الفينومينولوجيا عند هوسرل

الفيلسوف التشيكي أدموند هوسرل جاء لينهي الصراع بين الذات والموضوع بتوحيد المذهبين التجريبي والعقلاني في وحدة منهجية ذات نسق علمي.
هوسرل حاول أن يجعل من الفلسفة علماً كلياً دقيقاً يكون أساسًا لكل المعارف والعلوم والممكنة
العلاقة التاريخية بين الفلسفة في صورتها الغائية الكلية، والعلم في نتائجه اليقينية

بعد أن اشتد الصراع الفلسفي بين الذات والموضوع منذ بدايات عصر النهضة، وحتى بداية القرن العشرين، جاء الفيلسوف التشيكي أدموند هوسرل (1859-1937) لينهي هذا الصراع بتوحيد المذهبين التجريبي والعقلاني في وحدة منهجية ذات نسق علمي انعطفت بالفلسفة ومسارها إلى مركزية الوعي عند الإنسان ودراسة تجليات الشعور تجاه العالم والأشياء، وحاول أن يجعل من الفلسفة علماً كلياً دقيقاً يكون أساسًا لكل المعارف والعلوم والممكنة، وبناء على العلاقة التاريخية بين الفلسفة في صورتها الغائية الكلية، والعلم في نتائجه اليقينية، وأثر كل منهما على تاريخ ومستقبل البشرية؛ يمكن تصنيف المعرفة إلى صنفين:
الأولى: معرفة تراكمية، وتدخل ضمن نطاقها المعارف الفلسفية والفنون والآداب، يمكن أن تتكرر أفكارها وتتجاور في مختلف العصور التاريخية، وأحيانا ً يتجلى الإبداع فيها على الشكل والأسلوب وطريقة المعالجة وفقا ًللزمن الذي تتحرك فيه.  
والثانية: هي المعرفة اللا تراكمية، وأبرزها العلم والاكتشافات العلمية، حيث يمحو الجديد كل قديم سابق عليه، ويتمثل في اكتشاف المزيد من المعارف الجديدة التي كانت خافية عنا، ولا يمكن أن تتجاور، أو تتكرر موضوعاتها المكتشفة عند العلماء على طوال تاريخ العلم.
إذا كانت موضوعات الفكر البشري تناولها الفلاسفة والمفكرون منذ آلاف السنين، بحيث إنهم  لم يتركوا ظاهرة دون فحص، ولا فكرة دون درس، أو مشكلة دون حل، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، إنسانية، أو طبيعية ، يحق لنا أن نسأل: 
ما هو الجديد الذي يمكن أن يضاف للتراث الفلسفي؟ وهل حقًّا انتهى عصر التفلسف وابتكار موضوعات جديدة في الفلسفة؟
إن من الصعب حاليا ًإضافة موضوعات جديدة إلى الفلسفة، بحيث تم تقريبا استهلاك غالبية  الموضوعات الممكنة طوال العصور التاريخية للفكر الفلسفي. إن ما يمكن أن يضاف إلى الفلسفة هو طريقة المعالجة وأسلوب بناء المذهب، وذلك لأن تكرار موضوعات التفلسف أصبح حقيقة واقعة في الفلسفة المعاصرة. 

philosophy
نسق جديد في الفلسفة

الفينومينولوجيا والمؤثرات السابقة لهوسرل 
انقسمت فلسفة هوسرل قبل الفينومينولوحيا إلى ثلاث مراحل: 1- علم الحساب 2- علم المنطق 3- علم النفس. ويمكننا تتبع مسار المنحنى الفكري  لتطور فلسفة هوسرل قبل الفينومينولوجيا، مستهلا ًاهتمامه في المرحلة الرياضية بالفعل النفسي حسب معناه التجريبي، ثم التحول إلى المرحلة المنطقية التي تتمثل في الإرتقاء إلى المعنى الخالص للمعرفة وإدراك قيمة الماهيات. 
وفي مرحلة علم النفس الفينومينولوجي واءم هوسرل بين الأنا التجريبي، والنظرية المتعالية للمعرفة عن طريق رد الأنا التجريبي إلى الأنا المتعالي، وتوسيع نطاق التجربة إلى المجال الماهوي المتعالي؛ لتشمل الوقائع والماهيات.
