المثقف وقضية الإصلاح

رهان الثقافة هو الحقيقة، إذ يكتسب المثقف جدارته بإصراره المبدئي على التصريح بالحقائق وإشهارها، فلا يكذب أو يوارب.

الإصلاح هو نسق متكامل من الإجراءات النظرية والعملية، ينشأ عادة عن ضرورات التحول والتغيير في المجتمعات والدول، وذلك حينما تصبح هذه الأخيرة في مواجهة تحّديات الجمود والركود والتخلّف عن ركب التقدم. والإصلاح عادة يرتبط بسيرورات نمو هذه المجتمعات والدول التي تعاني فواتاً تاريخياً أو تأخراً يتزامن مع وجود تقدم في محيطها، على المستويات الديموغرافية والاجتماعية والسياسية والثقافية. ووعي أولوية الإصلاح وضرورته ينبثقان عن نظرة سياسية واجتماعية نقدية للواقع الراهن ولمتطلباته، هو وعي يكتشف المفارقة والتباين في مستويات التطور بين الحالة المعاشة وآفاق التطور والممكن.           

فمن يبادر إلى طرح هذه الضرورة؟ هل صاحب السلطة والمهيمن عليها؟ أم النخب السياسية، الثقافية، الاجتماعية...الخ؟ أم النخب المعارضة؟                                             

ينبثق وعي الإصلاح وضرورته بالدرجة عن وعي النخب المثقفة المستقلة، وتتبلور لديهم هذه الحاجة قبل الجميع كما أثبت التجارب الحديثة، منذ ثورات الشباب في أوروبا، في القرن الفائت، ربيع باريس، مروراً بربيع براغ وبولونيا، وليس انتهاءً بزوال جدار برلين.

ولكن ينبغي في هذا السياق، أن نمّيز بدقة، بين مهمة المثقف "المفكر" وبين عمل "المصلح" كما عهدناه في كتب التاريخ، وهو عمل كان يدعو إليه أي مؤهل للعب دورٍ مؤثر في حياة الناس ومخاطبتهم في الأزمنة السابقة، مثل الأنبياء ورجال الدين عموما، الزهاد والدعاة... الخ. وهؤلاء كان دورهم غالبا يقتصر على إصلاح الروح والقيم الاجتماعية، دون الاكتراث بتغيير الشروط المادية، التي قادت إلى الفساد العام. وفي معظم الأحيان كانوا يتجنبون الصدام مع السلطة المسيطرة. فهذه المهمة الرسولية والروحية ليست الأكثر أهمية لدى المثقف الناقد للأوضاع والداعي للإصلاح، حتى لو اقتضى الأمر صداماً قاسياً مع النخبة السياسية الحاكمة، إذ أولى مهام المثقف الحديث (المفكر) هي إزعاج السلطة، كما كان جان بول سارتر يقول. ما هو دور المفكر/المثقف، ونحن هنا نتحدث عن المثقف بدلالة المفكر والفيلسوف والمبدع، وما هي مهمته في هذا السياق إذن؟

بداية ينبغي التسليم بأن الفصل بين الثقافي والسياسي أو النأي بالثقافة، في كلّ الأوقات، عن السياسة، أو الدعوة إلى ما بعد السياسة، هو ضرب من اليوتوبيا، وهو أمرٌ محال. إذ لا توجد ثقافة خالصة بذاتها مجردة، وكذا الأمر مع السياسة.

إن كلّمة الثقافة تحمل في طياتها بُعداً أيديولوجياً، بل إنها متخمة بالأيديولوجية. ويؤكد تعريف المثقف على ضرورة تفاعل المشتغل بالثقافة مع قضايا الإنسان والتاريخ من وجهة نظر قيميّة معينة. ويدّل هذا المفهوم على أولئك المشتغلين بالفكر، الذين ينطوون على منظومة آراء وأفكار حول الإنسان والمجتمع ذات قيمة معيارية إلى حدّ كبير. إنه بهذا الاعتبار يعمل على إنتاج القيم والرؤى، التي تضفي على العلاقات والتنظيم الاجتماعيين الشرعية، أو تسلب عنها تلك الشرعية.

