الطائر الجميل وآهات العشاق!

صباح فخري يصعد بقصيدة "جاءت معذبتي" إلى عنان السماء ويحلق بها في فصول طيران مبهرة، حولت جمهوره إلى سكارى.
عشاق كثيرون يرون أن من يهبه الله مثل تلك الحبيبة لا بد وأن يكون في مستوى أحلامها وآمالها
جاءت مُعذّبَتي في غَيهبِ الغَسَق ** كَأنّها الكَوكَبُ الدريُ في الأُفُقِ

تعد قصيدة الشاعر العربي لسان الدين إبن الخطيب "جاءت معذبتي"، من أروع القصائد التي غناها كثير من مطربي الغناء المعروفين، لكن الفنان السوري الكبير صباح فخري ، صعد بها إلى عنان السماء وحلق بها في فصول طيران مبهرة، حولت جمهوره إلى سكارى وهم يصعدون معه ويرافقونه رحلة الطيران، ثم يعيدهم إلى الأرض في تحليق هاديء، بعد أن قدم لهم عروض طيران ساحرة وألحانا مبهرة، هزت ضمائرهم ووجدانهم، وهم يعيشون فصول ملحمة غنائية، أشعرتهم بقيمة أنفسهم ومنحتهم أملا بأن يعيشوا حلما سرمديا، انتقل بحياتهم إلى الحالة المثلى لما يحلمون ويتمنون من أمنيات ، فاستحق أن يكون مطربهم بلا منازع!
وحالة السكر التي يعيشها الجمهور، وهو يهيم بالصوت الرخيم الذي يداعب حروف القصيدة وهو يراقصبها وتلهث وراءه، بالرغم من أن كثيرين ممن رافقوه في تلك الأمسية الغنائية وأماس كثيرة غيرها، لم يتناولوا الخمر، ولم يرتشفوا من عبق كؤوسها العامرة بالعشق، لكن عدوى السكر انتقلت إلى أفئدتهم وقلوبهم، وراحت هي الأخرى تحلق بهم بعيدا في عالم الخيال الرحب والأماني المشروعة، والتي قلما يجد لها الإنسان وجودا على أرض الواقع، ولهذا يأمل أن يعيش هؤلاء المعجبين حالة حلم وحالة سكر جماعي وهمية، ربما أعطتهم متاعب الحياة فرصة أن يعيشوا عبق أجوائها وفصولها الساحرة، ليشعروا بالانتعاش والسعادة، وليؤكدوا أنهم بشر مثل كل خلق الله الآخرين، وهم من أضناهم العشق وأحرقت قلوبهم الصبايا الجميلات، والعيون الساحرة بفتونها، بعد أن أفقدتهم عقولهم وصوابهم وهاموا في بحور الوجد بحثا عن الحبيب الموعود، وعلى أية بقعة من أرض المعمورة!
وقبل أن أدخل في رحلة التحليق التي يعيش فصولها الفنان صباح فخري برفقة جمهوره، أود أن أضع بين أيديكم كلمات تلك القصية الرائعة "جاءت معذبتي"، لتستمتعوا بروعة كلماتها ورحلة تلك العاشقة التي جابت الليالي الظلماء ولم تخش الحراس ولا قطاع الطرق الذين قد يفتكون بها إذا ما رأوها، وهي في رحلة إصرار على رؤية الحبيب وملاقاته، برغم هول البحر وهي تتحدى أمواجه المتلاطمة لتؤكد للحبيب أن البحر لا يرهبها، وهي لا تخشى من الغرق، وقد تحملت تلك الحسناء وهي التي وصفها بـ "الكوكب الدري" الذي يضيء ليالي الظلمة ويزيدها لمعانا وبريقا وسحر جمال، كل تلك المتاعب، وليس بمقدور الآخرين التحليق في وجهها القمري لروعة بياضه وما وهبه الله من كمال الطلعة وسحر الجمال، حتى راح  الكوكب الدري يتحول أمام العاشق حقا وحقيقة!
وما زاد في روعة اللقاء وبهائه، وهي تريد أن تصعد مع حبيبها الى أعالي السماء لتحلق معه، إن طلبت منه بعد أن يقبل خديها ويطبع عليه بعض قبلاته، ثم رجته أن ينزل بتلك القبلات إلى فمها ويداعب عنقها، وهي التي هامت بغرامه به حد الجنون، لكنها نسيت كما ببدو أن تطلب منها مداعبة نهديها الفضيين، أو أن الشاعر لم يفطن إلى سحر الكواعب أترابا، وما إن طلبت منه ان يداعب عنقها، حتى نسي نفسه وراح يطير بها الى الأقاصي، في رحلة فضائية وجدانية سرمدية، ربما تذكر أن الله في وقتها قد أدخله جنات الخلد، وقد وهبه بعضا من حوريات الجنة من حور العين، ليقضي معها أجمل لياليه!
ويرى عشاق كثيرون أن من يهبه الله مثل تلك الحبيبة لا بد وأن يكون في مستوى أحلامها وآمالها، وهي التي تحملت من مشاق وكلام الناس الكثير، وهي التي لم تبال بهم، وعدت العثور على حبيب العمر وكأنه يساوي الدنيا وما فيها!
والآن نعود بكم إلى فصول رحلة الفنان الكبير صباح فخري، وأنتم ترافقونه في رحلة الصعود السرمدي، وأنتم في غاية الشوق والمتعة، وهو يصهل بصوته المجلل، الذي يجيد فنون المقام وأصوله، ويعيد توزيع أنغامه، بما يجعل جمهوره يعيش فصول رحلة عمر لم يألفها من قبل، وهم في حالة سكر ربما تصل حد الثمالة كما يقال!
وهذه كلمات قصيدة "جاءت معذبتي"؛ تعالوا رددوا أنغامها وكلماتها، فهي من تجدون فيها ما يروي القلوب العطشى إلى الفن الأصيل!

