الفلاسفة وعام الوباء

الإنسحاب إلى البيوت هو الحل الأمثل لإكتساب فرصة حياة جديدة.
آراء مشاهير الفكر والأدب ورصدَ ما نشرَ لهم حول الحالة الوبائية
كلما تصاعدَ عدد المصابين نشب الخوفُ أظافره في العقول
يضمُ كتاب العراقي علي حسين أسماء من جنسيات متنوعة

زحف وباء كورونا نحو كل أصقاع العالم، وباغت الجميعَ بسرعة انتشاره، ومازادَ من غرابة الوضع وتفاقم من التوتر هو الأوبة من صومعة العلم بالصمت إلى أنَّ خيمَّ السكونُ على الجمتعمات، وتم وقف النشاطات الثقافية والرياضية، وحظرت إقامة الشعائر والطقوس الدينية في المعابد، فبالتالي تعولم الصمت، ولم تعد الحدود مفتوحة بوجه الحركة التجارية. كلما تصاعدَ عدد المصابين نشب الخوفُ أظافره في العقول. بالطبع تضاعف حجم المخاوف نتيجة تضارب التصريحات بشأن الأدوية المرشحة للتخفيف من حدة الوباء. وفي هذا المشهد المشحون بالتوتر انصرفت الأنظار من جديد نحو الفلاسفة والمفكرين. وتصدرت الأعمال الروائية التي تدور حول الآفة لائحة كتب أكثر مبيعاً، كأن ما يهم الإنسان في زمن متأزم هو البحث عن العزاء وتفادي الوقوع في فخ الخطابات التدجيلية من خلال إستعادة ما حلَّ بالبشرية من الكوارث على مرِ التاريخ. فيما سادَ الصمت وأصبح الإنتظار المشوب بالقلق مهيمناً على المناخ العالمي، دق الناقوس  إيذاناً بضرورة الإصغاء إلى صوت الفلاسفة، وتحول الإهتمام إلى السجل الفلسفي إذ دار النقاشُ على منابر الإعلام عن دور الفلسفة والأدب أمام التحديات الوجودية. وماذا عن النفع الذي يمكنُ للأدباء والفلاسفة إسداؤه للإنسان عندما يكونُ في مفترق الطرق.
تابعَ الكاتب العراقي علي حسين في كتابه الصادر حديثا بعنوان "مائدة كورونا" آراء مشاهير الفكر والأدب ورصدَ ما نشرَ لهم حول الحالة الوبائية معقباً بالتحليل على رؤيتهم ولافتاً إلى أسلوب حياتهم في ظل حصار فرضه عدو غير مرئي. 

philosophy
مشهد مشحون بالتوتر 

يضمُ المُؤلفُ أسماء من جنسيات متنوعة، كما أنَّ صاحب "دعونا نتفلسف" يفتحُ قوساً لآراء الخبراء من التخصصات المالية والإقتصادية، وهذا يمكنُ المتلقي من المعرفة بأبعاد مختلفة لواقعٍ وضعَ مصير البشرية على المحك.
أعراض الكارثة
استفاق العالمُ بأسره متفاجأً بمداهمة الجائحة، وبدا أنَّ الإنسحاب إلى البيوت هو الحل الأمثل لإكتساب فرصة حياة جديدة، ربما الحدث كان أقل غرابةً بالنسبة للمفكرين الذين سبقوا غيرهم في تبصر بوادر الأزمة، إذ صرح أمين معلوف بأشهر قبل الهجمة الوبائية بأنَّ الوضعية الحالية خطيرة، ولن يتمَ التفاعل معها إلا بعد هزة كبرى.
يفردُ علي حسين قسماً من كتابهِ لتناول أفكار مؤلف "سمرقند" مشيراً إلى محتوى مؤلفاته لاسيما "إختلال العالم" و"غرق الحضارات"، إذ أعيدت طباعة العنوان الثاني بعد انتشار الوباء مع إقتباس هذه العبارة النبوئية على الغلاف الخلفي "ستكون ضربة قوية لجميع الشعوب سوف يتم جر السفينة العالمية إلى موت رهيب، ويجب على الناس أن يستيقظوا على الفور". 
وفي سياق قراءته للواقع المتشبع بالقلق منطلقاً من معطيات فكرية وفلسفية يعودُ حسين إلى مقولات ماركس وصديقه أنجلز. ما يعنى بأنَّ أفكار الاثنين أفق لا يمكن مغادرته بخلاف ما روجهُ أتباع نيوليبرالية بأنَّ ما قدمه ماركس لا مكان له سوى في المتحاحف. لقد أبانت الظواهر البيئية الناجمة من تغول النظام الرأسمالي صحة ما توصل إليه  مؤسسا الشيوعية. فعلاً فإنَّ الرأسمالية لن تدمرَ الإنسان فقط بل كذلك الطبيعة التي تشكل مورداً لهذا النظام.
وفي إطار حديثه عن حيثيات الفلسفة الماركسية أوردَ علي حسين ما قالهُ نخبة من المفكرين المعاصرين عن فرضيات صاحب "بؤس الفلسفة" ناهيك عن السجالات التي أثارتها توقعات بعض الفلاسفة حول نفاد صلاحية الماركسية. إذ أدلى آلتوسير بدلوه رداً على هؤلاء "إن ماركس برغم كل شيء سيظل ذلك الذي يزعزع كل الفلسفات التقليدية من أساسها". وهذا يتقاطع مع رأي الفيلسوف الأسترالي بيتر سينغر، فبنظره لا يمكن لأي شخص أن يفكر في المجتمع والعلاقة القائمة بين الإقتصاد والوعي الإجتماعي دون الرجوع إلى ماركس.
التواضع المعرفي
ينتقلُ حسين في جزء آخر من كتابه إلى آلبير كامو الذي أعادت عدوى كورونا روايته "الطاعون" إلى مدار إهتمامات القراء من كل أنحاء العالم. يرى المؤلفُ بأنَّ ما يضمهُ عملُ كامو ليس قصة مجازية عن غزو النازية لفرنسا إنما صرخة تنذر بأنَّ البشرية قاب قوسين أو أدنى من الإبادة الجماعية، كأنَّ صاحب "الغريب" يوافق سينيكا في رأيه بأنَّه لا وجود لزمن آمن. والأهمُ بهذا الصدد هو ما يقترحهُ آلان دوبوتون حيثُ يطالبُ بالإفادة من وصية مونتاني إذ يرى الأخير أنَّ الشك هو طريق إلى المعرفة وغياب وسادة الشك يعادل الحرمان من حظوة رأس متوازن.
يُذكر أنَّ الفيلسوف الفرنسي إدغار موران ما انفك يتذكر جملة فلوبير "إقرأ مونتاني سيهدئك" يراودُ موران الأمل أن يفوز بسباق الحياة على كلود ليفي شتراوس الذي عاش مئة وعام. يعتقدُ إدغار موران بأنَّ محنة الإنسان المعاصر ناجمة من إختزال السياسة في الإقتصاد، وإختزل الإقتصاد أيضاً في جشع النيو ليبرالية. فبرأي موران أنَّ المفارقة الأساسية هي كلما زادت معرفتنا قلَّ فهمنا للكائن البشري.
أما سيلافوي جيجك فيذهب إلى إمكانية أن يكون الوباءُ عاملاً للتفكير في البدائل إذ كشف  وباء كورونا المستجد عن الأمراض الكامنة في المجتمعات على رأسها الأخبار المزيفة ونظريات المؤامرة  وإستفحال ظاهرة العنصرية والتفاوت الطبقي.
وبدوره يعبرُ هابرماس عن قلقه حول الخطابات المحشوة بالشحونات الشعبوية. ولا يرى الحل لما يسميه بمعضلة "مابعد الديموقراطية" إلا في أوروبا موحدة ومنتصرة لديموقراطيتها.

