الفلسفة والمقاومة

مفهوم المقاومة يستعيد هذه الأيّام بريقه ونشاطه الدلالي والرمزي على إيقاع ما يعيشه الشعب الفلسطيني من نضالات يومية.
الفلسفة فعل مقاومة بامتياز شريطة أن تكون سلوكا نضاليا لاحتلال الفضاء العمومي
الكواكبي: أمّة ما لا تشعر بآلام الاستبداد هي أمّة لا تستحق الحرية
الفلسفة فعل تمرّد ومخاطرة وليست تحذلقا أكاديميا ووعظا أخلاقيا بائسا

يستعيد مفهوم المقاومة هذه الأيّام بريقه ونشاطه الدلالي والرمزي على إيقاع ما يعيشه الشعب الفلسطيني منذ قرابة شهر من نضالات يومية ضدّ سياسات الاحتلال الصهيوني الغاشمة. ذلك أنّه بقدر ما تستفحل السلطة في قهر شعب ما بقدر ما تقوى المقاومة وتزدهر وتنتصر. تلك هي مفاعيل السلطة نفسها بحيث تنتج حيثما تُمارس أشكالا من المقاومة المعادلة لقوّتها وبطشها. غير أنّ مفهوم المقاومة يكتسح اليوم دائرة جولان المعاني في الفضاء العمومي بحيث نتكلم عن مقاومة وباء كورونا عبر إجراءات صحية دقيقة، وعن مقاومة الإرهاب، وعن المقاومة النسوية للهيمنة الذكورية ومقاومة الفساد لدى الطبقات السياسية، وعن مقاومة الفقر والتصحير الثقافي والبطالة وعن مقاومة الاحتباس الحراري على المستوى الإيكولوجي ومقاومة الإمبريالية وحضارة الاستهلاك والحروب الدائمة على مستوى عالمي. ومقاومة  حالة اليأس والبؤس والحمق المعمم التي تصيب الإنسان المعاصر أو ما تبقى من الإنساني فيه في حضارة لاإنسانية بامتياز.
ولقد أنتج تاريخ المقاومة أيقونات نموذجية رفعت بعض المتمردين والثوريين إلى رموز خالدة في ذاكرة الشعوب من قبيل سبارتاكوس والشعراء الصعاليك وروزا لكسمبورغ وتشي غيفارا والكواكبي وناجي العلي وغسان كنفاني وحسين مروة وشكري بلعيد. من بينهم من اضطهد وآخرون تمّ اغتيالهم.
وبعامة بوسعنا القول إنّ مفهوم المقاومة هو مفهوم متعدد الدلالات والمجالات. وهو ينتمي إلى عائلة مفهومية تتّسع لمفاهيم الاحتجاج والمعارضة والتمرّد والعصيان والثورة والانتفاضة. ينتمي هذا المفهوم إلى مجالات متعددة سياسية وثقافية ونفسية واجتماعية ونسوية. لكنّ ما يهمّنا في هذا المقال هو علاقة الفلسفة بالمقاومة بوصفها  شكلا من مقاومة الجهل والتعصّب والغطرسة الدينية والإيديولوجية من جهة، ومن جهة أخرى بوصف حق المقاومة هو مفهوم أنتجته الفلسفة السياسية الحديثة تحديدا. 

الفلسفة لم تصبح في أوطاننا بعدُ سلوكا نضاليا وبقيت سجينة جدران المدارس والجامعات. المطلوب هو تحريرها وجعلها آلة حرب على كل قوى الظلام

سيهتم هذا المقال بالاشتغال على التعريف بمفهوم المقاومة بوصفه أحد أهمّ المفاهيم السياسية التي تجعل ثقافة التمرّد ممكنة خاصة في عالم السلع الذي يؤسس أجهزته على قيم الاستهلاك والسلبية والاكتئاب المعولم. وبالتالي فالحاجة إلى نشر قيم المقاومة عاجلة وراهنة إن أردنا الدفاع عن الأفراد التابعة والشعوب المرتهنة بقرارات البنك الدولي والمحتلة بشكل مباشر أو غير مباشر. وبالتالي المراهنة أيضا على استعادة كرامة الإنسان الذي يتمّ سحقه بمكنة إمبريالية السوق وتحويله إلى كائن هشّ وغير قادر على تغيير العالم.
إنّ الفلسفة فعل مقاومة بامتياز لكن شريطة أن تكون سلوكا نضاليا لاحتلال الفضاء العمومي وإبداع هندسات جديدة لمواطن القول والصمت والضجيج والمرئي واللامرئي. وكل الخطط التي تتمّ في الغرف السوداء من أجل اعتقال الشعوب وبيع الأوطان والاتّجار بالبشر أيضا.