جاءت مُعذّبَتي في غَيهبِ الغَسَق
كَأنّها الكَوكَبُ الدريُ في الأُفُقِ
فَقُلتُ نَورتِني يا خَيرَ زائِرَةٍ
أما خَشيتِ مِنَ الحُراسِ في الطُرُقِ
فَجاوَبتني ودَمعُ العَينِ يَسبِقُها
مَن يَركبِ البَحرَ لا يأمن من الغَرَق
قَبلتُها.. قَبلتني وهي قَائِلةٌ
قَبّلتَ خَدي فلا تَبخَل على عُنُقي
وأنت تستمع إلى صهيل الصوت الطربي الرخيم للفنان الكبير المبدع صباح فخري في الغناء حتى ليخيل إليك أنك أمام طائر ماهر يجيد فن التحليق في الأعالي، والسباحة في مياه البحر  الهائج، وهو يسرح ويمرح في أقاصي الفضاء، كطيار ماهر، وفي أجواء مرح وطرب تهز الأصقاع، وكأنك أمام عملاق صوتي، يعيد صقل الكلمة، ثم يعيد ترتيب حروفها، لكي يجعلها تتراقص أمامه طربا وهياما، ثم يحلق بنغماتها وسحرها الخلاب، وتجد الجمهور وهو في حالة سكر وانتعاش رهيبة يصعد مع صاحبها وكأنه يرى هو نفسه يحلق في تلك الآفاق، والجميع يرددون معه، في تناغم روحي جمالي إبداعي خلاب، بعد أن ينتهي من كل بيت، من أبياتها، وهو الذي أجاد أسلوب الطيران في الأعالي بصوته المجلجل، وهو يصهل كفارس يحلم بأن يرى حبيبته، قبل أن يصل إلى ساحات الوغى ويشتد الوطيس!
ربما كانت كلمات قصيدة "جاءت معذبتي" في مقدمة تلك الروائع التي أبدع فيها الفنان السوري الكبير صباح فخري، وهو يجيد فن تقسيم حروفها وكلماتها، ليستخرج منها ألحانا وأنغاما تطرب أسماع الجمهور وتشد أنظاره وهو الذي يرافق الفنان والمطرب في رحلة غنائه ويحلق معه في أجوائه الساحرة، وكأنه هو من يركب طائرة ويحلق بها في عالم الفضاء، ثم يعاود الفنان الكبير رحلة الهبوط بتناغم موسيقي ولحني فريد، إذ يلتقي مع أسلوب قائد الطائرة قبل وصوله أرض المطار بدقائق ليهبط بها رويدا رويدا وعلى مهل، إلى أن يتمكن من أن يوصلها إلى مدرج الطائرة بسلام، لكنه قبل ذلك وعندما يكون في أعلي الفضاء يمارس لعبة الطائر الحربي، الذي يصهل بطائرته بين الأعالي، وهو يقدم عرضا شيقا يبهر الجمهور حين يصعد وينزل وينزل ويصعد ويروح غربا ويذهب شرقا، في توزيع موسيقي يرغم الجمهور على متابعة مراحل الطيران وكيف يصول ويجول بكلمات الأغنية ويمنحها عشقا سرمديا ولونا سحريا يطرب القلوب وترتاح لها السماع والأفئدة وهو يشعر جمهوره بأن فصول طيرانه لم تنته بعد، حتى بعد أن هبط بطائرته على الأرض، ويترك الجمهور بعد الهبوط وهو يتمايل زهوا وكبرياء، وهو في أعلى مراحل الذوبان الروحي والعشق والإلهام، وكأنه يعيش حالة سكر لم يصح بعد من روعة سكرتها، وهو لا يريد ان يعود إلى أجواء الطبيعة التي ربما تحرمه مرة أخرى من فرصة التحليق في أجواء الفرح والمرح والسعادة، حتى يشعر بأنه في قمة انتعاشه الآدمي، وبأنه امتلك الدنيا وما فيها!
طوبى للمتألق والفنان الكبير صباح فخري، وللمتلاعب بعقول معجبيه ومحبيه وعشاقه، وهو الفنان المرهف الذي لا يقصد تضليلهم أو أن يختلق لهم تلك الهالة السحرية من الهوس الجماهيري، المفعم بعشق أغانيه ومقاماته الصاخبة، صخبا غير ممل، بل يشعرهم بكبرياء المكانة وعزة النفس وصفاء القريرة وصدقية المشاعر، وعمق الإحساس، وروعة المشاعر، وكأنه يمثل دور عاشق أضناه الحب، وهو يداعب معشوقته كما يشاء، مرة يقبلها ومرة يأخذ بيديها ليرفعها إلى أعالي السماء، ومرة يقبل عنقها، ويهيم بروعة نهديها وساقيها، وهما يحلقان معه، برحلة طيران عامرة بالوجد والهيام، ليضع عشاق الدنيا ومن ولجوا بحور الغرام، في المنازل التي يستحقونها، وهم يمارسون عشقهم وهيامهم المشروع، في لحظات فرح وشعور بالسعادة، عندهم هي أجمل ما في هذه الدنيا من كنوز!