الغزو التركي وأوهامه الأيديولوجية

تركيا اليوم باتت الجارة الأكثر عدوانية وغطرسة في محيطها الإسلامي والأوروبي.

أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حملة الغزو العسكري ضد منطقة عفرين (كرداغ) وتالياً ضد شرق الفرات، مستعيناً بجماعات معارضة سورية، تنطوي تحت أسماء وشعارات مذهبية وعرقية في غاية التطرف، دفع بها في أتون محرقة حقيقية. صاحبها بعاصفة من التهديد والوعيد ضد كلّ من يشكك في نوايا حملته أو مقاصدها، ليس في النطاق المحلي التركي، إنما أيضاً حتى في محيطه الإقليمي والدولي.

بوحي من الأوهام والعقائد الأيديولوجية، يعتقد أردوغان اليوم أنه قام ويقوم الآن بمهمة تاريخية ودينية مقدسة، ستجعل من تركيا وصية على الشعوب والدول الإسلامية، وهي ستخرج من معمعة الربيع العربي كأقوى دولة في العالم الإسلامي تستطيع من هذا الموقع، ومن خلفها العالم الإسلامي، أن تواجه العالم الأوروبي والأميركي. والحال أن تركيا اليوم باتت الجارة الأكثر عدوانية وغطرسة في محيطها الإسلامي والأوروبي. وأثبت حلفاؤها عبر ممارساتهم الفعلية في عفرين ومحيطها ومن ثم في شرق الفرات، من نهب وسلب، أنهم حلفاء على مقاس تطلعات أردوغان السياسية وشعاراته المعلنة.

تركيا اللاهثة وراء دور يعيد لها هيمنتها وهيبتها المفقودتين تمارس الآن فجوراً سياسياً، عرقياً ومذهبياً، في كل مكان، داخلاً وخارجاً، بدواعٍ وأوهامٍ ما تزال معشعشة في رأس زعيمها. فهي ما عادت قادرة على أن تضمن أمنها القومي، كما يعتقد رئيسها، من دون هذا التدخل في كل مكان، وتأليب شعب ضد آخر، وجماعة دينية ضد أخرى، أو تمارس العقاب الجماعي، الذي يرقى إلى مستوى جريمة حرب وإبادة وفق جميع المعايير الدولية، ضد مجموعة عرقية أخرى خارج حدودها، كما حدث ويحدث في منطقة عفرين الآن. بل حتى في نطاق سيادتها تؤلّب حكومة أردوغان جزءا من شعبها ضد الجزء الآخر الذي يعارض هوسه السياسي وشغفه بالسلطة.

أردوغان يغذّي سلطته وشعوره بالقوة، داخلاً وخارجاً، بشعارات الكراهية والحقد، بالصراخ الطائفي والزعيق العرقي، بالتهديد والوعيد، يكفّر الآخرين، ويعدّ كلّ خارج أو ناقد لطموحه مارقاً، لا ينبغي التهاون معه أبداً. أعلنها في بدء كل عملية الغزو صراحة: لن نكترث لأحد، ولن نقف عند حدّ، سنبيدهم وندكّ المدينة فوق رؤوسهم، سنحررها ونعيد الأراضي لأصاحبها الأصليين، فهؤلاء غزاة ….الخ. والحق أن أردوغان كي يعزز رغباته السياسية المريضة تلك، راح يتلاعب بحقائق الجغرافية والتاريخ بطريقة عسفية تثير السخرية من مفارقات قوله.

الانتصار الرئيس، الذي حققه أردوغان وجماعاته الجهادية المساندة له في غزواته المقدسة، حتى الآن، هو الانتصار على أشلاء الأطفال والمدنيين السوريين اللاجئين إلى منطقة عفرين وشرق الفرات، من شرور الحرب الداخلية، وتهجير الأحياء الباقين ثانية. الانتصار الآخر، إذا عدّ انتصاراً، هو على الحجر البازلتي للمعابد والأوابد الأثرية المقدسة في المنطقة. الانتصار الثالث الذي حققه مع حفائه هو عمليات النهب والسلب الشاملة لأملاك المدنيين، بحيث بدت المناطق، التي أفرغت من أهلها أشبه ما تكون بحقل تعرض لاجتياح أسراب الجراد.

 رغم ذلك اعتبر أردوغان هذا العمل البربري "فتحاً مبيناً" ومهمة إلهية مقدسة، أطلق على جنود جيشه (جيش الناتو) اسم "ميمه تچيك" الاسم المحبب للنبي محمد (ص) باللغة التركية. وأرغم عشرات الآلاف من الأئمة على الدعاء لهم وإقامة الصلوات لجنوده في المساجد، وكفّر كلّ معترض أو مناوئ لعمله هذا. وبالانسياق مع هذا الهوس الديني الشعبوي راح رموز دولته إن عمليات الغزو هذه ضد المناطق ذات الأغلبية الكردية "جهاد في سبيل الله"… وأن تركيا دولة عظمى لا يمكنها أن تتقدم من دون إعلان الجهاد.