تاريخ المفهوم
من المعروف بصفة عامّة أنّ المقاومة كمفهوم فلسفي لم يولد بشكل حاسم إلاّ في العصر الحديث مع ظهور الدولة الحديثة والمواطنة ضدّ التصورات الرعوية والجماعوية لإدارة شؤون الحياة المشتركة. ظهر مفهوم المقاومة مع الفيلسوف الإنكليزي جون لوك (1632-1704). وهو الفيلسوف الذي أسّس الليبيرالية ومفهوم الحكومة المدنية المضادة للسلطة المطلقة. في نص له بعنوان رسالة في الحكومة المدنية بتاريخ 1689 يظهر مفهوم حق المقاومة الذي يعني أنّه من حقّ الشعب أن يقاوم كل أشكال قمعه. 
وفي الحقيقة من أجل الحديث عن الحق في المقاومة وعن مفهومة الشعب والعقلانية السياسية لا بدّ من المرور بميكيافيلي الذي يؤسس مجال السياسة ويحرّره من دولة الحق الإلاهي، ومن بعده هوبز الذي يكتشف مفهوم السلطة ويعتبر أنّ سلطة الدولة سلطة مطلقة لا يجوز مقاومتها بوصفها العنف الشرعي الوحيد ضدّ حالة الطبيعة القائمة على حرب الكل ضدّ الكلّ. وفي الحقيقة أنّ القول بالحق في المقاومة لم يكن ممكنا رسميا إلاّ إبّان الثورة الفرنسية (1789) وضمن الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان والمواطن وهو ضمن آخر الحقوق الأربعة أي الحرية، الملكية، الأمن، المقاومة. 
أمّا عن العصور القديمة والوسيطة فلقد شهدت حروبا وفتنا لكن لم تكن فيها مقاومة سلطة الملوك والأباطرة أمرا مشروعا بل كان كل خارج عن سلطة الملك بمثابة المهدور دمه والملعون حيثما حلّ. وفي هذا السياق نشير إلى أنّ المخيال العربي الإسلامي الوسيط لم يعرف من المقاومة إلاّ مفهوم الفتنة، ولم يكن غير استئناف لنظريات الحق الالاهي التي تحرّم خروج أيّ شخص عن سلطة الخليفة إلاّ وتمّ قطع رأسه أو نبذه والحكم عليه بالخروج عن الملّة. وفي الحقيقة لقد كانت العصور الوسطى المسيحية والإسلامية مسرحا لحروب الأديان والغزوات بالسيف والدم وهي بذلك ظلّت لقرون مستودعا ضخما لدول خليفة الله في الأرض التي كان فيها الأباطرة والطغاة يعتقدون أنّه مادامت كل سلطة منبثقة عن الله، فإنّ كل عصيان لها هو عصيان لله أيضا. وهو أمر جعل فكرة المقاومة في الثقافة الوسيطة مستحيلة.
ويذكر أيضا أنّ فترة ما قبل الإسلام القائمة على سلطة شيخ القبيلة كانت أيضا تخضع لتصوّر جماعوي لا مكان فيه للتمرد على قيم القبيلة أو عصيانها. ورغم ذلك مثّلت ظاهرة الصعاليك أنموذجا عربيا أوّليا للمقاومة فكان منهم شعراء وفرسان يأخذون من الأغنياء ويطعمون الفقراء ويتمرّدون على سلطة قبائلهم منهم شعراء مشهورون مثل الشنفرى وتأبّط شرّا وعروة ابن الورد وغيرهم. كما مثّلت ثورات وانتفاضات من قبيل ثورة سبارتاكوس العبد الروماني ومصارع الوحوش س.73 ق.م مثالا تاريخيا عن أوّل براديغمات المقاومة لبطش السلطة وقهرها واستعبادها للبشر.