يقول جان بول سارتر: أينما حلّ الظلم فنحن المثقفون معنيون به. بهذا المعنى يضع سارتر ضمير المثقف، بصفته تمثيلاً فردياً لحضور الضمير الإنساني الكلي فيه، أمام تحدّي وضع الإنسان ومصيره. إذ يتعين عليه -نعني ضمير المثقف- أن يكون ترمومتر للتمييز بين العدل والظلم، بين الخير والشرّ، بين القبح والجمال، بين الحرية والقهر.

الحديث عن المثقف ودوره عموما هو حديث عن ذلك الفرد الذي اختص بهندسة الضمير والوعي. فالروح الإنسانية والضمير يتجليان في الثقافة أكثر من أّي شيء آخر، التي تشّكل نطاق العمل الخاص بالمثقف. من هنا تبرز تلك العلاقة الوثيقة بين ضمير المثقف وبين مضمون الثقافة. لكن ماذا لو كان ضمير المثقف ضامراً ووعيه معّطلاً؟ في هذه الحالة يكون المثقف قد أدار ظهره لآلام البشر وغاص في مستنقع اللامبالاة والأنانية، وتكون الثقافة قد استحالت على يديه إلى هراء أو وثرثرة فارغة ونفاق وتملّق. الثقافة الحية تشترط في المثقف الحرية والاستقلال علاوة على وعيه النقدي الرفيع.

والمثقف الحقيقي لا يمكنه، إذا أراد أن يبقى صادقاً ومنسجماً مع نفسه، مخلصاً لقضية الإنسان والحقيقة، أن يبقى محايداً وهو يرى ما يحدث من حوله في هذه العالم. الموقف إزاء كل ذلك يشترط في المثقف الحرية واستقلال الإرادة، لكن أن يكون المثقف أسير النفوذ أو الثروة أو القوة، وبعبارة أخرى أن يكون مثقف السلطة، سواء أكان مثقف سلطة الحزب الواحد، أو مثقف طغمة مالية أو سياسية، أو مثقف العشيرة، ففي مثل هذه الحالة يتعذر الحديث عن حرية المثقف واستقلال إرادته، ومن ثم من المحال أن تتوقع منه موقفاً أو رأياً يعّبر عن قوّة الضمير الإنساني لديه.

 هلّ يلوذ المثقف في مثل هذه الأوضاع بالصمت؟ من المعروف أن الصمت قد يكون ناجماً عن الخوف أو التهديد، وبهذا الاعتبار هو أنبل من الثرثرة الفارغة، التي تستدعيها مهنة مثقف السلطة ووظيفته. فالثرثرة تعني الإمعان في التضليل والتواطئ مع السلطة المهيمنة في تزوير الحقيقة وتزييف الوقائع، والمتاجرة بآلام الناس. على هذا النحو يساهم المثقف في إنتاج وعي زائف بالعالم ومضلل بالحياة. المثقف المأجور، الفاقد للإرادة والحرية، يلجأ إلى الكذب والتلفيق والتبرير كي يبرهن على ولائه للسلطة أو على عبوديته لها، وبالمقابل يبرر استعباد الآخرين وقهرهم واستغلالهم.                    

كرامة المبدع والمثقف تكمن أساسا في الحفاظ على حريته واستقلاله، أن تكون حرّا ومستقلاً فهذا هو الشرط الرئيس للإبداع، وبغير هذا الشرط يجترّ الفرد الهراء والثرثرة الفارغة ويعدّه ابداعاً وخلقاً. المثقف موقف وهذا الموقف لا يتأتى بغير هذه الاستقلالية والحرية. وهنا بالذات محكّ كرامته الإنسانية. ولكن هذه الاستقلالية والحرية المبدعة تضع المثقف على الدوام أمام تحّديات مادية ومعنوية، منها:

* تحدّي السلطة السياسية وأداتها القمع البوليسي والخوف.

