الثورة والأخلاق

من اعتقد أن نظام بشار الأسد هو الإرهاب الوحيد في سوريا إنما كان يريد منذ البداية أن يضلل الناس عن الإرهاب الطائفي المضاد، ويجعل من المتطرفين الطائفيين ثوّاراً وقديسين.

مثلما سطا النظام على مفهوم الإصلاح واستلبه في ذاته، فقد سطت تيارات سياسية على الثورة السورية وقرصنتها واحتكرتها في نفسها. وأصبح أهل الثورة والإصلاح الحقيقيين بين قطبي رحى أحدهما لص متغطرس والثاني قرصان أعور وأفّاق. وحملت هذه الأخيرة معها قيماً أخلاقية وسياسية في غاية التعارض مع التطلعات الإنسانية والأهداف السامية للثورات المناهضة للطغيان.

كلّ ثورة تحتاج إلى اتساق أخلاقي معين في المبادئ، وإن انطوت على اختلافات سياسية جليّة. فالتاريخ لا يعرف ثورات محض أخلاقية، وحتى ثورات الأنبياء والرسل كانت لها هفوات أخلاقية جلية. ولم يسبق للتاريخ أن شهد ثورة للملائكة أو القديسين، هذه موجودة في الأساطير فقط. ولكن الثورة إن كانت خالية من القيم أو لا تملك ضوابط أخلاقية أو سياسية، ولا تساهم في إنتاج قيم إنسانية جديدة، وقيم حياة جديدة، وبالنتيجة بشراً من طراز جديد تستحيل إلى كارثة، وتعيد إنتاج أشدّ أشكال البؤس تخلفاً. يبرر هذا الاستنتاج إن جميع من أذاق الآخرين صنوف القهر والعذاب، من اعتقل الناس، المخبر الذي كان يلاحق أنفاس البشر ويذيل تقاريره الكيدية عن حركاتهم، الجلاد الذي كان يفترس ضحاياه في الزنازين، المحقق، اللص وناهب المدن، المرتزق الذي كان يخرج في كل أوان ليهتف باسم القائد الخالد ويرغم الناس على الهتاف معه، الفاشي والعنصري الذي كان يطعن في هوية المختلفين معه وانتمائهم، المتعصب والمهووس بإيذاء الآخرين كل هؤلاء أصبحوا في صفّ الثورة لما شعروا أن قارب النظام المنخور على وشك الغرق، وبعضهم أصبح ناطقاً باسمها ورمزاً لها. من عارض النظام وعارض هؤلاء ولوحق وفرّ من البلد ثائراً لحقه هؤلاء واغتصبوا ثورته، إذن ما مبرر بقائه ضمن هذه الثورة، إذا كانت كتلة الشرّ أصبحت كلها في هذه الضفة، في برهة غرق سفينة النظام، ولم يبق في الضفة الأخرى سوى الطاغية المعزول والمجرد في قصره؟ ألا نحتاج إلى ثورة أخرى على هذه الثورة كي تتطهر من جميع الشرور التي لحقت بها حتى أصبحت ضد مبدأها بالذات؟

هذا النظام لم ينتج إلا غيلاناً وقتلة وقطاع طرق ولصوص وأفاقين. ولم يكن بوسع أيّ كائن أن يستمر معه ويحظى بثقته ويضمنها ما لم يتحلل من كل كرامة إنسانية، ومن كل حس أخلاقي. لهذا السبب من الطبيعي جداً أن نرتاب في نوايا ودوافع كل من ألقى بنفسه من قاربه المنخور، في برّهات الغرق الأخيرة. كما حصل مع الوزير والضابط الأمني السابق والمحافظ اللص الذي راح يلقي علينا مواعظ أخلاقية وإنسانية، ويتحدث كقديس ثوري من عصر ثورات العبيد. هؤلاء اعتقدوا أن ضمائر البشر وعقولهم هي مجرد اسفنجة تمتص كل قذارات الكذب والدجل عندهم. أقول من الطبيعي جداً ألا يتلقى هؤلاء الكثير من الحفاوة والثقة بنواياهم، فهذا مروق محض وليس انشقاق أخلاقي أو سياسي.

الحياة لا يمكن أن تستمر دون اختلاف سياسي، فهذا أمرٌ ضروري وحيوي لتقدم البشر، لكنها من الصعب أن تطاق بوجود اختلاف أخلاقي. دعونا نختلف سياسياً ونتفق أخلاقياً. والحال أن المنطق الذي بات سائداً لدى أطراف المعارضة السياسية السورية هو العكس، لنتفق سياسياً ولنختلف أخلاقياً إلى أقصى حد. كان من شأن مثل هذا المنطق أن حال دون تشكيل وعي أخلاقي مشترك للثورة وغياب المعايير الأخلاقي للسلوك السياسي. مما جعل من كل ممارسة سياسية، شاذة ومنحرفة، مشروعة طالما وأنها تستجيب لغايات سياسية ومقاصد عملية محددة.