وبالعودة إلى الفينومينولوجيا وقبل نضوج الوعي الهوسرلي بالفينومينولوجيا منهجا ًوفكرا ً، نرى أن الكلمة استخدمت قبل هوسرل بفترة طويلة، وفي معان متعددة وقد تتبع لالاند تاريخ استخدام الكلمة بشتى معانيها، فوجد أنها وردت لأول مرة عام 1764 باسم نظرية الظاهر، وذلك كعنوان للجزء الرابع من كتاب لامبير الأرجانون الجديد، وبعد لامبير استخدم كانط نفس المصطلح في عدد من مؤلفاته أهمها نقد العقل الخالص عام 1780. والمبادىء الميتافيزيقية الأولى لعلم الطبيعة عام 1786، ومن بعده جاء هيغل ليستخدم نفس الكلمة بمعنى مخالف ويطلقها على واحد من أهم مؤلفاته "فينومينولوجيا الروح" عام 1807. ثم استخدمها بعد ذلك هاملتون في محاضراته عن علم النفس والمنطق والميتافيزيقيا. وفي عام 1869 وردت الكلمة عنوانا ًلكتاب من كتب هارتمان "فينومينولوجيا الضمير الأخلاقي". ووردت أيضا ًنفس الكلمة في آواخر القرن التاسع عشر في نصين فرنسيين لدى رافيسون وآميل.
تعرف الفينومينولوجيا على أنها علم الظواهر أو الظاهراتية كمصطلح لغوي، وهي الأشياء، أو الحوادث التي تتبدى خالصة للحواس كما هي وتكون موضوعا ًللإدراك، وأساسا ًللمعرفة العامة. والفينومينولوجيا عند هوسرل هي علم البدايات الصحيحة الذي تقوم عليه كل شروط المعرفة  الممكنة والعلوم، والبداية تتحدد في الشعور الخالص مجردا ًمن التفسيرات ومستبطنا ًماهياته.
ومثلما أراد هوسرل أن ينأى بالفلسفة عن صراعها المذهبي بين المثالية والواقعية، حيث جعل الفينومينولوجيا منهجا ًللعلم الكلي منهجا وصفيا متعاليا، يرد العالم الخارجي إلى الذات؛ ليكشف بداخلها عما هو معطى مباشرة، ويدرك في كافة الماهيات الممكنة للشعور.
لذا تقوم الفينومينولوجيا عند هوسرل على ثلاث دعامات رئيسة وهي:_الماهيات وتعليق الحكم والأنا المتعالي. 
أخذ هوسرل فكرة الماهيات المجردة من أفلاطون، لكنه رفض فكرة الصورة والشيء المحسوس، واعتبر أن الماهية تكمن في الإدراك المباشر للشيء وفي العقل، حيث الظاهرة هي الماهية، والماهيات هنا هي الحقائق الموضوعية للأشياء طالما كانت متميزة عن طابعها الحسي. والمشكلة الأساسية كانت بالنسبة لهوسرل هي في تفسير كيفية الوعي بهذه الحقائق وظهورها فيه باعتبارها قصديات ماهوية.
ثم استخدم هوسرل مبدأ الشك الديكارتي في مسألة تعليق الحكم (الايبوخية)، حيث تأثر      بمنهجية ديكارت في وضع قواعد وأسس يقينية للمعرفة، وذلك من خلال الاعتماد على مبدأ الشك في العالم الخارجي والموجودات المادية عندما وضع العالم الخارجي بين أقواس، لكنه يختلف مع ديكارت في الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر إذن أنا موجود". إذ أراد هوسرل أن يخلص الفكر من التجريد لأن الفكر دائما ًيتجه نحو شيء ما، فيصبح الكوجيتو الديكارتي هنا "أنا أفكر في شيء إذن أنا موجود". 