كيف نفسر هذه المفارقة السياسية الفجّة في خطاب أردوغان وساسة دولته؟ دولة عضوة في حلف الناتو تعلن الحرب على شعب مسلم، وتستعين بسلاح الناتو في قتله تحت اسم الإسلام وتعدّ ذلك جهاداً في سبيل الله؟

الحق إنها ليست المفارقة الوحيدة في العقل السياسي التركي تاريخياً. إن ازدواجية المعايير، والمفارقة بين الأهداف والوسائل، والبراغماتية الشعبوية، كانت على الدوام سمة مميزة طبعت السياسة التركية بطابعها. التباكي على القدس وفلسطين وانتعاش التجارة البينة مع إسرائيل أكثر من أي وقت، لاسيما في النطاق العسكري. ادعاء الفضيلة الأخلاقية وازدهار الدعارة وتجارة الجسد بنسبة 22% في زمن حكم الإخوان الأتراك، التباكي على السوريين والمتاجرة بمحنتهم مع الآخر، ومقايضة مطالبهم السياسية المشروعة بأهداف سياسية وعملية مباشرة….الخ. لقد بات معهوداً عن أردوغان إنه مثل التاجر اليهودي الذي يكفر بقداسة يوم السبت إذا تعارضت مع تجارته، وهو إلى ذلك لا يتردد في الكفر بكل شعاراته الدينية المعلنة إذا تعارضت مع مقاصد سياسته وهوسه بالسلطة والهيمنة.

بموازاة ذلك انخرط الساسة الأتراك، وكذلك العرب، الإخوانيون عبر مؤسسات دولتهم بحماس ديني أيديولوجي مفرط في سياسات التحريض ضد الآخر لمصلحة أهدافهم السياسة العملية، ولتحقيق ذلك استثمروا مشاعر الشارع الإسلامي وانفعالاته وأوهامه مادة للتلاعب السياسي والمقايضات الرخيصة.

لقد غدت إثارة الكراهية ضد الكرد إحدى الوسائل الاستراتيجية لدى الدولة التركية الحديثة، منذ نشأتها، في لعبة استطاب الشارع حول أجندتها السياسية وأهدافها، وذلك عبر التلاعب بالرأي العام واشغاله بتحدّيات ومخاطر تهدد وجوده، بغرض صرف أنظاره واهتماماته عن جنونها ولتحقيق مآربها المباشرة. لكن هذه العمليات، فيما كانت ذات طابع عرقي/علماني محض قبلاً باتت الآن ذات طابع ديني مقدس وعرقي في آن. إذ استطاع أردوغان، الذي قدم ممتطياً عربة الديمقراطية إلى سدة الحكم، توظيف الدين الإسلامي، وبخاصة نسقه الشعبوي المتطرف، إلى حدّ كبير، معتمداً في ذلك على طوابير أيديولوجية دعائية، لتنظيمات الإخوان المسلمين في كل مكان، في استثمار الانفعالات والمشاعر الدينية لدى الشارع الإسلامي وتوجيهها خدمة لمكاسبه السياسية ومقاصده.

إن استثمار المشاعر الدينية لإنتاج خطاب كراهية دينية مقدسة ضد الكرد بلغ الآن مداه الأقصى في المنابر الإعلامية والمهرجانات الخطابية والدعائية لأردوغان، وأصبحت الكراهية رأسمالاً رمزياً لا ينضب معينه لدى سلطته في صراعها مع خصومه داخلياً وخارجياً. وهذه الكراهية باتت مرتبطة لديه، بوجه عام، بالكرنفالات الشعبوية وحشود الغوغاء المؤيدين له، التي احتلت الآن المجال العام داخل تركيا، وراحت تمارس إرهاباً وطغياناً رمزياً ضد كلّ مخالفي أردوغان السياسيين. ويراد لها أن تحتل المجال العام خارج تركيا، عبر وسائل إعلام عربية مشهور سخرت نفسها للبروباغندا الأردوغانية.

أردوغان هو مهووس ديني احترف كراهية الآخر المختلف عنه، ويريد الآن أن يجعل من الكراهية الدينية عقيدة ليس لدولته فحسب، بل إيماناً شاملاً في جميع المجتمعات الإسلامية، مهووس بأن يجعل الغلّ سنّة بينية لها، وهذا هو مغزى رفع صور صدام حسين وكمال أتاتورك معاً مصحوبين بهتافات دينية وعنصرية ضد الكرد بين الجماعات الجهادية الحليفة له في غزواته، ومغزى التشنيع البهيمي والتمثيل بجثّة المقاتلة الكردية بارين كوباني من قبل جهاديي السلطان ومن ثم التمثيل بجثة السياسية القيادية الكردية هڤرين. هذا التمثيل برره أوّل شيخ أفتى بوجوب التصويت لأردوغان رئيساً لتركيا.