العربي بن مهيدي والابتسامة القاتلة

قبل تنفيذ حكم الإعدام نزلت أنا وضابطي أمام قدميه وقدمنا له التحية الشرفية.
لن توجد امرأة في العالم كله ستنجب رجلا مثل بن مهيدي
الأشياء العظيمة لا تأتي أبدا من مناطق الراحة

ينام الكثير من البشر كل ليلة بانتشاء على أفيون سمفونية المجد الممتعة، إلا أن قليلا منهم فقط من تنقر غربان المجد كبدهم نهارا جهارا وهم تحت سياط الأعداء يسمونهم سوء العذاب كالثوار، ولأن الأشياء العظيمة لا تأتي أبدا من مناطق الراحة كما يقال، فجاءت عظمة أيقونة شهداء الجزائر "العربي بن مهيدي" من محراب التعذيب أين تقابل العذاب الوبيل مع روحه التي استوطنها التحدي، يلملم أشلاءه الآدمية ومعها أشلاء وطنه المغتصب مفترشا الرفض ملتحفا الإباء، آنفا أن تدنس أرض كبرياءه وأرض كبرياء المجاهد الجزائري، وكأن شموخ الجزائريين قاطبة اجتمع في هذا الشباب الصنديد الذي انبرى لمواجهة الحقد المضطرم للجلاد الفرنسي الهمجي بالصمت وصلابة الحديد وشموخ الجبال الراسيات، ناهيك عن تلك الابتسامة التي كانت تفتت صخر أولئك الطواغيت قائلا لهم: "إنكم ستهزمون لأنكم تريدون وقف عجلة التاريخ وإننا سننتصر لأننا نمثل المستقبل الزاهر". ليصنع بذلك أسطورته الخالدة. 
يقول الرافعي "إن من الناس من يختارهم الله فيكونون قمح هذه الإنسانية ينبتون ويحصدون ويطحنون ويعجنون ويخبزون ليكونوا غذاء للإنسانية"، فلا ريب إذن أن العناية الإلهية قد اختارت العربي بن مهيدي ليكون قمح أهل الجزائر، فكان بصموده وشموخه غذاء كافيا لهم على مر السنين، ولئن كان الاستدمار الفرنسي آنذاك يدير طواحينه الحمراء على جماجم البشر الجزائريين ويحول عمار دنياهم إلى خراب القبور تحت دياجير ليل الاستعباد، كان بن مهيدي ورفقاءه أعتى من الرياح ينحتون بصمودهم وعزتهم تاريخا مشرفا لأبناء وطنهم.

alger
الشاب المفخرة 

وكان الباسل بن مهيدي.. العاشق للموسيقى الأندلسية وللمسرح وفن التمثيل قائدا للمنطقة العسكرية الخامسة حينها ولعب دورا محوريا في انطلاق الثورة المسلحة المجيدة ضد أكبر قوة استدمارية على وجه الارض، نموذجا للشباب الجزائري الطموح للفتك بعقارب الاستعباد الفرنسي واسترداد مفاتيح الحرية المنعشة، وبين ردهات العمل السياسي ووهاد الكفاح المسلح كان قائدا ملهما يسعى لاستنهاض الههم والعزائم، وكانت جملته الخالدة: "ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب". وكانت نظريته صائبة فقد احتضن الشعب الجزائري الثورة المظفرة وحماها بالنفس والنفيس وامتزج تراب الأرياف والقرى والمدن ورمال الصحاري بدماء الشهداء الطاهرة.  
لو أن لي ثلاثة من أمثال العربي بن مهيدي... لغزوت العالم
لا أحد يماري أن الثائر بن مهيدي مخطط حرب المدن كان رمزا للبطولة الحقة، وعلى الرغم من أن فرنسا المفلسة من القيم والأخلاق حولت أيامه في زنزانته التاريخية إلى سعير يتلظى، كان صعب المراس قوي الشكيمة ثابت الجأش يأكل خبز كبريائه في صمت قاهر، ولم تأت رياح التنكيل بما يشتهي العدو الخسيس وخسر الرهان أيما خسارة، التي اعترف بها كبير سفاحي جنرالات فرنسا بول أوساريس عندما قدم شهادته المقيتة قبل سنوات العام 2001 إذ قال: "أسابيع من التعذيب نزعنا أظافره ..جلده ..أجزاء من جسده ولا كلمة خرجت من فمه، بل واصل تحدينا بشتمنا والبصق على وجوهنا قبل تنفيذ حكم الإعدام، مضيفا: نزلت أنا وضابطي أمام قدميه وقدمنا له التحية الشرفية ... لن توجد امرأة في العالم كله ستنجب رجلا مثل بن مهيدي". 
كان الصمت قاطرة عزة نفس البطل بن مهيدي، فكلما استمرت فنون التعذيب في حق إنسانيته وجزائريته، كان هو يعذب به خصومه الآثمين الأنذال كل لحظات محنته المشرفة في ذلك المعتقل الأسود الذي بات معبده للتحدي والمنعة والأنفة، وكاد يقتلهم به فكانوا كمن ينتحب في ذهول يثير الشفقة، بل أن الأمر كان أكثر إثارة وفخرا لكل الجزائريين، كيف لا والمجرم بيجار وبعد ان رست سفن خيبته رفع يده مقدما للمقاوم الشامخ التحية العسكرية التي يستحقها على غرار أبطال البشرية وأطلق مقولته الشهيرة : "لو أن لي ثلاثة من أمثال العربي بن مهيدي لغزوت العالم". وهكذا أجبر صمود بن مهيدي جلاديه على الانحناء له والاعتراف بشجاعته الفذة ووطنيته الباذخة، وتلك شهادة العدو التي أزاحت اللثام عن وحشية فرنسا التي كانت تلهب القلب والضمير بسياطها الجارحة وكشفت في ذات الوقت الحجاب عن عظماء الجزائر. 

الجزائر
الصمت كان قاطرة عزة نفس البطل

وترجل الفارس 
"إذا ما استشهدنا دافعوا على أرواحنا نحن خلقنا من أجل أن نموت لكي تستخلفنا أجيال لاستكمال المسيرة". قالها بن مهيدي يوما فاستشهد ذات مارس/آذار من عام 1957 بالقتل شنقا. ارتقت روحه الزكية إلى بارئها إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر، ترجل الفارس ابن جبال الأوراس الأشم بعد انتصاره وتحطيمه غرور أعداء الحياة، وها نحن نعيش الذكرى الرابعة والستين لاستشهاده في هذه الأيام المباركة، وكل الجزائريين دون أدنى شك يحفظون عن ظهر قلب الدرس البطولي الذي لقنه بن مهيدي لشياطين فرنسا الآثمة وقدمه باعتزاز لكل سكان المعمورة. 
رحل الشاب الوسيم المفخرة بعد أن أطعم ومازال يطعم أهل وطنه وأحرار العالم جميعا شهد وفائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.