العبقري الأكثر جنونا ً في تاريخ الشطرنج

بوبي فيشر بين ليلة وضحاها وجعل الشطرنج جزءا من الثقافة الشعبية الأميركية.
عبقرية بوبي فيشر في الشطرنج ظهرت في سن مبكرة جدا وراح يقرأ كل ما وقعت عليه يداه من كتب ومجلات الشطرنج
بوبي فيشر تخطي كل الحواجز والعوائق قبل وصوله إلى المباراة النهائية وقبل لقائه البطل العالمي بوريس سباسكي عام 1972 

في عام 1972 كان العالم يترقب بشغف شديد مباراة شطرنج في العاصمة الآيسلندية «ريكيافيك» للمنافسة على اللقب العالمي بين الروسي بوريس سباسكي والأميركي بوبي فيشر. وكانت المباراة قد جرت آنذاك في أوج اشتعال الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفييتي.
ولد بوبي فيشر (أو روبرت جيمس فيشر) عام 1943 في ولاية إلينوي الأميركية في مدينة شيكاغو، من أم يهودية ذات أصول بولندية روسية ووالده عالم الفيزياء المعروف الألماني غيرهارد فيشر، إلا أن تحقيقات قامت بها صحيفة أميركية عام 2002 أشارت إلى ملف مهم في مكتب التحقيقات الفيدرالي يؤكد أن عالم الفيزياء اليهودي باول نيميني هو والد فيشر الحقيقي وكان على اتصال مع ريجينا منذ 1942، لكنه منع من الدخول إلى الولايات المتحدة الأميركية بسبب ميوله الشيوعية.
ظهرت عبقرية بوبي فيشر في الشطرنج في سن مبكرة جدا وراح يقرأ كل ما وقعت عليه يداه من كتب ومجلات الشطرنج، وانتمى في سن الثانية عشرة إلى نادي منهاتن للشطرنج، أحد أقوى الأندية في البلاد، ومن ثم إلى نادي هوثورن عن طريق معلمه ومدربه جاك كولينس ليلعب في سن الخامسة عشرة من عمره أحد أقوى الأدوار التي أذهلت عشاق ومتابعي الشطرنج في العالم ويفوز على البطل دونالد بايرن في مباراة أقل ما يقال عنها إنها تحفة فنية لبيكاسو أو قطعة موسيقية لبيتهوفن، وسميت تلك المباراة الخالدة بمباراة القرن، حصل بوبي في وقتها على لقب بطولة الولايات المتحدة الأميركية، ومن بعدها لقب أستاذ دولي كبير، ليصبح بذلك أصغر لاعب في التاريخ يحصل على هذا اللقب آنذاك. 