ينضمُ نعوم تشومسكي أيضا إلى التيار المعارض للرأسمالية المتوحشة موضحاً أنَّ أزمة فايروس كورونا هي جزء من كابوس رهيب يواجه العالم. يقولُ صاحب "من يحكم العالم" إن السلطة الحقيقية في مجتمعاتنا لا تكمن في النظام السياسي إنما الإقتصادات الشخصية هي مصدر السلطة ومن جهته يصفُ آلان تورين، وهو أحد أبرز المنظرين لمفهوم الديموقراطية، ما يعيشه العالم بأنَّه حرب غير متكافئة لأنَّ ما تتمُ محاربته عدو غير بشري.
وما يقولهُ المفكر اللبناني نسيم طالب بأنَّ تاريخنا قصة الأحداث الكبيرة التي لم يتوقعها أحد يؤكدُ أهمية التواضع بوصفه قيمة إنسانية والحال هذه فإنَّ الفلسفة هي ما تحمي المفاهيم العلمية من الجنوح نحو غرور المطلق.
كما أنَّ الأدب يغذي الحس الإنساني أكثر، يعتقدُ إكتور آبار فاسيولينسي أنَّ قساة القلوب يفتقرون إلى الخيال الأدبي.
الثغرة
يتفقُ الأدباء والفلاسفة على أنَّ الوباء قد نزع الأقنعة على مساويء النظام العالمي، وقد أدرك الجميعُ بأنَّ مقابل تضخم في الإنتاج الحربي ثمة عجزُ وفشل في توفير الأدوات الطبية. 
يرى الطاهر بن جلون أن أزمة كورونا قد أبانت قصور النظر لدى الدول الكبرى وسلطت الضوء على الجزء المخجل حين تخلت بعض البلدان عن الضعفاء. وما تمر به الولايات المتحدة الأميركية لا يمكن وصفه إلا بالفوضى برأي بول أوستر، كما يشخص مشيل أونفري محنة الغرب في غياب القيم الروحية وإستبدالها بعجل من الذهب سماه الإقتصاد.
أما إليف شافاك فتلفتُ الإنتباه إلى أن فايروس فضح أكذوبة الحرية والوجه القاتم لعدم المساواة في مجتمعاتنا. 
فضلاً على ما سبق ذكره ينتقلُ زمام الحديث حول مائدة كورونا بالسلاسة بين أسماء أخرى منها طارق علي وريجيس دوبريه وأورهان باموك وجوديث بتلر وأرونداتي روي.
وما يشار إليه أنَّ هذا الكتاب منتظم وحداته بحس صحافي مطعم بتذوق أدبي رفيع، هذا إضافة إلى ما يلمسهُ فيه المتلقي من العمق الفكري.