* تحدّي السلطة الاجتماعية والرأي العام للأغلبية السياسية أو الدينية، التي تميل إلى البطش العقلي. وحين يعجز المثقف عن الازدراء برأي العوام وقناعاتهم الرّثة، حينها يفقد كل قدرة أو شجاعة على الابتكار والنقد والابداع.

* تحدّي السلطة المادية والمالية، وأداتها الإغراء.

* تحدّي النخب الحزبية والأيديولوجية.

كلّ هذه التحديات قائمة في مجتمعاتنا التي تعاني من إخفاق مروّع في التحديث السياسي والمجتمعي، وتجعل من دور المثقف (المفكر) هامشياً، يجترّ قناعات الغوغاء أو السلطة المهيمنة ويداهنها حتى يتماه معها.

بعبارة موجزة، ثلاثة أشياء تستطيع أن تنتهك عذرية الثقافة وتغتصب وعي المثقف عبر علاقة غير شرعية، هي الأيديولوجية، السلطة، المال. وحين يحدث ذلك مع الثقافة أو المثقف، لا تستطيع أية قوة أن تحفظ هويتهما.

أيضا في مثل هذه الحالة لا ينبغي أن نتوقع إبداعا حقيقيا من مثل هذا الطراز من المثقف "المملوكي" الذي أعار ضميره لسلطة ما، مادية أو رمزية، سياسية أو اجتماعية، وتماهى معها. إنه يفتقر إلى الجدارة المعرفية مثل افتقاره إلى الجدارة الأخلاقية والإنسانية.

إن أصل الغاية ومبدأها بالنسبة للمثقف والثقافة هي الحرية، ومآلها الحقيقة. ويتعين علينا هنا الاستدراك والتنويه بضرورة الأخذ بالتمييز، الذي اقترحه ماكس فيبر على هذا الصعيد بين الأهداف والغايات. فالسياسي يمنح الأولوية للأهداف المباشرة (الأهداف الًظرفية والواقعية). أما المثقف فإنه يعنى بالدرجة الأولى بالغايات، التي لا تشكّل موضوعاً للفاعلية السياسية مباشرة، بينما تظل مشروعاً مفتوحاً بالنسبة إليه وممكناً. وهي تنطوي على معان خصبة وسامية ومعايير تلهم الأهداف العملية. إنها إنسانية أكثر من كونها سياسية تخص هذه الجماعة أو تلك.

هنا تتجلى بقوة تعارض الغايات بين موقف المثقف المتمثل بحريته، وموقف السياسي القائل بضرورة السلطة. ومن الواضح في السياسة أنه لا يمكن الحديث عن ازدهار السلطة وضمانها دون اللجوء إلى الإكراه والعنف. أما الثقافة فلا نهضة لها إلا بالحرّية ومن خلالها. وتقوم فاعلية المثقف على دعامتين أساسيتين، الحرّية والإبداع. أو يتماها دوره، على الأقل نظرياً، مع وجوده ككائن حرّ.

وحين يفقد المثقف الثقة بجدوى الحريّة، ولا يجد بدّاً من الإيمان بضرورة السلطة القائمة، حينها يفقد مبرر عمله، بفقدان الثقة بذاته، ويغدو تابعاً مهاناً، عقلاً مقّيداً، وجلاً ومتردداً ومستسلماً، وتظلّ إرادته دون مستوى التغيير والإصلاح، ودون عتبة إدراك الضرورة وتخطيها، فينهمك في التبرير والتسويغ، وتضمحل ذاته إزاء الضرورة القائمة وتتطبع بها. ليس ثمة فكر مبدع وخلاق هنا سوى فكر عقيم حيث تقاس قيمة فكرة ما أو حياة ما بدرجة عقمها. ليس هنا سوى فكر صدئ تتناسب درجته طرداً مع درجة تصدئ قوائم السلطة واهترائها. ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف يكون الإبداع والإرادة النقدية، هما أول قرابين غياب الحرّية. وعليه لا يبقى أمام العقل المقيّد من عمل سوى اختلاق ضروب التبرير والتسويغ لوضعه المعيش، على أنه أفضل وضع يمكن أن يتطلع إليه. وبهذا المعنى هو عقل تبريري. وبخلافه، فمن غير الحكمة أن تتوقع من المثقف كلّ شيء سوى النقد. وغباء لا حدود له أن يمارس المثقف أيّ شيء سوى النقد. النقد صلاة المثقف وقدّاسه الحقيقي في أوضاع الركود والسبات.

