أردوغان وبشار الأسد: العشق الممنوع

الأسد وأردوغان، كل منهما يستشعر حاجته إلى الآخر في المعمعة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالأكراد.

طوال تسع سنوات من التدخل التركي، الفج والسافر، في الشأن السوري، وما ترتب على ذلك من خراب وتدمير وتهجير للسكان في المناطق التي احتلها الجيش التركي بدعم من الجماعات الجهادية المعارضة، لم يفكر رأس النظام في سوريا أن يلغى اتفاقية أضنة التي أبرمها والده مع الأتراك أو حتى يفكر بتعليق العمل بها. هذه الاتفاقية التي قدّم خلالها حافظ الأسد تنازلات كبيرة وعميقة تمسّ السيادة السورية للجانب التركي. خلال تلك السنوات انتهكت تركيا عشرات المرات التعهدات المتبادلة بين الطرفين في الاتفاقية وكان بمقدور بشار الأسد بالمقابل أن يلقي بالاتفاقية في سلة المهملات كردّ فعل على تلك الانتهاكات، إلا أنه لم يقدم على هذه الخطوة أبداً. ومن جديد عاد الحديث عن اتفاقية أضنة، مطلع عام 2019، أثناء اجتماع مشترك بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين. وأشار الأخير، قائلاً: إن اتفاقية عام 1998 بين دمشق وأنقرة حول مكافحة الإرهاب وضمان الحدود الجنوبية لتركيا لا تزال قائمة، لافتاً إلى أنها يمكن أن تساعد في ضمان أمن تركيا. وبهذا التصريح المغري منح بوتين مبرراً سياسياً وقانونياً وذريعة لجيش أردوغان لغزو مناطق شمال سوريا وشرق الفرات، مشجعاً إياه على الاعتراف بشرعية الأسد رئيساً لسورية.

بشار الأسد وفي ذروة ضعفه وعجزه منذ 2013 وحتى يناير 2017، حينما بات محصوراً في قصره وفقد السيطرة على أكثر من 80% من أراضي البلاد، لم يتنصل من الالتزامات الأمنية والسياسية مع تركيا، تلك الالتزامات التي كانت تسوّغ لنظام أردوغان وجيشه أن يصول ويجول مع مجاميع الجهاديين المسلحين في جميع مناطق البلاد دون رادع سياسي أو قانوني! وفي الواقع فأن الصلات بين النظامين لم تنقطع طوال سنوات الصراع، وعلى الدوام كانت هناك لقاءات سرّية بين الطرفين سواء برعاية إيرانية أو روسية خدمة لهواجسهما الأمنية المشتركة.

قبل انفجار الاحتجاجات واحتدام الصراع الداخلي قدّم بشار الأسد وأردوغان نموذجاً فريداً للصداقة الشخصية والعائلية وغزلاً متبادلاً لم ينقطع يوماً حتى أعلن الأخير في 21/9/2012 قائلاً إن بشار الأسد انتهى سياسياً وبات ميّتاً. ووصف حينها بشار الأسد بالإرهابي وأن سلطته تمارس إرهاب الدولة ضد شعبها، وأعداً اللاجئين السوريين في أحد المخيمات التركية أن يصلّي في المسجد الأموي قريباً!

حتى قبل هذا الوعيد كانت الأعلام التركية وصور رجب طيب أردوغان مع بشار الأسد تزيّن العواميد وترفرف على طول المسافة الواصلة بين العاصمة دمشق وبوابة الحدود التركية، التي تبلغ مئات الكيلومترات. وكانت كرنفالات الاستقبال التي يقيمها بشار الأسد لصديقه الضيف وزوجته متواصلة رحلة الصيف والشتاء، متخمة بشعارات التبجيل والتوقير والثقة بالمستقبل المشترك بين الشعبين والتفاؤل بحكمة القائدين( العظيمين).

اتخذ الصراع السوري منحى جديداً في سبتمبر 2015 بعد التدخل الروسي المباشر لصالح نظام بشار الأسد. واستطاع الرئيس الروسي بوتين بدهائه أن يستدرج أردوغان إلى جانبه بعد إسقاط الطائرة الروسية، وعزّز من ثقة الأخير بالدور الروسي وشكوكه بالدور الأوروبي والأميركي بعد وقوف بوتين إلى جانبه في المحاولة الانقلابية الفاشلة سنة 2016. كذلك عمّق الرئيس الروسي الفزع لدى أردوغان من تنامي الدور العسكري الكردي بعد معركة كوباني وهزيمة داعش هناك.

قاد كلّ ما سبق إلى تحوّل جوهري في الدور التركي، فلم يعد يشغل الرئيس التركي سوى الرّهاب الكردي، الذي بات يقضّ مضجعه، ولم يعد يكترث لأي تحوّل أو تغيير ديموقراطي دفع ثمنه الشعب السوري باهظاً من حياته واستقراره، مثلما صرّح مؤخراً إن الهدف الوحيد لتركيا بات هو محاربة جماعات مثل تنظيم داعش ووحدات حماية الشعب، وليس الإطاحة بالحكومة السورية. كذلك اعترف وزير خارجيته جاويش أوغلو بأن بلاده تدرس التعاطي مع الرئيس الأسد إذا فاز في انتخابات ديموقراطية!

