"الغريب الذي نسي ظله" الوجه الناصع للمأساة

العتبتان النفسية والفلسفية تشكلان ركيزتين أساسيتين يستند إليهما الشاعر أوس حسن في أغلب قصائده ونصوصه السردية.
الشاعر لم يعد يقتنع بالنص الشعري وحده كرؤية كاملة متكاملة للتمرد على هذا العالم
حيرة الشاعر اوس حسن تكمن في عدم تحديد أطراف الصراع

وجدان عبدالعزيز

تشكل العتبتان النفسية والفلسفية ركيزتين أساسيتين يستند إليهما الشاعر أوس حسن في أغلب قصائده ونصوصه السردية، وهما عتبتان إذا قمنا بتحليلهما تحليلا عميقا ًستظهران قلق الشاعر الواضح من العدم وخوفه المتكرر من ضياع رسالته وبصمته في عالم مرعب لا يعرف الرحمة والشفقة، لذا تنعكس القصيدة الذاتية عنده إلى إسقاطات على الآخر المجهول، وهذا الآخر الغريب الذي لا يملك اسما ً ولا تاريخا ً ولا زمانا ً نراه دائما ًأحد الأبطال الخالدين والمتكررين في نصوص أوس حسن، وهذا الأمر نستطيع تلمسه بوضوح في قصيدة "رجل ضبابي ومقهى" في مجموعته الشعرية البكر "فجر النهايات".
العالم كتلة رفض احتجاج 
ما يرسمه الشاعر أوس حسن من مشاهد تصويرية ولقطات مكثفة خارج النص الشعري، وما يبثه للقارىء من روح التوترات النفسية والصراعات في النص خير دليل على أن الشاعر لم يعد يقتنع بالنص الشعري وحده كرؤية كاملة متكاملة للتمرد على هذا العالم. 
لكنه يثبت لنا من خلال ديوانه "الغريب الذي نسي ظله"، وهو الديوان الثاني له، تميزاً معيناً في إثارة الاسئلة من خلال اختلاط الأصوات في القصيدة، فقصيدته "أسئلة من رماد"، يقول فيها:

هناك رؤية رفض تكونت، وأصبحت موقفا، التزمه الشاعر عبر رحلته الشعرية في ديوانه هذا

لماذا توهجتِ كلما اربدَّ ظلام الأزمنة
وابتسمت للغزاة القادمين مع الغروب؟
لماذا سرقت من القصيدة حكمتها
وأهديتها تاجا مرصعا بالخطايا.. لشيخ الغجر؟
لماذا تشرقين ساعة الأفول؟.. وتأفلين ساعة الشروق؟
وكأن مهنتك صناعة الغياب.. أو بيع النهايات على أرصفة الجنون.
فهناك ضوء خفيف يكشف صراع الأسئلة، الذي يترجم علاقة الغريب بـ (هي)، والصوت الثالث، الذي قام بشبه محاكمة (هي)، كونها صانعة الأفول والغياب، حيث تركت الغريب وحيدا خائفا! والظاهر هناك حلقة مفقودة في العلاقات الافتراضية، وعلى أقل تقدير في ذهن الشاعر، الذي يمثل الشخص الثالث، لذا كان يحاول العثور عليها في أتون تداخل الأزمنة، برسم لوحة جديدة من رماد الأسئلة، ومنذ نشوء الكون وظهور نظرية المعرفة، "والإنسانية لم تتقدم كثيرا في حل هذه المعضلة الوجودية الميتافيزيائية منذ بداية التاريخ، فما زال العلماء حتى اليوم على الرغم من التقدم الهائل في الفيزياء، يشعرون بالحيرة والدهشة إزاء هذا المفهوم، الذي يسحر الإنسان ويسخر منه في الوقت نفسه، ومن منا لا يشعر بهذه الحيرة القديمة، وهذا السحر الهادئ عندما يردد مقولة هيرقليطس ]لا يستطيع المرء أن يستحم في ماء النهر الواحد مرتين، لأن مياها جديدة تجري من حوله أبدا[. ففي الزمن تكمن معضلة البدء والولادة والحياة، ثم الموت والفناء".
وحيرة الشاعر اوس حسن تكمن في عدم تحديد أطراف الصراع هنا، كون هناك تأثيرات كبيرة تَعرضَ لها، منها مثلا الحرب وويلاتها، بدلالة أن الحرب تصنع حالة الغياب، كونها تحمل في خضمها الموت والفقدانات، ومن هنا لجأ الشاعر إلى تكرار أدوات الاستفهام الموحية لإثارة أسئلة متداخلة، أي أنه استعرض قدرته اللغوية. 
وفي قصيدة "السيدة التي صارت موسيقى للبحر .. رسالة من عالم الأمس"، يقول:
تصدع الإيقاع في النشيد
ولا عشبة تنبت من الجدار..
شاخت العتمة.. وشحبت المصابيح..
ولا ظل يطرق الأبواب.
تبدو في هذا النص عبثية واضحة باتت تفرض سطوتها، ودفعت بالشاعر للجوء إلى التلاعب باللغة وكثرة التكرار اللغوي أيضا، سواء في هذه القصيدة، أو غيرها من قصائد الديوان، وكأني بالشاعر يُظهر إنسانا يعاني من أزمة، ومؤكد أنه يرجع إلى مجتمع مأزوم يعاني من غياب نموذج يحمل مفاتيح الحل، لاسيما في وضعنا الحالي. لذا وضعنا الشاعر أمام صورة رحلة مستمرة وهجران إلى التحليق باللامرئي: 

