الغنوشي في منفاه الأخير
راشد الغنوشي هو خلاصة السياسيين المتحذلقين العرب. غير مرة نصحته بالانسحاب من الحياة السياسية لا خشية على تونس من أذاه وهو ما يحدث منذ عشر سنوات، بل لأن وجوده في السلطة كان يمثل أملا كاذبا لجماعة الاخوان المسلمين وهي تفكر في استعادة عرشها المفقود في مصر.
كان الرجل كذبة صدقها البعض من التونسيين غير أن الاخوان الذين هُزموا في مصر احتضنوه رمزا لبقائهم. لقد أزيلت آثار رابعة وحُكم على المرشد بالسجن مدى الحياة وصارت تركيا تزن وجود الاخوان بميزان مصالحها مع مصر والسعودية والامارات. لديهم أموال لا تنفد غير أن الأرض صارت تضيق تحت أقدامهم. في تلك الحالة كانت تونس وقد احتواها الغنوشي مرشدا جديدا هي المتنفس وهي الأرض الجديدة.
كان قيس سعيد عبقريا حين أسقط راشد الغنوشي بضربة قاضية لم توجه له مباشرة بل ضمته إلى الطبقة السياسية التي تم التخلص منها كلها ولم تكن هناك حاجة إلى التسمية إلا في ما ندر. وعلى العموم فإن الغنوشي لم يكن من الأسماء التي ورد ذكرها في قرارات سعيد.
تعامل رئيس الجمهورية التونسية مع الغنوشي باعتباره نكرة.
لذلك يمكن القول وبناء على المستخرجات الدستورية فإن سعيد لم ينقلب على أحد حين مارس صلاحياته. هل كان عليه أن يستشير الغنوشي في أمر يتعلق بنهايته؟ أما أن يكون المتأسفون على الديمقراطية في تونس قد هالهم أن يقوم الرئيس التونسي بواجباته ويضع للفوضى التي ضربت البلاد حدا ويمنع رموز الفساد من الاستمرار في ملهاتهم فإن ذلك يعود إلى شعورهم بأن الإسلام السياسي قد انتهت أيامه وليس من المستبعد أن يحاسب الغنوشي عن سنوات حكم جماعته المباشر أو من خلال واجهات.
كان الغنوشي عنيدا ولم يستمع لنصيحتي في اعتزال الحياة السياسية. لو أنه فعل ذلك لما كان مصيره المتوقع بالسقوط السياسي وما بعد السقوط السياسي. الرجل المتحذلق سيعمل جاهدا على تحاشي الوقوع في مصير المرشد المصري.
ليست هناك رابعة تونسية. واقعة الاخوان في مصر لن تجد لها متسعا على الأرض التونسية. ذلك ما أدركه الغنوشي منذ اللحظة الأولى فطلب من أعوانه التفرق لكن مع الاحتفاظ بشحنة الغضب من غير هدرها.
سيتبع الغنوشي استراتيجية مواجهة مختلفة عن تلك التي أتبعها اخوانيو مصر، لا لأنه حريص على وحدة الشعب التونسي ومستقبل العملية الديمقراطية في تونس بل لأنه أضعف من أن يدخل معركة من ذلك النوع. فهو يقود حركة محطمة من الداخل كما أن شعبيته قد انهارت مرة واحدة والأخطر من ذلك كله أنه يعرف جيدا أن الملفات التي يمكن أن تقوده إلى المحاسبة كثيرة بل هي بحجم ما عانته تونس وشعبها من انهيارات عبر العشر سنوات الأخيرة وهي السنوات التي حكم فيها تونس بشكل مباشر أو من وراء حجاب.
ولكن المفاجئ بالنسبة للتونسيين الفرحين بقرارات الرئيس الثورية أن جمهور الغنوشي لم يكن بذلك الحجم المخيف. وكان السؤال المحير "مَن انتخبه وأنتخب أفراد حركته الذين يحتلون المقاعد في مجلس النواب؟"
أثناء فترة قياسية انهارت كل الركائز التي بنى عليها الغنوشي ركائز هيمنته هو وحركته على نوع معروف من الشعب وذلك بتأثر عاملين. أولهما الوضع الاقتصادي الذي يزداد سوءا مع الوقت حيث ازدادت أعداد الفقراء وتوسعت دائرة الفقر وتنوعت أسبابه. وثانيهما صار معروفا ومكشوفا وبالوثائق أن حركة النهضة مارست دورا استثنائيا عبر العشر سنوات الأخيرة لا من جهة تفكيك مؤسسات الدولة التونسية وتعطيلها عن العمل حسب بل وأيضا لأنها مكنت الموالين لها من جزء من ثروات البلاد وصاروا يوزعونها بين أعضاء الحركة ضمن حق احتكرته تقريبا لنفسها هو حق التعويضات.
لقد باعت حركة النهضة نضالاتها المزعومة إلى الشعب التونسي بأثمان باهظة ولم تقدر أن الشعب الذي عانى من اهمال نظام زين العابدين بن علي وفلتان أجهزته الأمنية يستحق هو الآخر أن يُعوض، لكن بطريقة أكثر إنسانية واحتراما وذلك من خلال إعادة بناء الدولة والاهتمام بالمستوى الاقتصادي للمواطن وتطوير قطاعات التعليم والصحة والفلاحة والصناعة. غير أن حركة النهضة لم تفعل شيئا من كل ذلك. لقد انصب اهتمامها على تشويه معارضيها وتصفيتهم سياسيا واثراء أنصارها وإقامة دولة التمكين التي يكون الجزء الأكبر من نشاطها مسخرا لخدمة مشروع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بحيث يكون للقرضاوي حضور بارز وسط العاصمة التونسية.
ما فعله الغنوشي وحركته لا يمكن أن يتغاضى عنه القانون. وبغض النظر عن اعتراف بعض قيادات الحركة النهضة بمسؤولية الحركة عما انتهى اليه الوضع في تونس من بؤس في ظل جائحة كورونا فإن القانون لن يغمض عينيه عن الانتهاكات التي ارتكبت من خلال الاستيلاء على الدولة بمفردات التمكين.
قيس سعيد رجل قانون ويعرف جيدا أن الاجراء الدستوري الذي اتخذه سيكون بمثابة لحظة البدء ليقظة قانونية ستنقذ تونس من الفساد.