 وبالنسبة للأنا المتعالي وما تمتلكه من حقييقة كلية، أخذ هوسرل فكرة الموناد من الفيلسوف لايبتنز، ولكنها مجردة من الميتافيزيقيا والإنسجام الإلهي. وهنا علينا أن نفرق بين الأنا المتعالي (الترانسندنتالي) عند كانط، وبين الأنا المتعالي عند هوسرل، فالأنا المتعالي عند كانط يطلق على ما هو قبلي وضروري لكل معرفة أو تجربة ممكنة. المعرفة التي تتعلق بالتصورات القبلية دون الأشياء الحسية، والتي تسمح بإمكانية التجربة، حيث يصبح العقل قانون الطبيعة رغم أنه كامن داخليا.
لكن الأنا المتعالي عند هوسرل يطلق على العمليات التي يقوم بها الأنا المتعالي، باعتباره بديهة يقينية، وذلك بعد الارتداد من عالم المحسوسات الخارجية إلى عالم الشعور الداخلي الخالص، دون أن يكون للعقل أي دور قيادي في الطبيعة.

يقسم هوسرل الظواهر إلى: ظواهر طبيعية، وهي مجموع ما يظهر من الأشياء الخارجية، والتي يمكن إدراكها حسيا، لتتحول إلى موضوع معرفي عقلي، والظواهر العقلية، وهي ما يظهر في شعور الإنسان من أحداث عقلية ونفسية داخلية ويمكن حدسها بالاستبطان أو الشعور الداخلي.
أي أن الظاهرة عند هوسرل هي نفسها الأشياء والحوادث المتغيرة في عالم الحس، وما يطرأ عليها من تغير وتبدل، وما يمكن للإنسان أن يتذكره ويحدسه ويتخيله، ثم تتحول في العقل إلى ماهيات ثابتة يقينية، من خلال ردها إلى الشعور المتعالي، أو ما يسمى بالرد الفينومينولوجي، وقد أراد هوسرل أن يطبق المذهب الظاهري على بقية  العلوم والمعارف، لتصبح الفينومينولوجيا علما كليا دقيقا أساس كل المعرف والعلوم.
القصدية والشعور القصدي 
ترجع فكرة القصدية إلى الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى، والقصد عندهم هو الفعل الذي يتجه فيه العقل نحو الموضوع ليدركه.
ظهر برنتانو ليتبنى فكرة القصدية على أساس مبدأ الإحالة بين الشعور الداخلي والموضوعات الخارجية، فيقرر أن لكل تجربة جانبا ًنفسيا ًيتمثل في الفعل وجانبا ًموضوعيا ًيتمثل في الشيء، وكل منهما يتجه إلى الآخر ويتكامل معه. إن آراء برنتانو كانت ذات أثر  كبير ومباشر في تكوين فينومينولوجيا هوسرل، خاصة أن هوسرل كان قد تتلمذ على يد برنتانو وواظب على حضور محاضراته بين عامي 1884- 1886. 
والقصدية عند هوسرل تتلخص في أن الأشياء في العالم الخارجي موجودة لكي يدركها الشعور فتكون من فعل وموضوع ملتحمين. القصدية المميزة للشعور من فعل يُدرك، وموضوع يدرك كل فعل من أفعال الشعور يتجه إلى موضوع يغايره، قد يكون هذا الموضوع شيئا ماديا، وقد يكون ماهية عقلية، وقد يكون إحدى معطيات الانفعال والتخيل أو التذكر.
والشعور عند هوسرل في ارتباطه بالقصدية ينقسم إلى نوعين: شعور محايد وشعور واضع. الشعور المحايد: هو شعور لم يبدأ بعد في تحليل القصد المتبادل بين الموضوع والفعل. والشعور الواضع: هو الشعور الذي يبدأ فعلا ًفي تحليل عملية الإدراك القصدي لمختلف الظواهر المعرفية (التذكر.. التخيل.. الرغبات) بغرض اكتشاف العلاقة بين فعل القصد وموضوعه.
