الفن والوظيفة الخلاصية

الإيمان لا يفسرُ وفق المنطق العقلاني بقدر ما هو حاجة لا يملك المرءُ حيالها سوى الإنتساب إليها.
تفكيك ظاهرة العنف المقدس لا يتم من خلال تهميش الدين
الفنان لا يقدم الأشياء الجميلة بل يقدم لنا رؤية جميلة للأشياء

نزع السحر عن العالم هو من أبرزُ ما يتصفُ به مشروع الحداثة حسب رأي دوركايهم، واستببعَ التحول نحو العقلانية إقصاء المقدس، لكن ذلك لم يقضِ على مفهومه بل ظهر متلفعاً بأردية جديدة ما يعني أنَّ النفس تؤمن بالطبع، ولو انعدمت المواضيع الحقيقية تتعلقُ بالباطل حسب رأي باسكال. إذاً فإنَّ الإيمان لا يفسرُ وفق المنطق العقلاني بقدر ما هو حاجة لا يملك المرءُ حيالها سوى الإنتساب إليها وفق كلام الفيلسوفة جوليا كريستفيا. وهذا الرأي يتقاطع مع ما يقوله الفرنسي فريدريك لونوار بأنَّ العقل المنطقي لا يمكنه أن يفسر كل شيء، ويرى كانط بأنَّ الإعتقاد هو موافقة كافية من الوجهة الذاتية فحسب وأن تبدو ناقصة من الوجهة الموضوعية، غير أنَّ الأزمة لا تكمنُ في الحاجة إلى الإيمان أو الإعتقاد بل تحل الكوارث نتيجة المساعي الرامية إلى نبذ الآخر والمشيئة الإلغائية التي ترفض من لا يؤمنُ بمنطقها في رؤية المعطيات والظواهر .
الإنسداد العقلي
ينطلقُ التطرف من منصة المقدس سواء أكان دينياً أو غير ديني، ومن المعلوم أنَّ التيارات المتطرفة على امتداد التاريخ قد خاصمت المثل والقيم التي تعبرُ عن التطلعات الجمالية لدى الإنسان. لذا يشنُ أنصارُها حرباً لاهوادة فيها على الفن بكل أنواعه وذلك قبل أن يطالَ التحريمُ إلى ما يخالفُ تفكيرهم لنمط الحياة ومنهج التعليم ومباديء العقيدة. وبذلك يتمُ انسداد الأفق العقلي وتتراوحُ الإختيارات بين المحرم والحلال ويعهدُ بحق التفكير وإرادة التصرف بالمصير إلى فئة أو حزب أو جماعة، وهذا ليس إلا تفكيراً مستقيلاً  حسب عبارة جورج طرابيشي. 
في الواقع أن تفكيك ظاهرة العنف المقدس لا يتم من خلال تهميش الدين لأنه كلما خلت السماء من الآلهة انقلب المقدس إلى الأرض عازلاً البشر عن كل طيبات الأرض، ومن ثمَّ يتحول سطح الأرض الذي يسكنه الآخرون إلى جنة يتعذر بلوغها،، وفق رأي رينيه جيرار، كما أنَّ الحداثة بوجهها التقني زادت من اغتراب الإنسان بحيث تحول إلى كائن أحادي البعد، وأصبح عزاؤه الوحيد هو المزيد من الإستهلاك، ولكن ماذا عن التمثلات الأخرى للحداثة غير ما يعبرُ عنها التطور الصناعي والتكنولوجي؟ 
تؤكدُ الباحثة التونسية أم الزين بنشيخة المسكيني في كتابها "الفن والمقدس" على أنَّ نشوء مفهوم الحداثة كان من ضفة مغايرة، إذ أنَّ الحداثة مفهوم وقّعه نص للشاعر الفرنسي بودلير، وهذا ما أقر به أدرونو أيضاً لافتاً إلى أن صاحب "أزاهير الشر" مخترعاً للحداثة.
واستقرأ بودلير ملامح الحداثة في أعمال الرسام الفرنسي كوستنتين غويس الذي كان مغايراً في أسلوبه لسنن أسلافه، فقد اختار موقعه حذو الحشود والعالم برمته، نقل بفنه التفاصيل وهيجان الجموع المحبة للمساواة. وإذا نجح المرءُ في فهم مشروع الحداثة من المنطلق الفني وتم تشذيبه من الشوائب الأداتية فهل بالإمكان مداواة العقائد الدينية من التطرف بالحس الفني؟ 