إذن، ليس ثمة هوية للوعي النقدي المبدع الذي ينشد الإصلاح، وفي قول آخر، ليس ثمة من طبيعة للعقل الفاعل سوى الحرّية، وغياب الحرّية يكافئ الاستبداد، يعادل وضع اللاعقل، اللاوعي. لأن طبيعة الاستبداد وهويته الرئيسة هي التعسف، والتعسف هو الناظم لعالم الضرورة ولغياب الحرّية، حيث كلّ شيء جائز ومسموح وغير جائز وممنوع في آن.

إن المثقف الحقيقي هو مثقف من خلال الحرّية، التي يحتفظ بها لنفسه، يمارسها وينافح عنها أكثر من كونه مثقفاً خلال الأفكار والمعارف، التي يقولها ويبشّر بها. وهنا تقاس كذلك قيمة وجدوى تلك الأفكار والمعارف، بدرجة حرّية الفرد المثقف على أنها ثمرة ممارساته الحرّة. وعند فيشته الثقافة هي ممارسة كلّ القوى من أجل هدف الحرّية الكاملة.

يزعم السياسي في معظم الأحوال أن الغاية الأساسية بالنسبة إليه هي الحقّ، وليست الحقيقية، التي هي غاية المثقف وشرط لمفهوم الحّق ومبرر له. وهذا الأخير مفهومٌ نسبي يخضع للمساومات وللمنطق البراغماتي لدى السياسي، يطيح به عند أول اختبار بدواع عديدة يعلنها، منها المصلحة العامة، والمنفعة المشتركة والخير النوعي، مصلحة البلاد والعباد.

رهان الثقافة هو الحقيقة، إذ يكتسب المثقف جدارته بإصراره المبدئي على التصريح بالحقائق وإشهارها، فلا يكذب أو يوارب. وتشترط الثقافة أكثر الوسائل شرفاً وتتطلع إلى نوع من الانسجام في الطبيعة تفترضه بين الوسائل والغايات. في حين أن رهان السياسة هو الحقّ. ولكن السياسة تؤسس مفهوم الحقّ على القوّة المادية بوصفها أسلوب لوجود السلطة. إنها وسيلة السلطة ومبدؤها، والإكراه مظهرها، ومقصدها الطاعة والإخضاع. وإذا كان العنف هو امتداد للسياسة، مصاحبٌ لها، متولّد عنها، فإن الثقافة ليس لها أن تحقق امتداداً إلا في التواصل الإنساني والتعايش. تكّرس الحوار والنقد وسيلةً، ويصاحبها التسامح وقبول الآخر مظهراً لها، وتهدف إلى الإقناع. لكن أنّى لنا أن نتغافل عن ثقافة العنف؟

وهكذا، يرى السياسي في العنف جوهر كلّ تقدّم اجتماعي وسياسي، في حين يجد المثقف
في الحوار محركاً للحضارة. وفي أفضل الحالات فإن أكثر السياسيين مقتاً للعنف وإنسانية لا يجد بدّاً من الإعلان أثناء الحرب إن الفضيلة العظمى تتمثل في قتل أكبر عدد من الأعداء. إن إرادة السياسي تبنى على إرادة العنف والقوّة، ولهذا السبب هي إرادة لا عقلانية ولا أخلاقية في أوقات كثيرة. وبالمقابل فإن إرادة المثقف هي إرادة عقلانية تقوم على قوة المنطق، لا العكس، ولهذا هي أخلاقية في الوقت نفسه.

