العنوان بين دلالة الفعل وأسماء الشخصيات في 'ينال'

رواية أمجد توفيق تحمل العديد من الدلالات ولا تخلو من إشارات الى وضع العراق السياسي وطبيعة تغييرات حدثت فيه، إضافة الى سبر غور شخصية أساسية تشعر بالخذلان رغم النجاحات، الا أنها تبقى تشعر بخواء روحي ما يؤدي بالنتيجة الى الانتحار.

يعّد العنوان حسب جيرار جينيت من أهم العناصر التي يستند اليها النص الموازي(Paratext) وهو بمثابة عتبة تحيط بالنص، نستطيع عبرها أن نقتحم أغوار النص، وفضاءه الرمزي الدلالي. كون العنوان يشكل بوابة العملية الاتصالية بين الكتاب والقاريء، لذلك فهو رسالة تسعى لتحقيق عدد من الوظائف التي يحتاجها الكاتب للوصول الى المتلقي، ومنها وظيفة التعيين التي تتكفل بوظيفة تسمية العمل وتثبيته، والوظيفة الوصفية التي تعني أن العنوان يتحدث عن النص وصفا وشرحا وتفسيرا وتأويلا وتوضيحا، والوظيفة الإغرائية التي تكمن في جذب المتلقي، وكسب فضول القارئ لشراء الكتاب، أو قراءة النص، وظيفة التلميح، والإيحاء، والأدلجة، والتناص،والتكنية، والمدلولية، والتعليق، والتشاكل، والشرح، والأختزال، والتكثيف، وخلق المفارقة والانزياح عن طريق إرباك المتلقي، إضافة الى الوظيفة الإشهارية. (حمداوي، 2015). من هذا فأن الكاتب يعتني بالعنوان بشكل كبير، ويدعه حتى النهاية، بعد أن يبدء بعنوان اولي مقترح يتم التعديل عليه او تغييره بعد الانتهاء من فعل الكتابة، وبالشكل الذي يراه مناسبا للدلالة على النص بشكل واف.

ويشير بسام قطوس الى أن العنوان سمة العمل الفني او الادبي الأول، من حيث هو يضم النص الواسع في حالة اختزال وكمون كبيرين، ويختزن في بنيته او دلالته او كليهما في آن. (قطوس، 2001).

من هنا فأن ما نقف عنده قبل الولوج الى رواية أمجد توفيق الأخيرة "ينال"، الصادرة عن اتحاد ادباء وكتاب العراق 2022،هو العنوان الذي يبدوا غريبا للوهلة الأولى، غير قابل لفك مغاليقه، اذ لا نجد فيه الا الفعل المضارع الذي يشير الى الحصول على شيء والمشتق من الجذر "نول" اذا ما جاء فعل مضارع مبني للمعلوم منسوب للضمير (هو) مرفوع، ومصرف من الفعل المزيد "اِنَّالَ" على وزن انْفَعَلَ يَنْفَعِلُ وتحليلها "ي + نال". اما اذا جاء مبنيا للمجهول فأنه مشتق من الجذر "نيل". ويشير معجم اللغة العربية المعاصر الى أن ينال مصدر ميميّ من نالَ/ نالَ على/ نالَ لـ: نَيْل، ما يُطلب تحقيقُه : -موضوع صعب المَنال، - أمرٌ/ مكسبٌ سَهْل المَنال: وسهل المنال: يمكن الوصول إليه ودخوله بسهولة ويُسْر، - بَعيدُ المنال: صَعْبٌ تحقيقُه أو الوصول إليه. كما أن من يحصل، ويدرك، ويبلغ.

من هنا فأن عنوان الرواية دال على فعل، ولكن ما أن نلج النص حتى يفتح لنا الكاتب في مدخل الرواية مغاليق العنوان ليبلغنا أن "ينال قفز من فعل مضارع الى اسم لشخص".ص9، وبهذا فإننا أمام رواية تحمل اسم الشخصية الرئيسة، كما أن العنوان يحمل دلالة أن النص الروائي متعلق بشكل أساس بشخصية ما تدعى ينال. وهو بهذا يؤكد أن أختيار الاسم جاء بشكل مدروس، ليحمل مدلوله دلالات متعددة تترادف علينا اثناء الاستمرار بالقراءة. 

ورغم أن الكاتب يورد على لسان الشخصية الرئيسة في الرواية أن ينال مقتبس عن اللغة الأرمنية بمعنى الفارس، الا أن قاموس الأسماء يذكر أن الاسم ينال من أصل تركي بمعنى المعاون، والمساعد. وهو مشتق من الاسم المغولي (إينال)..