من هنا شرع أردوغان، الذي انخرط بحماسة مع الأجندة الروسية في سوريا عبر تفاهمات واتفاقيات آستانا، ببيع المعارضة المسلحة انطلاقاً من حلب عام 2016 مقابل السيطرة على محور جرابلس- الباب- إعزاز. ومن ثم استدرج المسلحين في الغوطة، التي سلّمها للنظام سنة 2018، واستوطنهم في عفرين بعد أن احتلوها وهجّروا ثلاثة أرباع سكانها الأصليين. وأخيراً يدور الحديث عن رفع يده عن حماية الجهاديين والمسلحين في إدلب مقابل السماح لجيشه بالهجوم على مناطق شرق الفرات وإقامة منطقة آمنة تحت هيمنته.

إن أبرز نتائج هذا التحوّل في الدور التركي تتمثل في: أولاً، تحوّل المعارضة المسلحة، والسياسية، التي استقطبها أردوغان لديه إلى مجرد مرتزقة لتنفيذ أجندة سياسة الأمن القومي التركي. وبالتالي تقويض الشرعية السياسية والأخلاقية لخطاب المعارضة والثورة، وبالمقابل تكريس مزاعم النظام التي أعلنها منذ البداية وبرر بها عنفه ضد احتجاجات الشارع السوري. ثانياً، تمكين النظام من خلال التفاهمات التركية-الروسية من استعادة السيطرة على مساحات واسعة، ففي شهر يناير 2017 كانت سيطرة النظام السوري لا تتجاوز 35944 كم مربع، أيّ ما يعادل 19.4 بالمائة من إجمالي مساحة الأراضي السورية، في حين أن سيطرته اتسعت وامتدت في 6 نوفمبر (كما يؤكد المرصد السوري) لتشمل مساحة 132257 كم مربع باجمالي 70.6% من مساحة البلاد. ثالثاً، تهجير مئات الآلاف من السكان الأصليين في المناطق الكردية في الشمال، عفرين ورأس العين (سرى كانييه)..الخ وإحداث تغيير ديمغرافي، عرقي وثقافي، وتوطين تركمان من الداخل السوري ومن آسيا الوسطى وعرب من ريف حمص ودمشق، تمهيداً لضم هذه المناطق إلى الأراضي التركية. رابعاً، إن سياسات التهجير القسري والسطو على أملاك وبيوت المدنيين ونهب مزارعهم في المناطق الكردية المحتلة كرّست انقساماً عميقاً وكراهية في المجتمع السوري من شأنهما أن تشكّلا وقوداً لحرب عرقية داخلية محتملة. خامساً، منح الغزو التركي لمناطق الشمال السوري الفرصة لبشار الأسد كي يبدو بمظهر المدافع عن وحدة البلاد وسيادته ضد الغزو الخارجي. فضلاً عن ذلك جعل أردوغان يستعيد قليلاً من سمعته الداخلية الآخذة بالتدهور، ليبدو بمظهر المحارب ضد الإرهاب الداخلي والخارجي في نظر الجمهور التركي المتعصب.

رغم ذلك، يتطلع بشار الأسد اليوم إلى تحقيق المزيد من المكاسب لنظام حكمه مستغلاً العداء الهستيري الذي يبديه الرئيس التركي للوجود الكردي، ويراهن على ضعف الأخيرين وإنهاكهم بسبب الغزو التركي وحلفائه. وهو في الجوهر لا يكترث، كما عهدناه، بالانتهاكات لسيادة الدولة السورية بقدر ما يعنيه أن يعود الكرد صاغرين لسلطته كي يتحولوا إلى بنادق تحت إمرته، كما تحولت المعارضة السورية المسلحة إلى بنادق رهن إرادة أردوغان. وهذا الرهان هو الذي يدفع بوتين إلى تأجيج مخاوف الرأس الساخن في أنقرة وتحريضه على الهجوم ضد الكرد.

بشار الأسد وأردوغان، كل منهما يستشعر حاجته إلى الآخر في هذه المعمعة، كلّ منهما يرى الآن أن هذا الآخر يستفزه ويشكّل تحدّياً له، إلا أنه يدرك أنه لا يستطيع أن يستغني عن دوره. إنهما يتناحران على المكانة نفسها، كلّ منهما يريد أن يحتكرها بنفسه ولنفسه، إلا إن كلّ منهما يدرك في الوقت نفسه، أنه لا يستطيع أن يتمتع بهذه المكانة من دون وجود هذا الآخر، الضروري بالنسبة إليه.

كلاهما يمارسان الخديعة ذاتها، يوحيان بالحقد والكراهية اتجاه الآخر، إلا أنهما لا يملكان الحرّية في اختيار هذا العشق المحرّم والممنوع عليهما، فهما محكومان به، كلّ واحد يتمنى في قرارة نفسه بقاء الآخر طالما هو باق، ولا يملك الحرّية في التخلّص من هذا الآخر. كلّ واحد يدرك حاجته وتبعيته للآخر لأنه على قناعة بأنه ليس وحده المسؤول عن مصيره، إنما مصيره يتوقف على وجود هذا الآخر، ولا يستطيع العيش بمفرده. وفي نهاية المطاف فقد صار أردوغان مطبوعاً بسلوك بشار الأسد وراح يدير البلاد على طريقة الأخير، وقد استفاد كثيراً من تجارب وممارسات نظيره السوري في إدارة حكمه، رغم كل الهجوم والانتقادات التي أبداها ضد حاكم دمشق خلال تلك السنوات. في حين أن الأخير استمدّ كل مبررات استبداده وذرائع العنف ضد شعبه من وجود متطرف مثل أردوغان، وسيظلّ يعزز بقاء حكمه ويرسخ ركائز سلطته بوجوده. وبعبارة أخيرة، سيظلّ كل واحد عاجزاً عن تجاوز هذا التناقض بمفرده ويجد نفسه مكرهاً على التصالح مع الآخر في نهاية الأمر.