الكتابة الرحلية العربية المعاصرة تتميز بروائية الطابع

محمد المسعودي يتناول في كتاب "الرحلة ما بعد الكولونيالية" الرحلة العربية التي تكتب الآن وهنا عن أصقاع العالم المختلفة.
الرحلات المعاصرة غايتها الثقافية تأتي في الدرجة الأولى من استراتيجيتها التأليفية
الالتفات من سياق إلى آخر سمة جلية تكشف عن تمكن الكاتب من أدواته الفنية مما يحقق المتعة لقارئه

يتناول الناقد المغربي د.محمد المسعودي في كتاب "الرحلة ما بعد الكولونيالية ـ دراسة في يوميات رحالة عرب معاصرين" الفائز أخيرا بجائزة جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة ـ فرع الدراسات، الرحلة العربية التي تكتب الآن وهنا عن أصقاع العالم المختلفة، ومنها جغرافيات لم يصل إليها إلا القليل من الرحالة/الكتاب العرب في العقود السابقة، وخاصة إبان الاستعمار الغربي للبلاد العربية وغالبية البلاد الأخرى في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. 
وكشف المسعودي أن ما يلفت النظر في هذه الرحلات أن غايتها الثقافية وجنوحها نحو التواصل مع الأنا العربي والآخر بشتى أطيافه وإيلاء الأهمية لفعل الكتابة تأتي في الدرجة الأولى من استراتيجيتها التأليفية. 
وقال "إنها رحلات ما بعد كولونيالية، لا تكتفي بتصوير تفوق الآخر الغربي والانبهار به، وعرض مظاهر حضارته وتفوقه في سياق المقارنة بين تخلفنا وتقدمه؛ وإنما تتجاوز الأمر إلى النقد والتحليل والطموح إلى فهم ميكانيزمات حضارة الآخر وتقاليده في أفق الاستفادة منها ما أمكن، ولكن دون النظر إلى الذات نظرة تبخيس. كما أن هذه الرحلات جنحت نحو استكشاف أصقاع من العالم استنادا إلى منظور الرحالة/المثقف العربي نفسه، لا استنادا إلى رؤية غربية وسيطة، فكانت معلوماتها جديدة تنطلق من أفق كاتبها المشروط بثقافة العربي وهمومه وانشغالاته الفكرية والإبداعية والثقافية والاجتماعية والسياسية، ومن هنا تبرز أهميتها".
وأضاف "فيما يتعلق بهذه الرحلة إلى البلاد الأخرى في آسيا وأفريقيا وأمييكا الجنوبية نجد الرحالة العربي يدعو إلى ترك الأحكام المسبقة والتمثلات المتوارثة - غالبا عن الغرب - أثناء تعاملنا مع الآخر إقامة وسفرا، وخاصة عند التفاعل مع شعوب البلاد الناهضة أو دول العالم الثالث، لأن خوض تجربة الاحتكاك بها يجعلنا على معرفة حقة بثقافاتها وطبائعها وعمقها الحضاري".

القراءة التي يقدمها المسعودي تطرح أسئلة، وتنبه إلى هذا الأفق الممكن للبحث في الرحلة العربية الجديدة، التي تُكتب الآن في أصقاع جديدة من بلاد العالم

