مهمشون يرسمون متضادات الواقع الاجتماعي في 'نادي الحفاة'

الكاتب ضاري الغضبان يضعنا في مجموعته الفائزة بجائزة الطيب صالح العالمية امام المشكلات ولم يقف عندها بل ذهب الى طرح حلول قد نجدها مغالية في مثالياتها طوباويةولكنها بطبيعة الحال تشكل جزء من الحلم فالافكار الكبيرة تبدء رؤى متناثرة تسطر على الورق.

عند التوجه لقراءة نص ما ترافقنا النصوص المحيطة، التي تشكل العتبة لقراءة النص وكما يقول جيرار جينيت فأن النص الموازي "هو ما يجعل من النص كتابا يقترح نفسه على قرائه أو بصفة عامة على الجمهور، فهو أكثر من جدار ذو حدود متماسكة، نقصد به هنا تلك العتبة، بتعبير بورخيس البهو الذي يسمح لكل منا دخوله أو الرجوع منه".

وتعد المقدمة من العتبات الحافة بالنص، التي ترافقه دون أن تكون جزءاً منه، وقراءة المقدمة تحيطنا بما يتضمنه النص من معلومات، واحيانا تشير الى ظروف إنتاج النص، وطبيعة تميزه عن النصوص الأخرى، وبهذا فأنها تشكل عتبة الولوج الى النص، ويمكنها حتى أن توجه عملية القراءة حتى النهاية.

من هذا فأن مقدمة مجموعة ضاري الغضبان "نادي الحفاة" تجعلنا امام مجموعة من الإشارات التي لا يمكننا تجاهلها ونحن نلج قصص المجموعة واحدة بعد الأخرى. ومن أولى الإشارات هذه أن المجموعة فائزة بجائزة الطيب صالح العالمية-فرع القصة القصيرة، وهذا الفوز كما جاء على لسان الناشر الذي قدم للمجموعة جاء كونها تتناول " حسب المصطلح السائد الآن –هم من يعنون التهميش- وهي مجموعة يمكن تسميتها بصدق أنها تمثل محاولة لتقديم رؤيا للمدينة الفاضلة  التي طالما تحدث عنها الفلاسفة والمفكرون" ص3

المتقابلات المتضادة

أن الاتجاه السائد في "نادي الحفاة" يتناول أولئك الشخصيات التي تعيش على الهامش والتي تشكل متقابلات متضادة مع أولئك الذين يمكن بالمقابل وصفهم انهم يعيشون المتن. أي نحن امام ثنائية  الفقر- الغنى، او القوي – الضعيف، العقل – الجهل، وهي ثنائيات تشكل محور التضاد في بنية النص العميقة حسب توجهات غريماس في السيميائيات السردية.

ويمكننا انطلاقا من هذا الاتجاه ان نؤشر تلك الثنائية في متون قصص المجموعة كالآتي:

الخروج عن التقاليد مقابل الالتزام بما هو سائد

وتبرز هذه الثناية في قصة "مصنع السعادة" لتشير الى طبيعة التعامل مع الأشخاص الذين لا يتناغمون من النظام الاجتماعي السائد، ولكنهم بدل عن الانكفاء او حتى الثورة يعمدون الى التصحيح برؤية تمكنهم من " معالجة المواقف المعقدة بدراية"..

الأبواب المغلقة والابواب المفتوحة

وهي ما يمكن تلمسها في قصة "لص الأبواب المواربة" والمتقابلات المتضادة هنا لا نجدها عند بطل القصة اللص الذي سرق دراجة من امام دار البلدية ليستعين بها في غزواته الليلة. وانما في الحيين الذين يحاول سرقت منازلها، حي الأثرياء الذي يطوق منازله الحراس وكلاب الحراسة والكاميرات بالشكل الذي يجعله عصيا على الاختراق، مقابل الحي الشعبي الذي يمتاز بالهدوء ليلا رغم صخب النهار، حي أبواب منازله مواربة غير موصودة يمكنك اقتحامها بسهولة ولكنك لن تجد فيها غير الفقر و المعوزين والحالمين بقدوم شخص يعرفون انه لا يأتي.