يمكن الإشارة في هذا السياق إلى الشعار الذي أعلنه الإسلاميون بهدف استقطاب الآخرين حول مطلب سياسي واحد، دون النظر إلى الممارسات السياسية الأخرى حينما أعلنوا إن نظام بشار الأسد هو الإرهاب الوحيد في سوريا، فهذا المنطق الذرائعي الذي ساد العقل السياسي لديهم جعل في نهاية المطاف كل هؤلاء مجرد بنادق تحت وصاية التركي الغازي، وبرر كل تحالفاتهم مع المجاميع الإرهابية. إن من اعتقد أن نظام بشار الأسد هو الإرهاب الوحيد في سوريا، فقد أعماه التطرف الطائفي. من اعتقد أن نظام بشار الأسد هو الإرهاب الوحيد في سوريا إنما كان يريد منذ البداية أن يضلل الناس عن الإرهاب الطائفي المضاد، ويجعل من المتطرفين الطائفيين ثوّاراً وقديسين وبالنتيجة استحالوا إلى ثوّار ضد شعبهم خدمة لمآرب عرقية ومذهبية.

نستطيع الزعم بأن طبيعة هذا النظام الوحشية كانت متوقعة وواضحة منذ البداية، ولم يكن محتملاً أن نتصور قط أن يكون النظام أقل إجراماً وبربرية، ولكن بالمقابل كان الافتراض السائد والمتوقع هو أن يكون خصمه المحتمل في مقبل الأيام أكثر نبلاً وإنسانية وقدرة على التسامح، وأن يكون رموز وممثلي هذه الخصومة على نقيضه تماماً فرساناً وإنسانيين إلى أقصى حد. ولكن الواقع أظهر إن من تصدى اليوم له باسم الثورة والمساواة العدل في معظمهم كانوا مجرد أقزام تأهلوا في كنفه، والآن يستعيدون كل أنماط سلوكه على نحو مسخ وأشدّ تطرفاً وبذاءة.

هذه المفارقة أفضت إلى نتيجة واحدة على الأقل، هي أن هذه "الثورة" تقدمت نحو إثبات ذاتها سياسياً دون رأسمال أخلاقي رمزي، أو دون أن تتراكم لديها ميراث أخلاقي حيثما وضعت نصب أعينها غاية وحيدة ورئيسة هي الاستيلاء على السلطة وإسقاط النظام القائم أيّاً كانت الوسائل المستخدمة. ويبدو لنا في نهاية المطاف أن هذه "الثورة"، التي تحوّلت إلى كرنفال للدم والخراب، لم تعد قادرة على ضمان حقوق الضحايا والمقهورين المهدورة في زمن الاستبداد، ولكنها تبدو أكثر معنية بالحفاظ على امتيازات أعوان الجلاد وعملائه الذين أمعنوا في الاستزلام له طوال تلك الفترة وانشقوا الآن في برهة غرق سفينة الاستبداد، ليصبحوا هم الأوصياء على دماء الضحايا الآن وسادة الثورة.

هناك فجور سياسي وأخلاقي صارخ سائد في سلوك أطراف عديدة. انتحال مفضوح ومريب لدماء ضحايا الشعب السوري. بعضهم يطالب باحترام وتقديس بعض القضايا الوطنية وهو ذاته من يخونها سرّاً وعلانية. بعضهم يعلن صراحة تمثيله للشعب السوري، ويؤكدون على ذلك مراراً وتكراراً ويحث الشارع والآخرين على مبايعته وفي الوقت ذاته هو نفسه لا يحترم هذا الشعب وقيمه ولا يحترم الثقة التي منحه إياه الشارع. عدد من رموز الثقافة السورية والسياسيين المعارضين، ممن كنّا نعتقد فيهم السمو، كشفوا في الآونة الأخيرة عن ضيق أفق وتعصب لا يليق إلا بمتطرف يهودي مهووس بيوم السبت. فضحتهم انفعالاتهم الحقيقية ومشاعرهم المقنعة بعبارات العقلانية والتسامح الفضفاضة. روائح الكراهية الطائفية والقوموية التي لا تطاق أخذت تفوح بقوة من كلماتهم.

هذه الرؤوس الساخنة في المعارضة السورية خدمت النظام أكثر من أزلامه ومرتزقته، الرؤوس الساخنة التي تجاهلت حقائق الوضع السوري، وتعاطت معها بنفس منطق النظام. الرؤوس الساخنة، التي أرادت أن تقدّ مستقبل سوريا طبقاً لأهوائها وأوهامها الأيديولوجية، الرؤوس الساخنة، التي لم تعد تدرك أن البلاد بات غارقاً في هاوية الحرب الأهلية وهي لاتزال تتبجح وتتغطرس وتعاند. لأنها ببساطة شديدة جرّدت كل دعوى أو مطلب سياسي من أبعاده الأخلاقية. تأكيد الذات وثنياً، الوعي المشوّه بالكرامة الفردية والجماعية، ردّات الفعل المنحرفة، ازدواجية المعايير الأخلاقية وغياب الاتساق في الوجدان الجمعي، النخوة المجانية، المكابرة الفارغة ومعاندة التقدم، الضجيج الاستعراضي والزعيق الأرعن الناجمين عن غيرة زائفة، الهستيريا القطيعية المتطرفة المصحوبة بالرغبة في الانتقام، الذاكرة الانتقائية، النزعة الإيمانية المنافقة والسطحية، كلها مظاهر لأزمة العقل الأخلاقي وتناقضه، حيث تجدونها جليّة وصارخة في تظاهرات السلوك السياسي للمعارضة السورية.