فعل القصد يمثل حقيقة أساسية أصيلة، بينما موضوع القصد ليس حقيقة في ذاته، بل مجرد تابع. مثلا ًعندما نرى شجرة تفاح مزهرة، نجد أن عملية الإدراك للشجرة بواسطة الفعل القصدي هي في جوهرها واقعة حقيقية وأساسية، نقوم فيها بتركيب الموضوع القصدي في شعورنا وهو الشجرة المدركة، التي لا تكون بمفردها حقيقة أساسية، وإنما نابعة للفعل القصدي، وذلك لأن الموضوع القصدي دائم التغير والتبدل، لكن عندما يلتحم بفعل الإدراك، وخاصة بعد الرد الماهوي، يتحول إلى ماهيات خالصة تتسم باليقين والثبات داخل الشعور المتعالي بعلاقات أولية وضرورية يمكن إخضاعها للرد الماهوي.
إن التلاحم السابق بين فعل القصد وموضوعه يؤدي إلى وجود خاصية أخرى للقصدية تتمثل في أنها عملية ترقب مستمر يكون فيها الشعور بكل أفعاله الإدراكية مستعدا ًلاقتناص  موضوعاته الخارجية.
تعليق الحكم (الأيبوخية)
إذا كان الشعور مختلطا ًدائما ًبخبرات جزئية متغيرة ليست من طبيعته الماهوية، تأتيه من خلال الأنا النفسي الطبيعي، وإذا كان هوسرل يريد تجاوز هذه الجزيئات والارتداد إلى الشعور الحسي، لكي يعيد إدراك الماهيات الحقيقية لكافة الأشياء كما تظهر فيه بصورة حية، فإن الأمر يقتضي إطراح كل محتويات الشعور الجزئية المتغيرة، وكافة خبراته الحسية المكتسبة من العالم الطبيعي الخارجي، واستبعادها تماما من نطاق الشعور. هذه العملية هي استبعاد المعرفة  الطبيعية الساذجة من نطاق الشعور والتوقف مؤقتا ًعن إصدار أية أحكام لحين تمحيصها والارتداد إلى ماهيتها (وضع العالم بين قوسين).
وينقسم تعليق الحكم عند هوسرل إلى قسمين:
1-    التعليق التاريخي: الذي نضع كل ما تلقيناه سابقا ًمن معارف وأفكار ونظريات وآراء  نكون قد اكتسبناها بخبراتنا الواقعية طوال الفترات التاريخية لحياتنا الإنسانية، حيث نستبعدها كلها مؤقتا .
2-    التعليق الوجودي: نضع فيه العالم بكل متعلقاته المادية وجزئياته المتغيرة بين قوسين، ونعلق أحكامنا عليه مؤقتا، لكي تتجه مباشرة إلى إدراك  ماهيته الحية كما تبدو في الشعور الداخلي.
بعد أن نضع العالم بين قوسين تصبح الأجزاء المتغيرة في العالم كافة هي الماهيات الثابتة والصور العقلية المطلقة التي لا يمكن أن يمسها تغير وتبدل.
الفينومينولوجيا وعلم النفس 

philosophy
صعوبة التجربة المتعالية

إذا كانت الفينومينولوجيا تهتم بكل ما هو معطى للوعي من أشياء وظواهر، فإنها تعتبر نشاط المخيلة والذاكرة جزءا من هذا الوعي ومساره، وربما نتساءل أيضا ًإذا كان علم النفس يدرس الوعي بالأشياء وطريقة إدراكه لها؟ فهل ستدخل الفينومينولوجيا ضمن النطاق السيكولوجي للمعرفة؟
سيكولوجيا المعرفة تهتم بالحالات المعرفية باعتبارها حالات عقلية وترد هذه الحالات إلى الوظائف العصبية والسلوكية للمخ البشري، أما الفينومينولوجيا فلا تهتم بالحالات العقلية أو الذهنية التي تصاحب عملية المعرفية وإرجاعها إلى الجهاز العصبي، بل بالاستعدادات المعرفية الموجودة لدى الذات الإنسانية والتي تمكنها من تأسيس معرفة يقينية، وهذه الاستعدادات ليست سيكولوجية بل مرتبطة بالوعي الخالص قبل أي خبرة تجريبية.
لذا نرى أن هوسرل انتقد الاتجاهين التجريبي والمثالي اللذين سادا في عصره، وكان يحاول في مرحلة دراسته لعلم النفس، تأسيس علم نفس ماهوي يدرس الشعور في صورته القصدية، ويوضح دوره في عملية الإدراك، ويهتم بفعل الإدراك نفسه بدلا ً من مضمونه. 
