الطبيعي أن تقع المصالحة الخليجية

البعد الاجتماعي في العلاقة بين الخليجيين يتفوق باستمرار على الأبعاد السياسية والاقتصادية.
وحدة الخليج ليست شأنا سياسيا خاضعا للظروف بل هي شأن يقع في العمق
أكثر ما كان يؤلم في الأزمة ذلك الصدع الاجتماعي الذي لم يتداركه أحد بالسبل الفنية المتاحة
درس جارح بالنسبة للعوائل التي تفصل بين أفرادها بضعة كيلومترات على غرار البحرين وقطر

حين تأسس مجلس التعاون الخليجي عام 1981 كانت الدوافع التي استدعت قيام ذلك التجمع هي مزيج من الرؤى السياسية والمشاريع الاقتصادية التي ما كان لها أن تجد الطريق سالكة إلى التفكير الواقعي لولا وجود قاعدة اجتماعية استندت عليها واستمدت منها قوتها الحاضرة وخيالها المستقبلي غير أنها لم تستخرج منها أدواتها في الممارسة.

فبالرغم من ذلك فإن المجلس كان بطيئا في عمله بل أن البعض يتهمه بالكسل. ذلك لأن أربعين سنة من العمل المشترك بقمم مستمرة لم ينتج عنها إلا القليل من أسباب الوحدة السياسية والاقتصادية وظلت الخلفية الاجتماعية تلعب الدور الأكبر في تأسيس ثقافة وحدوية والحفاظ عليها.

لم تكن تلك الخلفية صناعة ثقافية بل كانت هبة من الطبيعة.

وبالرغم من تنوع في العادات والتقاليد والمناسبات غير أن هناك ملامح لوحدة ثقافية يمكن البناء عليها من جهة الحفاظ على مشاريع الوحدة السياسية والاقتصادية التي لم تجد طريقها إلى النور وظلت تتعثر في واحدة من أكثر وسائل التعبير عنها يسرا كتوحيد العملة مثلا.

كانت دول مجلس التعاون الخليجي لا تحتاج إلى وعي ثقافي جديد من أجل أن تستغرق في نعمة شعور شعوبها بأنها شعب واحد توزع بين دول عديدة. فكل اجراء سياسي لم يكن يؤثر على الخطوط الممتدة والممرات المفتوحة بين العوائل التي تقيم في غير بلد من غير أن تشعر أنها تعيش وضعا مجزءاً. لقد حرصت الدول على ذلك الجانب الحساس الذي هو أشبه بمصل حيوية تتجدد بالنسبة لها. كان تاريخها النابض بالحياة يقيم هناك.

وحين وقع الخلاف عام 2017 بين المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين من جهة ودولة قطر من جهة أخرى وأدى إلى حال من القطيعة فإن أكثر ما كان يؤلم في تلك القطيعة هو ذلك الصدع الاجتماعي الذي لم يستطع أحد أن يتداركه بالسبل الفنية المتاحة. لقد عاشت عوائل عديدة نوعا من الحيرة في مواجهة حدث لم يكن متوقعا ولا سبيل إلى توقعه فكان أن تركت الصدمة أثرا عنيفا لم يكن في الإمكان القفز عليه أو تخطيه من خلال الحديث السياسي الذي يعتبره الناس العاديون وفي منطقة الخليج العربي بالذات حديثا ملحقا بالحياة وليس صانعا لها.

لذلك يمكن النظر إلى المصالحة الخليجية باعتبارها محاولة لردم تلك الهوة التي نشأت بين الدول والمجتمعات. عن طريق تلك المصالحة استعادت شعوب منطقة الخليج العربي البعد الذي يمكنها من الشعور بأنها شعب واحد. وهي كذلك بناء على صلات وأواصر تاريخية واجتماعية.

لقد اكتشف زعماء الدول أن أي نقاش في السياسة يمكن أن يقع خارج خيمة المجتمع. وهم إن توصلوا إلى الوحدة الخليجية بكل ما يشير إليه ذلك المفهوم من معان فإنهم يكونون قد استجابوا لواقع حال لا يمكن إنكاره وهم إذ أصروا على الإبقاء على دولهم مستقلة بسياساتها فإن ذلك ينبغي أن لا يؤثر في شيء في الوجود الاجتماعي الراسخ.  

ليعمل السياسيون ما يشاؤون بشرط أن لا يؤثر ذلك على تلك الوحدة الاجتماعية التي هي مصدر الأمان لشعب انتشر على ضفاف الخليج العربي وأسس دولا وكان قادرا على تطويرها بطريقة معاصرة واستعمال ثرواتها بما يغني وينفع.

كانت المقاطعة درسا لا أظن أن أحدا لم يتعلم منه. وكان ذلك الدرس جارحا بالنسبة للعوائل التي تفصل بين أفرادها بضعة كيلومترات كما هو الحال بين البحرين وقطر.

كان السياسيون في حاجة إلى ذلك الدرس لكي يتعلموا أن وحدة دول الخليج هي ليست شأنا سياسيا يمكن أن تتحكم به الظروف المتغيرة بل هي شأن يقع في العمق ولا يمكن أن يصل إليه أي سياسي مهما كان حكيما.

المصالحة هي عودة إلى ما هو طبيعي وهي مناسبة لكي ينصت السياسيون، بعضهم إلى البعض الآخر بشكل ايجابي ومن غير انفعال أو أحكام مسبقة.

وكما أرى فإن مجلس التعاون الخليجي إن اتخذت دوله مما حدث درسا فإنها ستعمل جاهدة على ابتكار آليات جديدة لعمله ستعيد إليه حيوية كان قد فقدها. وهي حيوية تتناسب مع ما شهدته المنطقة من تغيرات. وهي تغيرات جذرية، لا يُعقل أن نكتفي بردود الفعل الإعلامية التي تناولتها.

يحتاج زعماء الدول الخليجية إلى معالجة تلك التغيرات مجتمعين. وهو ما سيقود إلى أن تستعيد السياسة قيمتها في حياة المجتمع.