ينال، هو ذا اسمي، ولا اعرف تحديدا لِمَ سميت بهذا الاسم الفعل، ولكن ما اذكره نقلا عن المرحومة والدتي أن أبي أطلق علي الاسم تقديرا لعلاقته مع صديق ارمني كان  يحمل الاسم ذاته، وأذكر أن والدتي نقلت عن المرحوم أبي أن الاسم يعني في اللغة الأرمنية الفارس، وما دمنا عربا ونتكلم العربية فإن صفة الفعل لا يمكن انكارها في اسمي المبجل.ص28

اذا يحاول الراوي هنا أن نبقى في اطار اللغة العربية وان نتعامل مع اسم الشخصية بدلالة الفعل، بغض النظر عن الدلالة التي أرادها ابوه حين منحه اسم صديقه الأرمني. وهو ما يشعر به ويدركه جيدا " حتى اسمي اجده غريبا، مضحكا، إنه لا يحمل من الاسم الا صفته، فهو فعل مضارع وليس اسما (ص28)". ويلعب الكاتب على وتر الاسم / العنوان في اكثر من مكان من الرواية، ابتداء من اسم ابنته تنال، او اسم الفتاة التي يتعرف عليها في الجامعة منال، وابنها التي تسميه لاحقا ينال أيضا . 

اذا من يكون ينال هذا؟! ولماذا هذه التسمية؟

يعرفنا الراوي بشخصية ينال بأنه "ينحدر من أصل عراقي، وهاجر في زمن ملتبس خارجه،ليستقر فيما بعد في اسبانيا"..ص11، وهنا نجد دلالات جديدة تتعلق بالشخصية، الاولى أنه ينحدر من اصل عراقي، بمعنى هو الآن ينتسب الى الدولة التي يعيش فيها ويحمل جنسيتها، وهنا لم اجد تحديدا واضحا هل هو فرنسي، ام اسباني من اصل عراقي، فينال يتنقل بين الدولتين، واذا كان يمتلك قصر ريفي فخم في اسبانيا، فمعاملاته وشقته، ومحاميه، وشركاته في باريس كما تظهر احداث الرواية.

وتعاملاته التجارية، ولاسيما ما يخص تجارة السلاح وارتباطه بجهات مشبوهة في دول عدة، ترتبط بثقافة البلاد التي يسكنها، وتعاملاتها، وثقافتها، سواء في تغلغل مافيا السلاح في أوساط الطبقة العليا من المجتمع، او العلاقات الجنسية المتشعبة التي ترسم الشخصية بسمات الشخصيات التي نشاهدها في الأفلام السينمائية، وترتبط بالمغامرة والجنس والتعاملات المالية المشبوهة وهي كلها تتصل بشخصية ينال. فهل كان ذلك دلالة على الحصول او (نيل) الشهرة والمال والنفوذ، كما تحمل دلالة الفعل وهو ما يورد على لسان الراوي (المعلم/الروائي) حين يربط بين اسم ينال واسم ابنته "لم تتركوا للآخرين أي شيء، فبين ينال وتنال لا فرصة لأحد بنيل شيء..ص12

وهنا يبرز اسم ابنته (تنال) المشتق من الجذر اللغوي نفسه بعد تحول الفعل من الذكر الى الانثى، حيث كان من الطبيعي أن يربط  الراوي بين الاسمين للأب وابنته بكونها" مفارقة تثير جوا ساخرا".ص11، واسم الابنة لم يكن غريبا عن مجرى الرواية، فهو يرد حتى قبل ان يهاجر العراق ويلتقي زوجته التونسية، حين يتعرف على فتاة في الجامعة اسمها "منال" حاولت التعرف عليه "لان اسميهما يشتركان بالجذر اللغوي" وهو سبب يبدو غريبا، ولكن يبدو ان غرابة اسمه و شهرته بإقامة علاقات سريعة مع الآخرين جعلت لا أحد في الكلية لا يعرفه " لذلك تواجهه منال بسؤال يمكن أن يلخص حياة هذا الشخص "هل انت تنال كل ما تريد؟"، غير أنه يبدو غير واثق من حقيقة قدرته على أنعكاس دلالة اسمه على حياته الشخصية لذلك يجيب الفتاة بخيبة "لو كان اسمك تنال بدلا من منال لاشتركنا في نيل ما نريد، والحق إن أبي لم يكن يفكر في الجذر اللغوي حين اطلق علي الاسم".ص39  وهو بذلك يفصل دلالة الاسم عن الاصل اللغوي ولاسيما أن الاحداث التي مرّ بها حتى لو منحته امتيازات لم يكن يفكر بها، الا انه افتقد على ما يبدوا الاهم وهو ذاته، انتماءه الذي انسلخ عنه مرغما نتيجة الاحداث التي مرَ بها البلد وتسلط الجماعات المسلحة والعصابات التي سلبت منه منزله وكل ما يملك، ويمكن أن نربط بين دال سلب المنزل بعد اختطافه وتزوير اوراق البيع، بمدلول انسلاخه عن الانتماء الى البلد، وربما هذا ما جعله حين واتته الفرصة لأن يعيد منزله، بعد عرض الرجل الذي اشتراه ممن سلبوه منه. فينال لم يعد غير رجل اعمال اوربي من اصل عراقي. 