chess
أعطنا فقط لوح شطرنج

عبقري أميركي وحيد يتحدى الآلة السوفييتية ويهزمها
عند تخطي بوبي فيشر كل الحواجز والعوائق قبل وصوله إلى المباراة النهائية وقبل لقائه البطل العالمي بوريس سباسكي عام 1972 كان قد هزم العديد من أبطال الاتحاد السوفييتي، وعلى رأسهم تيمانوف، الذي تلقى خسارة قاسية من فيشر بواقع (6-0)، وكذلك الدنماركي بنت لارسن بالنتيجة الكبيرة نفسها أيضا. بدأت الأنظار في الولايات المتحدة الأميركية تتجه نحو بوبي فيشر، وكانت صوره تملأ المجلات والإعلانات وشاشات التلفزيون، إضافة إلى شخصيته الغامضة ووسامته التي أعطت له هيئة توحي بالكبرياء وملامح العظمة، فصار بمثابة بطل أسطوري يمثل شرعية أميركا في حربها مع العالم. 
أميركا في حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتي كانت تفتقر إلى المرتكزات الحقيقية والأصيلة للقوة الفكرية في الأدب والفن والفكر، وفي المجالات الأخرى، وكانت تحتاج إلى مخلص حقيقي ينقذها من الشتات والضياع في حروبها الفكرية مع الطرف الآخر، فكانت لعبة الشطرنج متنفسا وحيدا ومعبراً عن تلك التطلعات، بينما المدرسة السوفييتية في لعبة الشطرنج ظلت متربعة لعقود طويلة على عرش هذه اللعبة، التي كانت تعتبرها انتصارا فكريا دائما للشيوعية على الرأسمالية، إلى أن ظهر بوبي فيشر بين ليلة وضحاها وجعل الشطرنج جزءا من الثقافة الشعبية الأميركية.
لم يكن بوبي فيشر ذا شخصية سوية ومتزنة، حاله كحال أكثر المبدعين والعباقرة، وتحديداً في دولة رأسمالية تعمل على تسليع الفكر والإبداع كأي بضاعة رائجة تواكب متطلبات العصر وتحقق مصالح كبار تجارها ورجال أعمالها. 
عانى بوبي فيشر من قلق اكتئابي وجنون ارتياب، وكان منزويا وذا حساسية شديدة تجاه الآخرين، رافقته هذه العزلة من طفولته حتى وفاته، وكان يرى الآخرين جحيما فعليا، على حد تعبير بول سارتر، فكل من كان يحاول ملاطفته أو التقرب منه أكثر يصبح فيشر عدوانيا معه، وظل يشك في الغرباء طيلة حياته، وفضل أن يبقى وحيدا وبعيدا عن أعين الناس وتعقبهم لأخباره.
في الطرف الآخر كان بوريس سباسكي الرجل القوي والمتزن، هو رجل الدولة المدعوم من كبار السياسيين ومؤسسات الدولة في الاتحاد السوفييتي. سباسكي البطل العالمي السابق، كان الوحيد المعول عليه في أن يضع حدا لانتصارات فيشر وإن يبقي الشطرنج تحت العرش السوفييتي. في تلك الأثناء كان بوبي فيشر تحت ضغط جماهيري وسياسي هائل، لدرجة أن الرئيس الأميركي اتصل به شخصيا وقال له:" اذهب لآيسلندا واهزم الاتحاد السوفييتي."
ولم تتوقف معاناة فيشر عند هذا الحد، ففي الاجواء التي سادت المباراة النهائية للتويج باللقب العالمي توهم بوبي فيشر أن المخابرات السوفييتية تتعقبه وتلاحقه، وفي الجولة الأولى خسر من سباسكي بنقلة خاطئة وكارثية ارتكبها أثناء المباراة، وكان شديد الحساسية من أصوات الكاميرات والجمهور: فطلب في الجولة الثانية أن تكون المباراة بعيدة عن الجمهور والإعلام في غرفة مظلمة كانت مخصصة للبينغ بونغ، لكن طلبه رفض من قبل الاتحاد الدولي للشطرنج، وفي الجولة الثانية انسحب فيشر ولم يأت فكانت الأمور كلها تجري لصالح سباسكي والروس بعد تفوقه بجولتين حاسمتين، لكن سباسكي رفض نصراً على طريقة الجبناء ووافق على شروط فيشر رغم تحذير الروس من الانصياع لمطالب فيشر.
انتقلت العدوى إلى سباسكي وصار هو الآخر يعتقد أن المخابرات الأميركية تتعقبه وتريد قتله، وكان يشك حتى في كوب قهوته بأنه مسموم، أو بالكرسي الجالس عليه أثناء المباراة، فأصبح البطلان مريضين نفسيا وضحيتين من ضحايا الصراع الأيديولوجي.
فاز بوبي فيشر على سباسكي بنتيجة 12 نقطة ونصف النقطة، مقابل 8 نقاط ونصف النقطة لسباسكي، ولم يخسر سوى مباراة واحدة فعلية وتعادل في 11 مباراة، لينتزع اللقب من الروس ويتوج بطلاً للعالم سنة 1972 وعندما عاد تم تكريمه من قبل الولايات المتحدة وحصل على ثروة هائلة، أصبح بفضلها مليونيرا، ثم اختفى عن الأنظار أكثر من 15 عاما بعيدا عن الأضواء والألقاب ليعود عام 1992 مرة أخرى على الساحة، لكن هنا حلت الكارثة بعد أن أصبح العالم قطبا واحداً وانهار الاتحاد السوفييتي مع أحلامه وتطلعاته في بناء عالم أفضل.