الحكمة والجنون

تطالعنا قصة "بيادر الديم" بمتضادات جديدة تتعلق بالحكمة والجنون، وكما في قصصه الأخرى فان السارد يعمد الى انتقاد النظام الاجتماعي بشكل غير مباشر، مؤشرا أن الأحكام التي نطلقها على الآخرين ليست الا تصوراتنا نحن وليس دائما تكون مقرونة بالحقيقة وهذا ما كان مع رؤية الناس لشخصية حاسب الذي "غلّفوه بتهمة الجنون" فقط لأنه يعيش خارج النظام الاجتماعي الذي تألفه القبيلة "وحيدا بسكن بدائي منعزل"... و تبرز ثنائية الحكمة والجنون ليس كمتقابلة ضدية كما هو الظاهر منها، ولكن كثنائية يمكن أن تتماهى مع بعضها، كون الجنون ليس الا صفة نمنحها لمن لا يتوافق مع النظام الاجتماعي الذي يقيدنا، حتى لو كان ذلك النظام يسير بنا الى خارج الحضارة، وربما الى الفناء الذي يهدد القبيلة، قبل أن ينتبه الشيخ بحكمته الى أن كسر ذلك النظام هو الوسيلة للاستمرار بالبقاء، والحفاظ على القبيلة. ثنائية الحكمة/ الجنون، تقودنا الى ثنائية أخرى تتعلق بالعلم/ الجهل. العلم الذي يدعونا للخروج على التقاليد العصية التي تقيد التفكير خارج اطارها، والجهل الذي يجرنا للبقاء اسرى هذه التقاليد وبالتالي يمكن ان يحكم علينا بالفناء.

 الغنى - الفقر

اما في قصة "ناخي الحافي" تبرز لما المتقابلات الضدية ضمن المفهوم الاجتماعي أيضا حيث الارملة الثرية- وناخي الحافي العتال، مجهول النسب، الفقير الأمي. وهنا التضاد لا يؤدي الى التنافر والاتجاهات المتعاكسة بل العكس حيث الإلتقاء والتماهي، ناخي الفقير يمكنه أن يمنح اللأرملة الثرية ما عجز ازواجها السابقون منحه وهو الأطفال، فيما ناخي يحصل على الثروة.. وهنا فأن كسر المحور العمودي للعلاقات الطبقية المتفاوته هو ما يمكن ان يمنح الجميع رغباتهم، وليس الاستمرار بالتضاد الطبقي الذي يضع كل مجموعة في مستوى معين لا ترغب أن يكون له ارتباط بالمستوى الأدنى.

 المظهر - الحقيقة

ومع استمرار ترادف المتقابلات في قصص المجموعة فأن قصة "استنتاجات" تكاد تكون مشابهة في الثيمة الأساسية مع قصة "مصنع السعادة" مع اختلاف الشخصيات، وتبرز في "استنتاجات" ثنائية الظاهر من الفعل- وحقيقة الفعل، ففي الوقت الذي نبني استنتاجاتنا على ضوء ما نشاهد من ظاهر الأمور، تكمن الحقيقة في العمق، في المخفي الذي نضع له استنتاجات ترتبط بصور ذهنية نرسمها على ضوء ما نسمع من الآخرين الذين يحكمون بناء على قواعد اجتماعية تقيد رؤاهم.

الظاهر - الباطن

ولا تخرج المتقابلات في قصة "غياب بحضور ذهبي" عما تقدم فهي ترصد الواقع الاجتماعي عبر الظاهر-الباطن، وتغييب الحقيقة الذي يجعل الناس تتعامل مع الأمور كما مقدر أن تبرز لهم من القوى المسيطرة، التي هي في الحقيقة ليست الظاهر للناس (الشيخ وزوجته) بل القوى الخفية التي تمثلها "ام غائب" او "ذهب" الغجرية.