ومثّلت أيضا ثورة القرامطة (899) أبرز حركة مقاومة اجتماعية وسياسية للحكم العباسي واعتبرها بعضهم أولى الثورات الاشتراكية في العالم، إضافة إلى ثورة الزنج التي اندلعت في منتصف القرن التاسع الميلادي في البصرة ضدّ الخلافة العبّاسية أيضا ودامت قرابة أربعة عشر عاما، وتمّ اعتبارها كأطول ثورات العصر العبّاسي وأخطرها أيضا. وفي التاريخ الحديث يمكن اعتبار كتاب الكواكبي "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" أهمّ حدث فكري لتأسيس مقاومة لدولة الاستبداد السياسي الذي استفحل في عصر انحطاط الامبراطورية العثمانية في عهد السلطان عبدالحميد الثاني (1876-1909). ولقد قاوم عبدالرحمان الكواكبي أحد روّاد النهضة العربية ومفكّريها مظاهر الفساد والاستبداد بالكتابة الصحافية أوّلا وباستثمار المناصب التي تولاّها في الإصلاح. ولقد كان الكواكبي يعتقد أنّ "أمّة ما لا تشعر .. بآلام الاستبداد .. هي أمّة لا تستحق الحرية". وكان يعرف أيضا أنّ الاستعمار إنما هو دوما نتيجة للاستبداد. وأخيرا علينا أن نشير إلى تجربة الفلاّقة كأهمّ براديغم سياسي تونسي وجزائري حديث في مقاومة الاستعماري الفرنسي. أمّا المقاومة الفلسطينية اليوم منذ واقعة حي الشيخ جرّاح فهي براديغم المقاومة للاحتلال بامتياز.
فكرة المقاومة في الفلسفة السياسية الحديثة:  
في كتاب الأمير يقع تأسيس مجال السياسة (1532) أي مجال الحياة المدنية التي لا تستقي معاييرها إلاّ من الأفراد أي من المصلحة الخاصة. بحيث يقع تحرير مجال السياسة من نظريات الحق الإلاهي. إنّ ميكيافيلي بهذا المعنى لا يعتقد في معايير طبيعية أو إلاهية تدفع الناس للعيش معا. معناه أن المصلحة الخاصة وليس حبّ الآخر هو الذي يدفع إلى الحياة المشتركة. وحدها إذن المصلحة الخاصة تضمن المصالحة بين الحرية وطاعة الدولة. بحيث تكون الدولة هي الضامنة للحرية وللأمن معا لذلك هي تطالبنا بطاعتها. أمّا بالنسبة إلى هوبز (1651) فهو قد جعل مفهوم السلطة مفهوما أساسيا بحسب ليوستراوس وذلك انطلاقا من فرضية حالة حرب الكل ضدّ الكل التي تجعل عنف الدولة العنف الشرعي الوحيد. وبالتالي لا يسمح بمقاومة سلطة الدولة المطلقة لكن هوبز يحدثنا رغم ذلك عن حق طبيعي في مقاومة القمع.

وعلى عكس هوبز يحدّثنا روسو في العقد الاجتماعي (1762) عن سقوط الدولة حينما يستعمل الملك سلطته على نحو غير شرعي. بحيث إنّه حينما تخترق الدولة السيادة بوصفها تعبيرا عن الإرادة العامة يسقط العقد الإجتماعي. بالنسبة إلى روسو ثمّة الكثير من المفارقات: فهو من جهة يرى أن الديمقراطية غير ممكنة إلا متى أصبح للشعب إمكانية التعبير والنضال عن القضايا التي تهدد ممارسة الحرية، ومن جهة أخرى شرعية التمرّد على السلطة تتجلى فقط في منح المواطنين إمكانيات للتعبير والنقد لكل تهديد للحريات. وتبقى عنده الديمقراطية غير ممكنة إلا بسيادة الشعب بوصفه مشرّعا للقوانين ومنفذا لها معا.
أمّا كانط  فيلسوف التنوير الذي رفع عاليا صوت العقل جاعلا من عبارة "تشجّع على استعمال عقلك" شعارا لعصر برمّته، فهو لا يعترف بحق المقاومة إذ يكتب أيضا "فكّروا لكن أطيعوا". ولم يندّد صراحة بالاستبداد إنّما اعتبر القدرة على التحرّر هي قدرة المرء في الخروج من حالة القصور التي يسببها الجبن والكسل إلى حالة الرشد أي التحرر من وصاية المرشد الروحي والكتاب والطبيب. واعتبر الحرية بذلك سلوكا نظريا وعمليا معا قائما على تصور أخلاقي للإنسان وجاعلا من التنوير أيضا تقدّما أخلاقيا نحو الخير الأسمى. ولقد اعترض بشكل صريح في كتابه "ميتافيزيقا الأخلاق" (1796) على حق المواطنين في مقاومة الحاكم قائلا في الفقرة 49 من ميتافيزيقا الحق "ليس ثمّة ضدّ المشرّع الأسمى للدولة أيّة مقاومة شرعية، لأنّه فقط عبر الخضوع لإرادته الكونية المشرّعة تكون دولة القانون ممكنة"، لكنه من جهة أخرى يجعل فكرة المقاومة في كتاب نقد ملكة الحكم في الفقرة 28 تحديدا فكرة جمالية معتبرا أن الشعر بوصفه ضربا من السمو نحو مقام الأفكار الجمالية (الفقرة 53) هو ضرب من مقاومة حدود المخيلة في تمثل ما لا قدرة لها على تمثله. فالشعر هو القدرة على الخروج عن حدود المخيلة إلى مجال الفكرة الجمالية وهو ما تعبر عنه فكرة الرائع.