مباراة أخرى مع سباسكي عام 1992
إحياء للذكرى التي جرت بين بوبي فيشر وبوريس سباسكي، طلب فيشر من المنظمين إقامة مباراة بينه وبين سباسكي مرة أخرى وتسمية المباراة ببطولة العالم للشطرنج، على الرغم من أنه في وقتها كان كاسباروف بطل العالم بلا منازع، وكانت جولاته مع مواطنه كاربوف تتصدر المشهد آنذاك، إلا أن فيشر كان يصف كاسباروف ومن معه بالثلة المجرمة والمتواطئة. جرت المباراة في مدينة بلغراد عاصمة يوغسلافيا، التي كانت تحت الحظر المفروض عليها من الولايات المتحدة الأميركية. 
حذرت الخارجية الأميركية بوبي فيشر قبل بداية المباراة من أن يوغسلافيا تحت الحظر، ولا يمكنه اللعب هناك، وإنه بذلك سيخرق أمر الرئيس الأميركي جورج بوش وقرار مجلس الأمن بفرض عقوبات ضد المتورطين في أنشطة اقتصادية وثقافية مع يوغسلافيا، فما كان منه إلا أن بصق على القرار الأميركي وقال لهم: هذا هو ردي.
وصدر بعد انتهاء المباراة أمراً باعتقاله مباشرة. تحول بوبي فيشر إلى لاجئ وهارب من الولايات المتحدة، بعد أن كان سابقا بطلاً قوميا صنعته الآلة الأميركية لسحق السوفييت.
عرف بوبي فيشر بآرائه المعادية لليهود وأميركا، فقد أنكر الهولوكوست ووصف أميركا بالمهزلة التي يسيطر عليها اليهود الأوباش القذرون أصحاب أنوف الكلاب. 
وفي عام 1999 وصف نفسه في لقاء معه في محطة بودابست بأنه ضحية المؤامرة اليهودية العالمية، وقال بأنه اكتشف بعد قراءته لكتاب حكومة العالم السرية بأن اليهود والمخابرات العالمية تستهدفه. وكان معجبا ً بهتلر وأفكاره النازية.
بعد وقوع حادثة 11 سبتمبر/أيلول عام 2001 كان بوبي فيشر في لقاء مباشر مع إذاعة بابلو ميركادو في الفلبين وقال: لقد جاء الوقت ليتخلص العالم من ظلم أميركا، فقد ارتد فعلها عليها أنا أحيي هذا الفعل. أميركا وإسرائيل ظلتا تذبحان الفلسطينيين لسنوات عديدة دون أن يحرك أحد ساكناً، وأتمنى حدوث انقلاب عسكري في البلاد يسيطر عليه الجيش. سيغلقون المعابد ويعتقلون الآلاف من زعماء اليهود ليتم إعدامهم في الساحات العامة. وعلى خلفية هذه التصريحات تم طرده نهائيا من منظمة الاتحاد الدولي للشطرنج.
بوبي فيشر هو نموذج حقيقي للقسوة الرأسمالية المرعبة جدا في أميركا، التي تجعل من الإنسان وفكره سلعة أو هدفا يخدم مصالحها وصراعاتها. أراد فيشر أن يكون حرا وملكا لفضاء لا متناه يسبح في عالمه الداخلي بعيداً عن الوحوش المتربصة به.
توفي بوبي فيشر في 17 يناير/كانون الثاني من سنة 2008 بسبب مرض القصور الكلوي في مستشفى ريكيافيك في آيسلندا، رغم قلة المعلومات والأدلة المتوفرة حول سبب وفاته التي قد يقتنع بها البعض، لكن ليس مستبعدا أن يكون قد قتل بطريقة بطيئة على أيدي المخابرات العالمية والأميركية بسبب تصريحاته الشرسة ضد يهود العالم والمنظمات السرية وجرائم أميركا.
كانت كلمات فيشر الأخيرة.. «لا شيء يشفي مثل اللمسة الإنسانية» دفن فيشر في كنيسة تقع 60 كم جنوب ريكيافيك، ولم يحضر إلى الجنازة إلا حبيبته اليابانية ميوكو واتاي وصديقه جارور مع عائلته.
عندما اعتقلت السلطات اليابانية بوبي فيشر في 13 يوليو/تموز سنة 2004 ووضعوه في زنزانة معتمة بلا نافذة، وكان قد أصيب بكدمات وانكسر أحد أسنانه؛ بعث بوريس سباسكي منافسه القديم في الحرب الباردة، رسالة إلى الرئيس الأميركي جورج بوش: «فيشر يملك شخصية مأساوية، أدركت هذا في أول لقاء لي معه. هو صريح وحسن المحيا، وليس اجتماعياً بالمرة، هو غير قادر على التكيف مع معايير كل شخص للحياة، ويملك حساً عالياً بالعدالة وغير مستعد لتقديم تنازلات حتى مع ضميره الخاص، أو مع من يحيط به. هو الشخص الذي يقوم بكل شي ضد نفسه… أنا أطلب شيئا واحدا: الرحمة. وإذا كان هذا الشيء مستحيلا فأريد أن أطلب منك التالي: أنا وبوبي ارتكبنا الجريمة ذاتها، فافـــرض عليَ العقوبة أيضاً، اعتقلني وضعني في زنزانة فيشر وأعطنا فقط لوح شطرنج».