بدايةً لا بدَّ من الإشارة إلى أن عملية نسف التحف والتماثيل وإحراق اللوحات الفنية من ديدن الأنظمة الشمولية والنفسيات الموتورة. فبنظر الكاتب الكولومبي إكتور آبار فاسيولينسي أنَّ قساة القلوب يفتقرون إلى الخيال الأدبي. تشيرُ بنشيخة المسكيني إلى أنَّ الحرب الثقافية التي قام بها تنظيم داعش على متاحف الموصل ومكتبتها ومعابدها تذكرنا بواقعة حرق لوحات فان غوغ وكاندنسكي وبول كلي وإتلاف 4000 لوحة في عهد النازيين وتحريم الموسيقى في ظل نظام الطالبان بأفغانستان.
 هنا نضيف ما تناولتهُ الكاتبة العراقية لطفية الدليمي في إحدى مقالاتها عن محاولات بعض الأطراف لإزالة جدارية جواد سليم غداة غزو بغداد، كما أنَّ ميلان كونديرا لم يفته التلميح إلى تطويع الفن للأغراض الآيدولوجية والترويج للصنمية في النظام الشيوعي بنسخته السوفيتية، وبدوره توقف الكاتب الصيني دي سيجي في روايته المعنونة "بلزاك والخياطة الصغيرة" عند الشبهة التي تثيرها رؤية الآلة الموسيقية لدى المأمور المحشو رأسه بتعاليم القائد الأوحد. إذاً فإنَّ ما يجمعُ بين الفقيه الداعشي والمأمور الشيوعي والضابط النازي والمتشدد المذهبي وترتيليان هو كراهية الفن، فيما الفنان أو الشاعر برأي هولدرلين هو من يقتفي أثر الآلهة في الوجود حينما يطول بؤس العالم. ويقول رينيه جيرار أنَّ كل أدب إنما في جوهره بحث عن المقدس.
بيت الوجود
قد لا يستغرقُ البحث عن الشواهد التي تؤكدُ دور الفن وتأثيره في مصير الحياة كثيراً من الوقت فيكفي التذكير بأنَّ كلمة بعض الشعراء قد كلفتهم ثمناً باهظاً، إذ شنق لوركا رمياً بالرصاص لأنه أبي أن يكون مجنداً في جيش فرانكو، كما تمكن محمود درويش من تحويل قضية شعبه إلى سؤال وجودي متغلغل في مسامات الضمير العالمي، واعترف شارون بأنه معجب بما نشره درويش بعنوان "لماذا تركت الحصان وحيدا"، ما يعني أنَّ خيار الإقامة في الشعر أو الفن هو البديل للأهوال التي تداهم البشرية. 
ولعلَ ما يشتركُ فيه الفن والدين هو أنَّ البحث عن المعنى والإنعتاق من الأطر المحددة هو ما يبحثُ عنه كل من الفنان والمتصوف الذي يبصر أبعد من القشور الظاهرية. 
وأخيراً وكلامنا يدور حول الفن فلا يصحُ تجاهل الموسيقى التي ترافق الشعائر الدينية بأشكال وألوان مختلفة وتمثلُ سمو الروح وصفاء التذوق وشكلاً لمعانقة الحياة بكل تناقضاتها  لذا ما أن تقع على مسمعك معزوفة لإلياس الرحباني الذي رحل عن عالمنا قبل أيام حتى تتفاعل بكل مشاعرك مع نغمات لن يكون مصدرها إلا عبقرية الفنان، في ذلك تتحق وظيفة خلاصية إذ يتحرر الإنسان من إكراهات الواقع، ولا تمر ذكريات الماضي إلا وهي بخفة الفراشة. والفنان كما يقولُ المفكر المغربي سعيد ناشيد لا يقدم الأشياء الجميلة بل يقدم لنا رؤية جميلة للأشياء.