المثقف والمقاومة:
المقاومة فعل فلسفي بامتياز يرتبط بالسلطة حيثما تجسدت في علاقات أو مؤسسات أو خطابات بحيث يمكن القول مع ميشال فوكو بأنّه "ليس ثمّة علاقة بالسلطة دون علاقة بالمقاومة". ولقد اعتبر فوكو منذ مقدمة الكلمات والأشياء أن مهمّة الفلسفة هي "زعزعة كل السطوح المنظمة والخطط التي تعقّل لنا التدفق الغزير للكلمات وتجعل ممارستنا القديمة للذات وللآخر ترتعش وتقلق لمدة طويلة..". وهذا المشروع تطلب اقتراح فلسفة مقاومة تقوم على التمييز بين أشكال وأنماط عديدة تجد في مضادّة السلطة وزعزعة أشكال اليقين الاجتماعي والشخصي ثمّ في اختراع سياسات جديدة للحقيقة وفي العناية بالذات وإبداع فنّ الحياة بعضا من تجلياتها.
من أجل فهم هذا المفهوم الفلسفي الطريف للمقاومة كفعل فكري وثقافي نتوقف عند تصور ميشال فوكو للعلاقة بين السلطة والمقاومة الذي يميز  بين خمسة أنماط من المقاومة: المقاومة الأدبية - المثقف الخصوصي - الأشكال النموذجية للسلطة المضادة - الإتيقا الصغرى - ممارسة الفلسفة على نحو مغاير. ويعتبر أنّ كل شكل من المقاومة له أهدافه واستراتيجياته الخاصة وهذه الأنماط من المقاومة ليس لها بعدٌ شمولي ولا يمكن أن ننسبها إلى أيّ إيديولوجيا بعينها. وتقوم هذه الأشكال من المقاومة على تصوّر جديد للسلطة قائم على ميكروفيزياء السلطة ضدّ التصوّر الكلاسيكي الذي يختزل السلطة في مؤسسات الدولة. ويؤسس فوكو العلاقة بين السلطة والمقاومة على العلاقة بين الذات والحرية. غير أنّ الذات المقصودة هنا ليست الذات المعرفية ولا الذات المريضة التي يتحدث عنها التحليل النفسي. إنّما يتعلق الأمر عنده بالذات في سياق اجتماعي وداخل علاقات السلطة. وبالتالي لا يمكن فصل الذات عن السلطة. وهنا لا يتعلق الأمر أيضا بذات كونية بل بذات متعددة وداخل مجالات متعددة وكل مجال يحيل على تجربة فريدة من قبيل الجنون أو المرض أو الجريمة أو الجنسانية أو الموت.
يتعلق الأمر إذن باستراتيجيات مقاومة للمجتمع الذي بوسعه السطو على الذوات، لكن الذوات يمكنها أن تقاوم، وأن تفعل بشكل حرّ ضدّ كل أشكال موضعتها أي التسلط عليها. وتتمّ هذه المقاومة انطلاقا من المقاومة الأدبية التي اكتشف فوكو أهميتها في عمله على كتابات رايموند روسل (1963). فالأدب يحرّر اللغة من سردية السلطة برفضه الخطاب السائد واختراعه لغة جديدة. أي أنّ الأدب هو مقاومة حقيقية للنظام الخطابي أو العقلي بهدف البحث عن "خارج" ما يتجسّد في تكاثر المساحات وتسريح المدى وإطلاق المسافات. أمّا عن المثقف الذي ترتسم ملامحه ههنا فهو المثقّف الخصوصي كنمط من أنماط مقاومة السلطة، وهذا المثقف مطالب دوما باختراع أشكال جديدة من النضال ضدّ السلطة. وتتمثل هذه المقاومة في نقد لعبة المؤسسات التي تبدو محايدة ومستقلة. بحيث يقع فضح العنف السياسي الذي يُمارس تحت راية البديهيات. إنّ المثقف هو من لا ينفكّ عن نزع الأقنعة عن طمأنينة المؤسسات الزائفة والنضال ضدّها. وهذا يعني أيضا أنّ دور المثقف إنّما هو زعزعة أشكال الحقيقة التي تظهر كما لو كانت بديهية وتحت رايتها تندسّ ممارسات السلطة في الوقت ذاته. وهكذا يتمّ مع فوكو تجاوز مفهوم المثقف الكوني الذي يبحث عمّ هو نموذجي ويسلك كما لو كان وصيا على عقول الناس وعلى فكرة الحقيقة، من أجل تأسيس نموذج جديد للمثقف بوصفه مقاوما للسلطة عبر انخراطه ضمن مجالات نضالية محدّدة، هي نضالات أفقية ومباشرة وقطاعية ويومية ومحلية. لا يتعلق الأمر في هذا التصور للمقاومة بنضالات طبقية إنّما بسلوك فلسفي يجعل فعل الفلسفة مقاومة لكلّ أشكال إخضاع الذات والسطو على الحياة.