اذن ما الذي حصل عليه ينال في النهاية؟!

لاشيء ! .. وهو الإحساس الذي يدفعه الى الانتحار، بعدما قٌتلت صديقته روكسانا الرومانية، وعودة صديقته سانا الفنلدنية الى بلدها. حينها فقط  كانت ذكريات العراق تلح عليه" فأتذكر قولا لا مناسبة له، ويحضرني وجه أصدقاء نسيت أسماءهم، ومواقف كانت غائبة تماما منذ سنين طويلة"ص155. حينها يبدء الشعور بقرب الاجل كما يستذكر ما قاله صديق له" من يفكر طويلا بطفولته وماضيه يعد نفسه لاستقبال الموت"ص155. هذا الاستذكار ما يجعله ينسلخ عن كل ما حصل عليه، بمعنى ينسلخه من ذاته بالتخلي عن دلالة اسمه، ومنح ما حصل عليه وناله من عمله في تجارة الأسلحة وغيرها لمن يعرفهم وكأنه محاولة تكفير عن كل ما قام به، فيترك مبلغا لمنال التي سكنت تركيا مع ابنها "ينال"، كما يترك مبلغا ضخما تحت تصرف المعلم،الراوي، ليبني مدارس ودور للايتام وغيرها.. ربما في محاولة متأخرة للإحساس بالأنتماء.

من هذا نجد أن الكاتب اختار العنوان بشكل دقيق للتعبير عن مضمون الرواية وسير احداثها، فعلى الرغم من كونها تبدء بصوت المعلم كراوي رئيس يتحدث عن ظروف تعرفه على ينال الثري الذي يعيش في احدى مناطق اسبانيا، الا أن الأحداث الحقيقية يتم تبئيرها عبر ينال نفسه الذي يسلم مذكراته الى المعلم، أي أنها مجموعة انثيالات وتداعيات يدونها ينال على الورق لتوثيق الاحداث التي مرّ بها، ورغم أن السرد الروائي يمر عبر مسارين الأولى يرويه المعلم/الروائي، والثاني يأتي على لسان ينال، الا أننا في النهاية نجد نفسنا أمام صوت واحد لا صوتين، ما يجعلنا نتساءل هل المعلم/الراوي نقل لنا الأحداث كما دونها ينال، ام انه عمل على تحويلها الى رواية كما طلب منه؟!.. وربما كان هذا أيضا شعور الكاتب الذي عمد الى هندسة النص بالشكل الذي يفصل بي الراويين، فما يسرد على لسان ينال جاء بخط غامق (bold) في محاولة للتمييز بين سرد متواصل على لسان راويين مختلفين.

ورغم التفاصيل العديدة التي تحملها الرواية الا أنني اشعر باهمال شخصيتين كانت على اتصال مباشر بحياة ينال، الأولى شخصية "منال" الفتاة التي تترك العراق مع أهلها هاربة الى تركيا، وكان افق التوقع يشير الى أن يكون هناك تواصل مستمر بينها وبين ينال، ولاسيما أنها تطلق اسمه على ابنها، الا أن الكاتب اخفاها الا في إشارة قرب النهاية تبين أنه ترك لها مبلغا من المال يكفيها وابنها. اما الشخصية الثانية فهي شخصية ليلى التونسية زوجة ينال التي تظهر في بداية تعرفه عليها وتختفي بعد زواجهما لتظهر في النهاية بعد وفاته، دون أن يكون له او لها رأي في سلسلة مغامراته مع النساء الاخريات.. مع أن ظروف تعرف الراوي/المعلم عليهما يدل على أن علاقتهما الزوجية جيدة وتسير على ما يرام.   

لقد قدم أمجد توفيق رواية تحمل العديد من الدلالات، لا تخلوا من إشارات تدل على الوضع السياسي الذي يشهده العراق، وطبيعة التغييرات التي حدثت فيه، إضافة الى سبر غور الشخصية الأساسية التي تشعر بالخذلان رغم النجاحات المادية التي حصلت عليها، الا أنها تبقى تشعر بخواء روحي ما يؤدي بالنتيجة الى الانتحار.