علم نفس يدور حول الأنا المتعالي، بدلا ًمن الأنا التجريبي المتغير الذي سيكون جزءا من العالم المتغير، ويوضح هوسرل في كتابه "تأملات ديكارتية" كيفية تحويل الأنا النفسي إلى أنا متعالٍ عن طريق عملية تعليق الحكم، حيث يجد الأنا نفسه في مواجهة ذاته المجردة. 
نقد الفينومينولوجيا عند هوسرل 
إن الوسيلة الرئيسة التي استخدمها هوسرل للتوصل إلى الحقيقة اليقينية، هي التأمل العقلي الذاتي الذي ينعكس فيه الفكر على نفسه داخليا ًليغوص في ثنايا الشعور المتعالي، ويحدس الحقائق الماهوية الكامنة فيه. وما دامت هذه الوسيلة تتصف بالذاتية ولا يمارسها سوى صاحبها وحده، لذلك يصبح من المتعذر على الآخرين أن يتحققوا من صحة النتائج التي يتوصل إليها هوسرل، لأن وسيلتهم تختلف عن الوسيلة السابقة، حتى لو استخدموا نفس الطريقة التأملية  ليغوصوا في ذواتهم، فإنهم سوف يتوصلون إلى حقائق أخرى، تختلف عن حقائق هوسرل، بسبب اختلاف الذوات الإنسانية. 
كان هوسرل يطبق طريقته الفينومينولوجية الصعبة في استخلاص ماهيات بعض الأشياء البسيطة، كالمنزل، والمكعب، والشجرة والتي هي بطبيعتها أشياء ثابتة التكوين وسهلة  الإدراك، وواضحة المعالم في تفردها الخارجي، ووجودها المادي، لكن ماذا سيكون الحال عند الانتقال لدراسة ظواهر الحياة الاجتماعية المعقدة والمتشابكة في وقائع حية ذات تغير مستمر وتفاعل دائم؟
لذا لا يمكن اعتبار الفينومينولوجيا علما ًعلى الإطلاق، وليست شبيهة بالعلم أبدًا، وإنما نسق فلسفي مبتكر في مجال المعرفة، ولا يمكن إخضاعه للتحقق العلمي والاختبار التجريبي بسبب طبيعته الفردانية وتكوينه الذاتي.
على الرغم من الجهود الفلسفية التي بذلها هوسرل في توحيد المذهبين المثالي والطبيعي في مذهب محايد، إلا أن جهوده المستمرة في تأسيس هذا المذهب أو المنهج الذي ستقوم عليه العلوم والمعارف الممكنة، قد باء بالفشل، وذلك بسبب النزعة المثالية المتطرفة في فكر هوسرل، وتحديدا ً فيما يتعلق بالتجربة المتعالية والأنا وحدية التي تعتبر أن الحقائق واليقين المطلق ينبغ منها. وهي بذلك تغفل دور العالم الخارجي القائم بموضوعاته المتبدلة والمتغيرة.
وقد اعترف هوسرل نفسه بصعوبة التجربة المتعالية، رغم نفيه المثالية عن فلسفته، إلا إنها تبقى مجرد نسق مجرد من التأملات العقلية والشعورية الجوانية.
يحسب لهوسرل أنه ابتكر نسقا ًجديدا في الفلسفة، وطريقة في التفكير تخلص العقل من الموروثات والأوهام العالقة فيه، عن طريق صهر الفلسفات القديمة والحديثة في قالب واحد، لينكسر هذا القالب فيما بعد على يد تلامذة هوسرل الذين أسسوا للحركة الوجودية، ومحورها حرية الإنسان وخياراته في هذا العالم، حيث شهد الكثير من الفلاسفة الوجوديين انهيارات النفس البشرية والفوضى التي خلفتها الحربان العالميتان في بداية ومنتصف القرن العشرين، فلم يستوعبوا التناقض الصارخ بين الذات الإنسانية ورعب العالم الخارجي، حيث لا شيء سوى العدم.