 الفكر - الثروة

اما القصة التي تحمل المجموعة عنوانها "نادي الحفاة" فتظهر تلك المتضادات الاجتماعية بشكل آخر، فهي من ناحية تجمع بين المتدينين، وشاربي الكحول ذوي الميول الاشتراكية، حليقي الوجوه والملتحين، الذين يجمعهم المكان على اختلاف ميولهم الفكرية، فهنا المتقابلات التضدية التي تشكلها أفكار الطرفين، لا تمنع من اجتماعهم في مكان واحد دون أن يتعدى احدهم على خصوصية الآخر.. ولكن التضاد الحقيقي يأتي من أصحاب الثروة، حيث يقف "ابن صوفان" الغني الذي لا يعرف مصدر ثروته، في مواجهة الطرفين للاستحواذ على المكان المنعزل الذي يجمعهما لبناء مشروع استثماري.. المتقابلات هنا يمكن أن نحددها بثنائية الفكر- المال، بغض النظر عن الاتجاه الفكري كيف يكون، فالمواجهة الحقيقية تكون مع الراسمالية وليست الأفكار المقابلة.

العلم – الدين

حيث تبرز هذه الثنائية في سير احداث القصة التي تتحدث عن شحة المياه او نتانتها حيث تسقط السماء "ماءً بلون وطعم ورائحة"، ومع مطالبة الكاهن لهم بان يتعاملوا مع الامر الواقع، لم يجدوا سبيلا سوى اللجوء الى العالم الذي سبق وان اختفى عنهم لجدوه محبوسا في قفص يعلق على مباراة بين " السلاحف والارانب"!!..

اطلاق سراح العالم الذي يقود الجموع لمواجهة الكاهن كان السبيل الوحيد لعودة المياه الى طبيعتها وتمطر السماء" مطرا طبيعيا بماء لا لون ولا طعم ولا رائحة، ماء صالح للشرب"، مع سيادة العلم وهروب الكاهن الذي تجرفه السيول الى "مع مياه الصرف الصحي".

التضاد الاجتماعي

وهكذا تسير الأمور في القصص الأخرى التي ترصد ذلك التضاد الموجود في طبيعة النظام الاجتماعي سواء أكان هذا في المدينة، او الريف، لدى الأشخاص المتعلمين والذين يؤمنون بمباديء وقيم اجتماعية تحدد رؤاهم الى الآخرين وافعالهم ورؤاهم، او لدى الأشخاص المهمشين من الفقراء والطبقات الدنيا الذين يجدون في الخروج عن قيود النظام الاجتماعي وسيلة للتغيير واستمرار الحياة، دون الخروج عن القيم والمثل العليا، فالواقع يشير الى أن الأفعال التي تنتظم بشكل يخالف رؤى الاخرين ليست بالضرورة هي خارجة عن قواعد القيم والمثل العليا، بل ربما هي التي تمثل تلك القيم حقيقة وعبر الفعل، وليست مجرد تمسك اعمى وترديد لمقولات في الظاهر بينما الحقيقة المخبأة خلاف ذلك.

أن ما يمكن أن نتلمسه عن مجموعة "المهمشين" كما اصطلح عليهم لجنة جائزة الطيب صالح والتي كتبت مقدمة المجموعة، ليسوا أولئك الذين يمكن أن نجدهم في حياتنا اليومية وهم عاجزون عن فعل شيء، ينتظرون أن يمن عليهم الآخرون بما يساعدهم مثل "المتسولين"، ولكنهم اشخاص قادرون على الفعل والتغيير، كما في قصة "عصابة الخضر" الذين يحفزون الناس للحفاظ على الطبيعة، او قصة  فأن لم يكن تغيير منظومة المجتمع، فتغيير أنفسهم، والمهمشين الاخرين ممن يلجأ اليهم ويؤمن بالرؤى التي يبلورونها من اجل بناء مجتمع مثالي، يوتوبيا، لا تعم المجتمع ولكن تخلق كيانات متفردة وسط المجتمع تمثل النموذج الذي يمكن ان يحتذي به الاخرون.

لقد وضعنا الكاتب ضاري الغضبان امام المشكلات ولم يقف عندها، بل ذهب الى طرح حلول قد نجدها مغالية في مثالياتها، طوباوية، غير قابلة للتحقيق، ولكنها بطبيعة الحال تشكل جزء من الحلم، فالافكار الكبيرة تبدء رؤى متناثرة تسطر على الورق ربما يأتي يوم وتصبح واقعا.