شعر عراقي
أرسم القصيدة وأكتب الصورة 

"أنا القادمة من الرحيل إلى الرحيل
سأهجر عالم الصقيع.. وزرقة البحر
سأهجر ما تبقى.. من صور
وأحلق، بعيداً.. كالموسيقى
بلا عربات.. ولا أجنحة.
ثم يضع الشاعر صوتا آخر: 
آن الآوان أن تهبطي إلى الاعالي، 
آن الآوان أن تشرقي مع الغروب، 
مازلتُ واقفاً كتمثال في محراب معبدك القديم. 
ابتهل وأبكي... 
منتظراً عرباتك المذهبة..
وحراسك المطوقين بهالات النور والموسيقى.
(في بداية قصيدته "أجراس الزمن البارد") 
أظهرت هذه المقدمة ومتن القصيدة حيرة وقلق الشاعر أمام اختلاط الأمور المختلفة ولقاء (هي) والآخر، حينما (ألتقيا أول مرة / عند نوافذ الغيم)، (كانا يزرعان الأناشيد الخضر في رحم الأرض اليباب)، فقضوا (أربعة أعوام مرت../عام للضحك والمسرة / عام للعب والحب / عام للجنسوالنبيذ / وعام للوجع الأزرق المعتق)، بينما (المدينة خاوية من ضجيجها / بلا أضواء / ولاعشاق../ ولا مهرجين / بلا أشرار/ ولاكهنة)، وهذا الصراع والقلق، الذي قاده الشاعر، ظهر أنه ذو طرف واحد، فـ (وحده جالس خلف الظلال في عربة رمادية كئيبة../ يلوح لها بشال من الدموع الفضية..) ثم (تبتعد العربة وتتلاشى.. رويداً.. رويداً)، (ويسدل الستار...)، لكن يبقى (ناقوس الغابة المظلمة) الصوت الإضافي، حيث تحاصر شاعرنا اوس حسن الأصوات من كل الجهات، وبالتالي فهناك رؤية رفض تكونت، وأصبحت موقفا، التزمه الشاعر عبر رحلته الشعرية في ديوانه هذا، فـ (كلما أوغل الغياب في المدى كان الحضور يجرح أصداء المكان)، والحديث قد يكون للشاعر نفسه، (لم أكن ثالث اثنين، أو رابع ثلاثة، لكن السراب كان يعوي في دمي ويتوهج كالفانوس القديم في زقاق العتمة الكئيبة.. فكنت أرسم القصيدة وأكتب الصورة قبل أن أتلاشى فيهم واختفي إلى الأبد.). 
تقول الكاتبة عقيلة مراجي: "لقد شغل المعنى اهتمام الكثير من الباحثين والناقدين منذ القديم، فالمعنى هو ثمرة النص وفاكهة الكتابة، ومنجزها الحقيقي، والمعنى في النص هو ما يريد الكاتب أن يفهمه القارئ وما يفهمه المخاطب وليس ما يقوله، لأن القول في الرؤية الذرائعية هو القناة البسيطة الأولى لنقل المعنى وليس هو المعنى ذاته، وبين هذا وذاك مساحة قد تكون شاسعة أم ضيقة حسب نوعية التأليف، وترتبط هذه المساحة بعمليتي التفسير والتأويل".
من هنا صار من اللازم في قراءة ديوان الشاعر اوس حسن، أن نبادر إلى حالتي التفسير والتأويل، علّنا نجد ضالتنا في العثور على المعنى، كرؤية وموقف لهذا الشاعر. إذن نحتاج إلى قراءات أخرى له ذات مستويات عديدة ومتنوعة. 
يذكر أن "الغريب الذي نسي ظله" للشاعر أوس حسن، صدر عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ـ بغداد الطبعة الاولى 2018.