وبالمثل، تعمد الثقافة إلى الدفاع عن وجودها بالمنطق والحوار، في حين أن السياسة تستعين بأكثر الوسائل تبايناً وتلجأ على الدوام إلى الدهاء والخديعة، والعنف والإخضاع.

لا يبرر المثقف لنفسه الوصاية مباشرة والادعاء بالحرص على مصلحة المجموع، وإن قادت جهوده إلى تحقيق ذلك، إنه ينأى بنفسه عن فعل ذلك. بيد أن السياسي الطامع في السلطة يتحين كلّ مناسبة للإعلان أن قدره هو تكريس نفسه لخدمة القضايا العامة، وفي المآل ينتهك كلّ قضية ومصلحة عمومية، مادامت تتعارض مع بقائه في السلطة وشغفه بها، التي يستبد بها زاعماً الحفاظ عليها، بصفتها سلطة الخير العام والمصلحة المشتركة. إن الولع والشغف الشديد بالسلطة لدى السياسي يقابل هنا شغف المثقف بالحقيقة وفضوله المستمر لمعرفة المجهول. ونظير السياسي الشغوف بالسلطة، الذي لا يلبى جشع هذا، فإن الشغف بالحقيقة والرغبة الفاوستية بالمعرفة تمثل جشع المثقف.

وكما بدا واضحاً، فإن المثقف يخضع لنسق أخلاقي ومعايير تفترض منه مسبقاً الالتزام. وهذا الالتزام يكون في العادة بالعدالة. إن العدالة لا تنفصل عن الحقيقة، وهي تعني، في نظر المثقف والثقافة عموماً، أن يغدو الواقع معقولا، وأن يرقى الواقع إلى المستوى الأقصى للعقلانية. بعبارة تالية، أن يغدو التاريخ البشري معقولاً، وتتجسد المصالحة بين التاريخ والعقل، فمن لا يتخذ من العدالة والعقل معياراً له يصبح طاغية.

أما في السياق السياسي فأن العدالة تعني، في أبهى صورها، تطبيق القانون. والسياسي حينما يزعم الحفاظ على السلطة وتحريرها من أيّة غاية تتعارض مع بقائها، بصفتها سلطة قانون، إنما يعدّ ذلك التزاماً بالعدالة. غير أن القانون هنا لا يعدو أن يكون سوى تعبير عن إرادة المستبد. عندئذ تتساوى العدالة مع مشيئة المستبدّ السياسي، والقول بالعقلانية بدلالة التعسف والفوضى.

إذن، الواقع هو الذي يشكّل أساس الفكر والمفكّر ويعدّ نقطة انطلاقته الأولى، وعلى العقل النقدي الحرّ أن ينحت في صلابة هذا الواقع كي يعيد تشكيله باستمرار، عبر خلق الأسئلة الجديدة، التي تفصح عن إمكانات تطوره وتقدمه. وبذلك يحقق الفكر نموه ويغدو واعياً لعصره. إن ما يعدّ نتاجاً لهذه الممارسة النظرية يدخل في نطاق الفكر النقدي الحرّ، الذي يعيد تشكيل وصياغة أسئلته ويعيد إنتاج نفسه في سياق تشكيل الواقع باستمرار.

وحينما يصل الوعي النقدي بالعالم إلى معرفة ذاته بصفته ذاتاً ناقدة وفاعلة، أي تبدو الذات كوعي فاعل في مواجهة صلابة الواقع، فلا يعود مقّيداً إليه أو تابعاً، أو في حالة إمحاء تامّ، تنشأ لديه الرغبة في تخطي ذاته وعالمه الواقعي. فلا يمنح موافقته الدائمة لأيّ واقعٍ قائم يفترض أنه الأمثل أو ينبغي الاعتراف به على أنه الواقع الصحيح والعقلاني معاً. هنا تقبع معارضة الفكر النقدي لكلّ سلطة، أيّاً كانت، أخلاقية، سياسية، دينية، اجتماعية، تسبغ على نفسها القداسة.