المقدادي يحاور 'جدل الاتصال' عبر تطور الأفكار الإنسانية من الأسطورة الى العلم

كتاب كاظم المقدادي يثير الكثير من الأفكار والتساؤلات بشأن تطور العملية الاتصالية ويقوم باستقراء الزمن الحقيقي في مساره الاتصالي كما انه لا يضع الاتصال في إطار محدد او يحصره بنطاق معين.
المقدادي لا يتحدث كثيرا عن تطور الوسائل بقدر ما يهتم بإنتاج الأفكار
المقدادي يدرس الاتصال انطلاقا من اسطورة نارسيس

يثير كتاب "جدل الاتصال" للدكتور كاظم المقدادي الكثير من الأفكار والتساؤلات بشأن تطور العملية الاتصالية وتعددها والرؤى التي تنطلق منها، اذ أن المقدادي يقدم لنا موسوعة موجزة عن تطور الاتصال ليس فقط عبر تطور وسائله منذ اختراع الكتابة حتى سيادة النمط الرقمي، بل يعمل على بيان تطور الافكار والفلسفات والاتجاهات عبر التاريخ ليس بصيغة المؤرخ، ولكن برؤية أستاذ الاعلام الذي يبحث بمنظور فكري فلسفي "استقراء الزمن الحقيقي" في مساره الاتصالي ابتداء من الاتصال مع الذات وصولا الى الاتصال متعدد الاتجاهات او ما اسميه "الاتصال المركب" الذي يسير بأكثر من اتجاه بوقت واحد وهو ما اسماه نيغروبونتي الاتصال الذاتي-الجمعي.
لم يضع المقدادي الاتصال في إطار محدد او يحصره بنطاق معين بل توسع في مساراته ورؤاه عبر تتبع تطور الفكر الاتصالي من الاساطير القديمة الى الموروث الديني عبر السرديات التاريخية، وصولا الى الفكر الفلسفي والعلمي الحديث حيث انتجت ثورة الاتصالات والمعلوماتية قيما جديدة على مستوى الاتصال والأفكار ربما تتجاوز ما وضعه ماكلوهان بأن الوسيلة هي الرسالة، فاذا كان ماكلوهان يرى أن المضمون غير مهم بل المهم هو الوسيلة التي تنقل المضمون، فأن المقدادي يذهب الى أن الأفكار النتاج الاسمى للجنس البشري، وان الوسيلة الاتصالية ليست الا وعاء يعمل على نقل مضامين الرسائل التي يضعها المفكرون الى المجتمع، وبالتالي فأن المهم لدى دراستنا تطور الاتصال ان نتعرف على تطور الأفكار وتداولها.

نظريات الاتصال، ولارتباطها في علم الفيزياء، ستظل بمثابة جزئيات تتفرع وتكمل بعضها البعض، في دائرة اتصالية فيزيائية متجددة

 ومن هنا نجد ان المقدادي في كتابه لا يتحدث كثيرا عن تطور الوسائل بقدر ما يهتم بإنتاج الأفكار. ورغم انه يقترب من جهة أخرى من مقولة ماكلوهان بشأن تحول العالم الى قرية صغيرة بفعل العملية الاتصالية الرقمية عبر الانترنت ووسائل الاتصال الحديثة التي مكنت من اتاحة مجالا عاما افتراضيا يتقارب مع ما وضعه هابرماس بهذا الشأن.
واجد هنا ان الكاتب قد اقترب من اتجاه مدرسة فرانكوفرت النقدية برؤيتها ان الثقافة صناعة تنتجها وسائل الاعلام الجماهيري، وكما يذكر هاو فأن  هوركماير و أدرنو تناولا الإعلام من ناحية انه صناعة ثقافية ترتكز على التقنية وتطورها، ومع الإقرار بمسألة توخي الربح كصناعة، الا انه من جهة "مالا يفصح عنه" فأن "الأرضية التي تكسب التقنية سلطتها على المجتمع بواسطتها هي السلطة القائمة بالمسيطرين اقتصادياً".
وبهذا فأن دراسة الاتصال بالشكل الذي عمل عليه المقدادي في كتابه "جدل الاتصال" لا يبتعد عن رؤية الاتصال من جانب كونه جزء فعال في نشوء وانتشار الأفكار، وبالتالي تناقلها عبر الزمن، ما أتاح انتاج وإعادة انتاج الأفكار بشكل مستمر، فيما مكنت التكنولوجيا الحديثة مع قدرتها على الحفظ والاسترداد الباحثين والدارسين من الوصول الى عالم اكثر قربا مع الاخرين، مع ظهور الأفكار " على شكل سطور مقروءة على لوح الهواتف الذكية". 

تحول العالم الى قرية صغيرة
تحول العالم الى قرية صغيرة عبر الاتصال

فاللغة في مواقع التواصل الاجتماعي فرضت سيطرتها وعملت على إزاحة لغة الخطاب الإعلامي فإن "إعادة تشكيل الخريطة الإعلامية أصبحت امرا واقعا، وإن مراجعة نظريات وسلوك واخلاقيات العمل الإعلامي أصبحت ضرورة ملحة".
واذا كان ماكلوهان قد وضع نظريته في الحتمية التكولوجية استنادا الى دراسته لتطور وسائل الاتصال عبر اربع مراحل زمنية تبدأ بالمرحلة الشفاهية وتنتهي بمرحلة الالكترونية مرورا بمرحلتي الكتابة والطباعة.
فإن المقدادي يدرس الاتصال انطلاقا من اسطورة نارسيس الذي يجعلها أساسا لللاتصال الذاتي، مرورا بتكون الاساطير والأفكار الدينية في المجتمعات المختلفة وصولا الى الأفكار الفلسفية عبر مختلف المجتمعات العربية والغربية، دون اغفال تأثير النظريات السايكلوجية والسوسيولوجية على تطور الفكر الاتصالي.
 حيث يرى "ان التفكير كشكل من اشكال الاتصال الداخلي، يعد مستوى متقدم من مستويات لغة الخطاب)، وبهذا فانه ينتقد الدراسات الإعلامية السابقة التي "ظلت وعلى مراحل أسيرة لأفكار مستهلكة، فانشغلت في بعض منها  بالاشكاليات القديمة، في اصل الاتصال وجذوره، وانواعه، وموقع اللغة منه، ولم تقم برصد جاد للمتغيرات التي تحرك الزمن الاتصالي، ولم تنتبه الى طبيعة حركة الاتصال المجتمعي بمجاله العام وبتفرعاته وآلياته، المرتبطة بالقيم الإنسانية"(ص27). 
ويمكن ان نجد أن المقدادي يرى ان ما قدمه علماء الاتصال لم يكن سوى"جزئيات صغيرة من علم واسع وكبير ومتحرك، الا وهو علم الاتصال". بمعنى ان هذا العلم لا يمكن تلمسه عبر مسار واحد محدد لتعدد اتجاهاته ومساراته لذلك فان " نظريات الاتصال، ولارتباطها في علم الفيزياء، ستظل بمثابة جزئيات تتفرع وتكمل بعضها البعض، في دائرة اتصالية فيزيائية متجددة" (ص183).