إعادة الثقة إلى الفلسفة كفعل سياسي عمومي يعيد للفيلسوف القدرة على اختراع مفاهيم وأحداث وحقائق جديدة مناسبة للأزمات التاريخية الحالية

خاتمة:
إذا أردنا ألاّ تُنتهك أوطاننا وألاّ تستعمر شعوبنا ثانية تحت أيّة راية دينية أو إمبريالية أو كولونيالية، وإذا أردنا ألاّ يستأنف الغرب احتقارنا، يمكننا التفكير في سياسات جديدة للفضاء العمومي وتواصلية جديدة تجعل من قيم المقاومة رهانا أصليا لها. وهنا نقصد مفهوما دقيقا للمقاومة يتّخذ من كل أشكال الإبداع ومنها الفلسفة بما هي مقاومة وتفكيك وفضح لكلّ أشكال السطو على العقول والمشاعر إمكانية لإنتاج أشكال جديدة من الذوات المبدعة لفنّ الوجود ولشكل مغاير من الحياة معا. 
لم تصبح الفلسفة في أوطاننا بعدُ سلوكا نضاليا وبقيت سجينة جدران المدارس والجامعات. المطلوب هو تحريرها وجعلها آلة حرب على كل قوى الظلام. وربّما علينا أن نستعيد هنا التمييز الذي صاغه الفيلسوف أنطونيو نيغري بين "الرجعيين الذين يختزلون ركح العالم في بهرج استطيقي.. والثوريين القادرين على نقد العالم لأنّهم في علاقة حقيقية مع الوجود". لنكن إذن في علاقة حقيقية مع الوجود ولنؤمن أنّ "تغيير العالم" مهمّة لا تنتهي.
في كتابهما الذي صار الأكثر شهرة في الفلسفة السياسية المعاصرة بعنوان "الإمبراطورية"، يذهب ميكائيل هاردت وأنطونيو نيغري إلى أنّ النظام العالمي الجديد يتميّز بأمرين متناقضين: من جهة حالة الحرب الشاملة القائمة على تراكم رأس المال، ومن جهة ثانية انبثاق أشكال جديدة من الذاتيات المقاومة أو من المسارات البيوسياسية للتذاوت وذلك في أفق مقاومة أشكال التمثل المعاصرة ورفض البؤس المعولم. وفي هذا السياق يمكن بحسب نيغري استعمال أجهزة التواصل الرقمية كأشكال جديدة من المقاومة، ومن استعادة قدرة الجموع ما بعد الحديثة على إبداع المشترك. لكن كيف يمكن إبداع أشكال جديدة من الحياة المشتركة تقاوم التصحّر الذي هيمن على حداثة السوق وبرودة إمبريالية السلع؟ بإعادة قدرة الجموع على إبداع مشاعر الفرح عبر الحبّ والفنّ الذي بوسعه أن ينقذ العالم من السقوط في الفراغ.
من أجل تنضيد مفهوم مناسب لفلسفة المقاومة نقترح  الأفكار الاستكشافية التالية:
أوّلا: إعادة الثقة إلى الفلسفة كفعل سياسي عمومي يعيد للفيلسوف القدرة على اختراع مفاهيم وأحداث وحقائق جديدة مناسبة للأزمات التاريخية الحالية.
ثانيا: ألاّ يتخلى الفيلسوف عن العالم بأن يظلّ وفيا لفكرة إمكانية تغيير ما يحدث لأنّ ما حدث لن يكون أبدا قدرا لشعب ما. إنّ الرغبة في المستحيل هي شعار فلسفة المقاومة.
ثالثا: الفلسفة فعل تمرّد ومخاطرة وليست تحذلقا أكاديميا ووعظا أخلاقيا بائسا.
رابعا: تحويل الفلسفة إلى فعل عمومي والجرأة على مقاومة كل عملية اعتقال لها في جبّة الاختصاص الضيق كما لو كانت معبدا. فالفلسفة ليست معبدا لأحد.