العراق.. وباء السلطة في زمن كورونا

الانحدار الاخلاقي لرجال السلطة في العراق يتجسد في اصرارهم على استمرار صراعاتهم في وقت تعلني ابلاد من أزمة صحية غير مسبوقة.

برغم حجم الكارثة الكبيرة التي حلت على العراق، بعد تفشي وباء كورونا، الا أن ساسة هذا البلد ما زلوا يتقاتلون ويتصارعون فيما بينهم، ويتبادلون جولات الكر والفر، وكل يعلن الحرب على الآخر، حتى بين أبناء الطائفة الواحدة والمذهب الواحد وربما العشيرة الواحدة والحزب الواحد والكتلة الواحدة.

في كل الأزمات والمحن والشدائد تتحد شعوب العالم، ويعلن حكامها النفير العام، ويتناسون خلافاتهم وصراعاتهم، ويدعونها جانبا، إلا ساسة العراق، فهم ما يزالون حتى الان، يصرون على بيع آخر ما تبقى للعراق من وجود لبلد، ويعلنون ولاءهم للآخرين،وكأن العراقيين أتباع ولم يبلغوا بعد سن الرشد وليسوا أصحاب حضارات وتاريخ عريق وأقاموا دولا ومؤسسات ونظم حكم متطورة، وهم يعدون الآن مواطنيهم، وكأنهم رعاع أو قطيع أغنام، وكل يريد ان يجمع رعاعه وأتباعه، ويقيم الحد على الآخر، لكي ينتقم منه، حتى وإن كان أخيه أو إبن عمه، او نظير له في الخلق او الطائفة والمذهب أو العشيرة.

المئآت يصابون بمرض كورونا، وتزداد أعداد الوفيات، بين الشعب العراقي، وهم، أي ساسة العراق، غير آبهين بهذا الوباء، الذي يفتك في الجسد العراقي، وكأن حياة العراقيين او سلامتهم، لا تعنيهم بأي حال من الأحوال.

والطامة الكبرى أنه حتى مجلس القضاء الأعلى في العراق الذي كان الكثيرون يشيدون بنزاهته ليكون فوق أمزجة الساسة وخارج دائرة مراهناتهم ومعاركهم على المناصب والامتيازات، بدا وكأنه ليس كذلك، فقد سارع هو الآخر بالدخول في تلك المعارك، وأدخل نفسه طرفا في تلك المواجهة، وما يحتدم الآن بين مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية، بشأن المرشح الأخير الزورفي، شاهد على ما نقول.

كان مجلس القضاء الأعلى ودائرته التي تليه وهي المحكمة الاتحادية هي نفسها من فسرت الكتلة الاكبر في انتخابات عام 2010 على أنها الكتلة الأكبر التي تتشكل بعد الانتخابات، وهي نفسها التي تعيد تفسير تلك الفقرة المتعلقة بالكتلة الاكبر الآن بطريقة تبدو متناقضة، وبما يخدم هدف الساسة المتصارعين، وبحسب مقتضيات المصلحة، وبما تمليه عليهم الاملاءات الخارجية والضغوط الداخلية، ليظهر القضاء العراقي وكأنه دخل لعبة الصراع المكشوف هذه المرة، وهذا هو الأخطر أن يكون القضاء العراقي الذي شهد له الكثيرون بالنزاهة والحيادية، واذا به، يدخل معركة الصراع والبقاء بين دوائره نفسها، ويبقي الشعب العراقي في دوامة صراع دموي، كان وباء كورونا الاخير أحد فواجعه، ومع كل تلك المحنة القاسية والأليمة، نجد أن أواني الصراع المستطرقة تتحول في كل مرة، لتخدم ساسة بعينهم، وهم المتحكمون بمصير البلد ومن يوغلون في إبعاد شعبه عن ان يقول كلمته، او يكون له شأن في مستقبل بلده.

