الغوار يحاور نفسه في انثيالات الشعر والطفولة والحياة

ما أكتبه من نصوص شعرية هي بمثابة المرآة التي أرى بها نفسي.
الكاتب يتناول عملية نشوء الفكرة وتبرعمها حتى تصبح جاهزة للكتابة
الكاتب يحاول أن يربط بين الطفل ورؤيته للحياة

"ما أكتبه من نصوص شعرية هي بمثابة المرآة التي أرى بها نفسي". 
بهذه العبارة يبدء طلال الغوار أولى مواضيع كتابه الجديد "انثيالات" الصادر عن دار أمل الجديدة ليضعنا أمام رؤية الكاتب لـ "الشعر، الطفولة، الحياة" عبر نصوص وجدتني وأنا اقرأها كأني أمام محاورة مع النفس للكشف عن تطلعات الشاعر ورؤيته لنصوصه وفعل الكتابة.
ولو وجدتني محاورا لطلال الغوار في حديث صحفي لا أجد أفضل من الأسئلة التي يمكن أن أستمدها من النصوص التي يضمها الكتاب، والتي وضعها الكاتب عبر فترات زمنية مختلفة.
في النص الأول الذي جاء تحت عنوان "مرايا" يجيب الكاتب عن سؤال: كيف تجد نصوصك الشعرية وما حكاية ذلك الطفل الذي يتردد فيها؟
يجيب الغوار بالعبارة التي افتتحنا بها موضوعنا هذا ويستدرك بالقول: لكني أجدني مشدودا بكل شغف إلى ذلك الطفل، وهو يتنقل بين مرايا نصوصي، فهو دائم الحضور.
ويحاول الكاتب أن يربط بين الطفل ورؤيته للحياة، فالطفل عند الغوار ليس ذلك الكائن الذي يتعامل مع الأشياء ببراءة فقط، بل أنه كائن "له القدرة في تغيير العلاقات التي تربط بين الأشياء، العلاقات المنطقية، يفككها، ويبعثرها، ثم يخلق لها علاقات جديدة بما تمليه عليه مخيلته". إنه الآن يضع رؤيته للكتابة التي تفترض عدم التعامل مع الأشياء كما هي بل خلقها من جديد برؤية طفل يعمل على تفكيكها قبل بنائها من جديد برؤية مغايرة. وهو ما يفصله في النص التالي الذي يأتي تحت عنوان "كتابة" حيث يتناول الغوار عملية نشوء الفكرة وتبرعمها حتى تصبح جاهزة للكتابة، وربما يكتبها في لحظتها أو يؤجلها إلى حين آخر كما تشاء هي (أي الفكرة) "فلا زمن محدد لكتابة القصيدة أختاره أنا، ولا مكان مفضل لكتابتها، وهي من تختار شكلها ولا إرادة لك في ذلك".

انثيالات تمتاز بالتداعي الحر في الكتابة المعبرة عن رؤى شفافة يقدمها الكاتب عن نفسه، وكأنه يضعنا أمام حوار طويل وصريح بين الكاتب وذاته 

