميلة وتقوم بتصرفات فيها تطاول على الكرامات والأملاك الخاصة والمؤسسات والرموز، وفيها حقد على الآخرين كأن الأمر لها، والحكم لها، والقضاء لها، والمعرفة لها، وكأنها تحتكر الحقيقة والصح فتصدر أحكاما ميدانية. لقد شكر اللبنانيون الساعة التي خرجوا فيها من حكم الميليشيات وانقساماتها وتجاوزاتها. ألا قليلا من التواضع وكثيرا من الوحدة لئلا يهشل الرأي العام عن الثورة البهية.

ليس كل من شارك في تحمل مسؤولية فاسدا وليس كل من ركب الثورة حبل به بلا دنس. إيانا أن نزرع الحقد في المجتمع اللبناني وأن نقيم محاكم تفتيش متنقلة تقودها الظنون. نحن اللبنانيين شعب طيب وعائلي. كما لفظنا العقائد المستوردة نلفظ السلوك المستورد أيضا.

إن القوى الإيديولوجية نفسها التي ارتكبت التجاوزات أثناء الحرب اللبنانية، تكرر تجاوزاتها اليوم وتسيء إلى الثورة، فيما الثورة الأساسية منها براء. إن معيار نجاح الثورة ليس في الاعتداء على ممتلكات الناس، بل في تبديل الطبقة السياسية. المحبة بين اللبنانيين أهم من محبة لبنان. ولبنان أهم من السلطة والثورة معا. واللافت كذلك أن الذين يحاولون إجهاض الثورة وتحويلها عن مسارها السلمي، هم ذاتهم الذين ضربوا استقامة الدولة ودستورها وشرعيتها وهجروها عن ثوابتها وشلوا علاقاتها العربية والدولية. لا بل هم ذاتهم الذين يمنعون لقاء الدولة والثورة.

نحن نعيش اليوم حراكا آخر في وجه الثورة، وسلطة أخرى في وجه الدولة. وفي ظل غياب القرار السياسي يتساوى عجز الدولة بعجز الثورة. وما شهدناه في اليومين الماضيين خير دليل على الانحراف والطلاق والعجز. أن نكون أصبحنا أمام دولة بديلة وثورة بديلة ومطالب بديلة وحكومة بديلة وقيم بديلة، يدفعنا إلى البحث عن ثورة تصحيحية مثلما نبحث عن حكم تصحيحي.

اللااستقرار عدو لبنان. الحروب كانت أرحم بلبنان من اللااستقرار. أمراء الحروب خلقوا اقتصادا خاصا ولو كان غير شرعي، واستقرارا مناطقيا ولو كان بالهيمنة. ورغم تعلقنا نحن اللبنانيين بالاستقلال نظريا، فقد عشنا في ظل الاستقرار أكثر مما عشنا في ظل الاستقلال والسيادة. حتى أن الاحتلال السوري خلق "استقرارا عسكريا" ليصبر عليه اللبنانيون ثلاثين سنة (أتذكرون؟).

من هنا أن تعميم الأزمات والاتهامات، ونشر الإشاعات، وتسويق الأرقام المغلوطة، والتلاعب بالدولار، وافتعال النقص في الحاجات الحياتية، والتركيز على الشر، وتحويل جميع قطاعات المجتمع ومؤسساته إلى بؤر شريرة، تشكل بمجموعها المنسق مخططا - لئلا نقول مؤامرة - على لبنان لا تميز بين نزيه وفاسد، ووطني وخائن، وثوروي وسلطوي. لذلك إن سرعة التغيير وصولا إلى الاستقرار تنقذ الثورة والدولة. وخلافا لمسارات تاريخية سابقة، الاستقرار اليوم هو الطريق إلى الاستقلال الجديد ولبنان الجديد وليس العكس.

لبنان لا يحتمل حكما ينتظر احتضار الثورة على الطريقة السورية، ولا ثورة تنحرف عن مسارها على طريقة ما سمي بثورات "الربيع العربي". إن تطور الصراع الداخلي، معطوفا على تطور الصراع الإقليمي، كشف أن الأحداث تخطت تغيير حكومة، ما وضع السلطة، واجهة الدولة، والثورة، واجهة الشعب، وجها لوجه من دون مفاوضات، وبالتالي من دون حلول. أخطر ما في هذه المواجهة المفتوحة أن تصبح الثورة ضحية مشروع دولي فيما هي أملنا الباقي، وأن تصبح السلطة ضحية مشروع إقليمي فيما هي ملتقانا الدستوري. ووفق قاعدة السببية: حين يسقط الشعب والدولة تسقط معهما ضحية ثالثة: النموذج اللبناني.

إشكالية اللبنانيين أننا نؤمن بالتغيير لدى سوانا ونستغربه لدينا. نتحدث بثقة العالم بالأسرار عن تغييرات الأنظمة والحدود والكيانات في دول الشرق الأوسط، ونظن، بالمقابل، أننا ننتمي إلى كرة أرضية أخرى، وأن الثورات والحروب عندنا تنقضي كل مرة بتغيير حكومي أو بإطاحة مسؤول أو بتسوية مخادعة أو بدستور ملتبس. تبدلت المعطيات وأصبحنا أمام خيارات صعبة. وإذا كانت تلك الخيارات مستحيلة سابقا، فقد صارت ممكنة في سياق انتفاضة اللبنانيين وأحداث المنطقة والانقلابات الآتية.

لذلك، إن مهمة الحكومة الجديدة، عدا إجراء إصلاحات فورية توقف الانحدار وتستدر المساعدات المالية، هي أن تجوب على الأشقاء العرب ومراكز القرار الدولي من أميركا إلى الصين مرورا بفرنسا وأوروبا وروسيا، وتلتقي فيها الملوك والرؤساء وصناع القرار، فلا نعرف مصيرنا من خلال موفدين دوليين من رتبة رئيس مصلحة أو دائرة في وزارة. فحماية الكيان اللبناني لا تقل أهمية عن مكافحة الفساد.