الوباء يفتك بالعراقيين، والجهات الصحية تعلن فرض التجوال لمنع التجمعات تحاشيا لمنع انتشاره والسيطرة عليه، وهناك من يدعو العراقيين الى التجمع بالمئات أمام المراقد من أجل الزيارة، برغم أن خلية الطوارئ أعلنت رفضها أي تجمعات ومن أي كانت دينية او سياسية او رياضية او ثقافية، والاف الزائرين يقطعون الطرقات ويتحدون حظر التجوال والجهات الأمنية ليس بمقدورها أن تفعل شيئا توقف زحفهم، والوباء ينتشر وتتزايد مخاطره واعداد المصابين والوفيات في تزايد، ولا أحد يوقف زحف تلك الجموع التي لاتأبه للموت، وكانها تريد ان تسهم مع ساسة العراق في تعريض ما تبقى من حياة العراقيين لخطر الفناء.

والأكثر من ذلك أن يجتمع ساسة البيت الواحد بالرغم من أنهم منقسمون فيما بينهم حد الاحتراب، عندما يريدون تقاسم كراسي السلطة، ويتداعون للالتقاء والتشاور، وكان المنصب الكبير سوف يخرج من حصتهم ودائرتهم، وهم يحذرون ويتوعدون، بقية رئاسات البلد من أنهم سوف يتصدون لكل محاولة تريد ان تخرج البلد من أزماته، ويرفضون تأجيل معارك الصراع المتحدمة لأن مخاوفهم من فقدان الغنيمة سوف تذهب الى واحد آخر، بالرغم من أنه من جماعتهم وملتهم وربعهم، لكن حقدهم وبغضهم فيما بينهم، يستدعي منهم إعلان الحرب على المرشح الجديد، ولا يسمحون له أن يكمل فترة ترشيحه، فإن نجح يباركون له المهمة، واذا فشل فلهم حق ترشيح البديل ومعركة البدائل بينهم على أشدها، ولن تنتهي في زمن قصير، لأن معركة البقاء تستعر نيرانها فيما بينهم، وهم يؤمنون بنظرية البقاء للأقوى وكان العراقيين يعيشون في غابة وليس داخل نظام سياسي يدعي الديمقراطية والتعايش والانتقال السلمي للسلطة.

حتى العشائر العراقية في محافظات الجنوب أدخلوها عنوة في معارك الكر والفر، التي يروح الان ضحيتها العشرات من العراقيين، بعد أن تتقاتل القبائل في زمن الكورونا، فيما بينها، بعد إن ضاعت الدولة وفقدت بقايا هيبتها، ولا أحد يضع حدا لهذا الفلتان والانفلات غير المسبوق في تاريخ العراق منذ قرون.

الكارثة الاكبر ليس وباء كورونا، على رغم فتكه، وما خلفه من كوارث في فترة قصيرة، لا تتعدى الإسبوعين ربما، ولكن الأخطر هو وباء السلطة أو وباء الكراسي أو وباء المغانم، حيث لايريد من يمسكون بالسلطة أن تخرج من بين أيديهم، وهم من يفرضون هيمنتهم وسطوتهم على عباد الله، ولا يؤمنون بحق الآخر، أيا كان هذا الآخر، للعيش والتعايش والشراكة معهم، وهذا هو المرض العضال الذي قضى على آخر أمل للعراقيين من أن يخرجوا من شرنقة القتل والدمار والفوضى والفلتان، والأوبئة تفتك بهم، وملايين العراقيين في حيرة من امرهم، كيف يواجهون الوباء، حيث لا دولة ولا مؤسسات، ويدخل الكل في صراع طويل عريض، وقد هيأ له الساسة الخنادق والبنادق والمال الوفير، لكي يقتسموا الكعكة هذه المرة فيما بين زعماء الطائفة الواحدة، حتى وان ضاع دم العراقيين بين القبائل، وهم لايريدون أن يشاركهم الآخرون من طوائف شعب العراق ومكوناته وملله، أو أن يكون لهم دور أو مكانة في حكم بلدهم، بل ليس لهم ربما حتى حق العيش على أرض العراق.