واجهة الثورة السورية لم تعد تشكو من نقص الثورجيين، المزايدين والمتسلقين (سواء أقومجيين كانوا، أو إسلامانيين) إنها تشكو من قلّة السوريين الحقيقيين. والتاريخ يعلمنا أن جميع قوى التغيير والمعارضات في العالم التي قامت بالثورات وأحدثت تحولاً عظيماً في أوطانها وأوضاعها، إنما أنتجت، في الوقت ذاته، قيماً وطنية سامية أرقى وأكثر تقدماً، ورسخوا القيم الإيجابية القديمة، قيم الانتماء والتضامن الوطني. والحال حتى الآن، أن المعارضة السورية عجزت عن بلورة قيم وطنية جديدة تعكس انتماءاً وطنياً أسمى، على العكس من ذلك، كلما مضى الوقت أكثر تعرّت أكثر من قيمها الوطنية، وغرقت وتمترست وراء قيم أيديولوجية في غاية التخلّف والسلبية ورهنت إرادتها لأجندة غير وطنية.

المهام السرية، القذرة، هي الحقيقية والفاعلة في هذه الأصقاع من العالم، وهي التي تؤتي ثمارها، وحال الرجال كذلك. فالرجال الأكثر قذارة والأكثر دناءة وخسّة، المنطوون على أنفسهم، المأجورون هم الذين عادة يلعبون أدواراً حقيقية في هذه الأصقاع من العالم. للأسف هذه هي الحقيقة المرة، أما الطيبون فلن يرثوا الأرض كما قيل في أوّل الزمان، هم مجرد ضحايا. ونحن نشهد اليوم كيف يلعب كلّ من خرج من كنف النظام، كلّ من ترعرع في مدرسة البطش والقتل وأمثالهم، دوراً رئيسياً في تحديد مصائر البشر، أما الثوار والضحايا والأطفال ودموع الثكالى فلم تعد تشكل فارقاً كبيراً في تحديد المصير إلا بالقدر الذي تستجيب فيه للمخطط العام.. تلكم هي المفارقة الأخلاقية العظمى في تاريخنا الشرق الأوسطي، وتلك هي التعويذة السرية واللغز الذي جعل الضحايا على الدوام مجرد ضحايا وأرقام ومسألة إحصاء.

كلنا شهود على هذه المهزلة التاريخية التي سميت بـ "الربيع العربي"، كلنا شهود على هذه المأساة الإنسانية، ومعظمنا يدير ظهره للحقيقة ولا يريد أن يرى إلا ما يرغبه. معظمنا شركاء في هذه الخديعة التاريخية العظمى. كلنا متواطئون مع هذا الزيف والدجل السياسي. قلّة من الرجال والنساء يملكون شرف الشجاعة وعلى استعداد لقول الحقيقة. في نهاية المطاف الضحية الثابتة هم شعوب المنطقة وفقرائها، والمستفيدون هم الطغاة وإن تبدلت وجوههم القبيحة، والعراق أكبر وأعظم مثال على هذه الحقيقة المأساوية. الحقيقة الوحيدة، الصارخة، البادية للعيان منذ تسعة أعوام من الخراب والدمار والتضحيات، أن سوريا البلد والوطن قد سقط ولم يسقط حتى هذه البرهة نظام الأسد. سوريا سقطت اجتماعياً نتيجة الاحتراب الأهلي، وسقطت ثقافياً وحتى سياسياً، ومن المؤكد أن سوريا القادم،ة التي تتشكل الآن تحت الأنقاض لن تكون كالتي عهدناها بعد الاستقلال. الجميع تكالب على سوريا، النظام والمعارضة معاً، وكذلك العالم الخارجي. ومن البين أن أكثر من من مارس القسوة بحق الوطن أو البلد، كان أولئك الأكثر تشدقاً باسمها حتى الآن. سوريا أمست مجرد ضحية للجميع، كلّ يريد أن يغتصبها وفق مزاجه المرضي الخاص والانتقام منها، والتفرد بها. ربما لأن سوريا لم تكن وطناً حقيقياً للجميع وإنما قيداً فرض عليهم، أو ربما لأنهم جميعاً لا يستحقون هذا الوطن. كلاهما صحيح وعلى الدرجة ذاتها من اليقين.