هذا الأمر الذي يدفعنا إلى أن الكاتب لا يؤمن بطقوسية الكتابة. بمعنى أنه لا يوجد لديه طقس معين يضع عبره القصيدة، فمخاض الكتابة يمكن أن يكون في أي شكل أو وقت أو مكان، لاحدود تحد القصيدة إذا ما جاء وحي الشعر.
ويستمر الكاتب في توضيح رؤاه للكتابة الشعرية عبر النصوص اللاحقة التي يضمها كتابه "انثيالات" حيث يوضح تحت عنوان "البحث عن التكامل" رؤيته لموضوعة الحب في قصائده مبينا بأنه لا يعني تلك العلاقة العاطفية المحددة مع المرأة، فما يبحث عنه ويتعامل معه هو "رؤيا تكشف عن علاقة الغياب بالحضور، رؤيا التحدي من أجل الحياة، من أجل استمرارها، لكونه حاجة إنسانية روحية للبحث عن التكامل". إنه يقدم رؤية للحب تتسامى عن المعنى الجسدي الغريزي لتصبح "قدرة كامنة في العمق حالة للتمرد وللتحدي لكل ما يعيق حركة الحياة لتعميق بعده الإنساني، وما يساهم في تكامله مع الآخر، المرأة، الحبيبة، الذي لا يكتمل". 
والحب عنده يأتي مشابها للشعر لا يكتمل تفسيرها كما يذكر في نص "الخروج" أو نصل إلى حقيقتهما "فمهما أوغلنا فيهما كثيرا كي نشكل عنهما فهما معينا فأننا نواجه ما هو أبعد وأعمق مما وصلنا اليه، أو إننا لا نصل أبدا". فالحب والشعر بهذا المعنى هما ديمومتان مستمرتان لا يمكن الانقطاع عن التواصل معهما مهما حاول الشاعر أن يفعل ذلك، فالمعنى متدفق طالما الحياة مستمرة ولا يمكن الوقوف عند حد معين لنقول ها قد وصلنا إلى حقيقتهما، وهذا ما يمكن أن يفسر لنا تلك الاستمرارية بالحب والشعر منذ بدء الخليقة حتى اليوم. 

Iraqi poetry
92 نصا 

وهو بذلك لا يقف عند معنى من المعاني كون "الشعر وحده من يستطيع اقتحام خفايا الأعماق أو المناطق السرية فيها"، كما يكتب تحت عنوان "التعبير السامي" لذلك فالشاعر حين يكتب فأنه لا يعبر عن نفسه فقط ولا تكون القصيدة إلا عندما تنصر بمجموعة أصوات "لتخرج في صوت واحد متميز" ذلك أن أنفاس الشاعر تختلط مع أنفاس الآخرين وتتفاعل أحاسيسه مع من قرأ لهم شعرا أو نثرا أو تحدث معهم وعاشرهم ومشى معهم. هنا يقدم الكاتب رؤية للتناص في الكتابة فهي ليست فقط تمثلا لنصوص سابقة وإنما أيضا تلك المواقف والمفاجآت التي تجتمع فيها "الأرواح، الأنفاس، والخطوات والطرق الكثيرة التي قطعتها الطفولة، الوجوه، الحروب، ارتجاف القلب حين يلمح وجه الحبيبة وهي تومىء إليه بعينيها".
إن النص عند الغوار يتشكل من تلك الحياة التي عاشها والوجوه التي التقاها والأحداث التي مر بها لتختلط بما قرأ فيصبح النص متناصا مع مجموعة أصوات على الشاعر أن "يصهرها بنبرات صوته لتحخرج في صوت واحد متميز، يحمل بصمته".
وفي كل الأحوال مهما حاولنا أن نسبر غور الشاعر والكاتب طلال الغوار فأننا سنقف عند نقطة ما فهو يقر بأنه "لا يمكن الإحاطة الكاملة بمعرفة التجربة الشعرية للشاعر".
يقدم الشاعر طلال الغوار تجربته في كتابة الشعر عبر 92 نصا إذا ما استثنينا النص 93 والذي هو عبارة عن لقاء أجرته جريدة "الصباح الجديد" مع الشاعر.
وتتنوع النصوص ما بين النثر والشعر، وكلها تحمل ذلك الصوت الذي يريد الغوار أن يميزه سواء بكتابته للنصوص الشعرية أو برؤيته لتلك النصوص والتي يبينها لنا عبر انثيالات تمتاز بالتداعي الحر في الكتابة المعبرة عن رؤى شفافة يقدمها الكاتب عن نفسه، وكأنه يضعنا أمام حوار طويل وصريح بين الكاتب وذاته. 
صدر الكتاب عن  مؤسسة أمل الجديدة للطباعة والنشر والتوزيع سوريا ـ دمشق.