ورأى المسعودي أنه "في هذه الرحلات الجديدة عدة رحلات تمت نحو البلاد العربية، فكانت نظرتها جديدة، أيضا، إلى الأنا لا من زاوية التعاطف والمشاركة في هموم التحرر والحديث عن المصير المشترك الذي حرك رحلات عقود سابقة حينما كانت جل البلاد العربية ما زالت تحت نير الاستعمار الأوروبي، وإنما اتخذت مواقف عقلانية، وحللت الواقع الحالي تحليلا موضوعيا، وعملت على تدبره، واتخاذ رؤى مختلفة تجاهه: ساخرة رافضة ومحرضة، فاستطاعت بذلك تجاوز الرؤية الرومانسية الحالمة بالحرية والمدن الفاضلة التي كانت وراء الرحلات العربية في العهد الاستعماري".
وأشار إلى أنه "في بعض هذه الرحلات التي تمت إلى الغرب لا يضع الرحالة الجديد ما بعد الكولونيالي نفسه في وضع المعارضة المجانية للآخر الغربي المتسلط، بقدر ما يسعى إلى البحث عن سبل فهمه والتواصل معه، وإدراك غاياته، وإدارة صراعه الخطابي معه من أفق البحث عن المشترك الإنساني، وجعله الأساس في بناء سردية رحلية جديدة".
وركز المسعودي على دراسته على رحلات كتبها مبدعون ينتمون إلى حقل الأدب وكان شاغلهم الأول كتابة الرواية أو الشعر أو القصة أو المسرح أو غيرها من أنواع الأدب وفنونه، وكانت الرحلة جزءا من اهتماماتهم الكتابية، ومن ثم أولوها العناية، وتناولوا فيها قضايا تشغلهم وتشغل مجتمعاتهم، وأمتهم العربية.
وأوضح "توافرت هذه الرحلات المشتغل بها على مواقف ورؤى تنبئ عن وعي بمدى ما تعانيه الأمة العربية، وما تعانيه الشعوب في أرجاء الأرض كافة من أثر الاستعمار ومخلفاته. ومن هنا كان شجب بعض الظواهر السلبية والتنبيه إليها، وكان نقد ممارسات بعض الدول القوية "التي ما تزال تسلك سلوك الاستعمار"، وكان الالتفات إلى مشاكل الشعوب المستضعفة، والاهتمام بالثقافات الأخرى غير الأوروبية بالضرورة إعلانا عن رؤية ما بعد كولونيالية ثاوية بين طيات هذه الرحلات، وبالتالي كانت هذه الإشارات الطفيفة، أو التصريحات الواضحة منطلقا لدراسة هذه الأعمال، ومن ثم الوقوف عند أهم قضايا ما أسماه الباحث الدكتور محمد المسعودي "الرحلة ما بعد الكولونيالية"، وأبرز خصائصها الفنية". 
ولفت المسعودي إلى أن القارئ يلاحظ أن هذه الرحلات جميعا صاغها مبدعون ذاقوا مرارة المنفى وعاشوا بعيدا عن أوطانهم أو عاشوا متنقلين ما بين وطنهم الأصل وبلاد الغرب للتدريس أو العمل ما عدا قلة منهم لم تعرف هذه الوضعية، ومن ثم كان من الطبيعي أن تكون كتابتهم الرحلية تعتني بسؤال الأنا والآخر، وبإشكالية الهوية الحضارية، وخصوصية الأنا في علاقتها بثقافة الغير.. وغيرها من القضايا التي يتناولها الأدب والفكر في زمن ما بعد الكولونيالية.
ولهذا، فإن موضوع الكتاب ومداره الأساس وفقا للمسعودي يركز على تبيان محتويات الرحلات المشتغل بها في تناولها للقضايا التي انشغل بها كتابها، وفي إبراز رؤاها الغنية المتعددة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى اهتم الكتاب بالكشف عن فنية هذه النصوص الرحلية وآفاقها الإبداعية المتنوعة لأن كتابها – كما أشرنا أعلاه - أدباء وكتاب شغلهم الفن الأدبي، ومناط تميزهم الأنواع الأدبية التي أبدعوا فيها وحققت لهم مكانة متميزة في خريطة الأدب العربي المعاصر: رواية وشعرا وقصة ومسرحا ونقدا. وبذلك كانت إضافتهم الفنية لأدب الرحلة إضافة دسمة تُغري بالكشف عنها وتجليتها للقراء والباحثين.

أدب الرحلة
أسئلة ثقافية وحضارية وإنسانية جديدة

وأكد أن الرحلة العربية ما بعد الكولونيالية لم تخل من حس سياسي ومن موقف إيديولوجي، ومن وعي مثقف منخرط في قضايا مجتمعه وأمته. ومن هنا يمكن اعتبار هذه الرحلة تمثيلا لمرحلتنا الراهنة، وتصورا يجلي نظرة المثقف العربي عن جوهر ما حدث سابقا، ويحدث حاليا. وهذا الوعي يقدمه الرحالة العربي من خلال رؤى رافضة للسياسة الأميركية، شاجبة للهيمنة الإمبريالية الرأسمالية المستمرة في اجترار السياسات الكولونيالية، وإرث الحروب الصليبية تحت إهاب جديد وعبر مسميات خادعة؛ وفي الآن نفسه ينتقد الذات الجمعية في نزوعها إلى تكريس الصورة المتمثلة عنا في أدبيات الآخر وفي إعلامه، من خلال بعض الفتاوى والممارسات "المتطرفة" التي يقوم بها البعض وتحسب على الإسلام والمسلمين، وعلى العرب خاصة. وفي الآن ذاته يعلي من قيمة الثقافة ويلح على أخذها مكانة مهمة في الحياة الاجتماعية مع الإيمان بالخصوصية الثقافية، والدفاع عن التنوع الثقافي وما يضمن الهوية الخاصة للشعوب.
وختم المسعودي موضحا ما تميزت به الرحلة العربية المعاصرة من حيث خصائصها الفنية، وقال "لمسنا لدى كتاب هذه الرحلة غنى كبيرا في بناء النصوص، وتشكيل سرديتها الما بعد كولونيالية. بحيث تتنوع المحافل السردية وغير السردية في صياغة خطاب الرحلة، وبناء عوالمها السردية التي يمتزج فيها التخييلي بالتسجيلي "التوثيقي"، ويرتبط فيها التاريخي بالأسطوري، والمعطى الديني بالبعد الفكري والعلمي، والجغرافي بالسياسي.. وأخذت الرحلة شكل السيرة الذاتية أو اليوميات، والسرد القصصي أو الحكاية الموجزة المكثفة، والريبورتاج الصحفي أو المقالة التاريخية أو الفكرية أو العلمية.. وغير ذلك من التقاطعات الخطابية التي تجعل من سردية هذه الرحلات سردية ثرية بمعطياتها ورؤاها. مع توظيف بعض الكتاب اللغة الشعرية والإمكانات التصويرية المتنوعة للكشف عن الأحاسيس والمشاعر، ولرصد تنوع الرؤى والمشاهد وحركتها وسكونها وعنفها وهدوئها، وتقريب المناظر من المتلقي وحفزه على تمثل المشاهد واستدعاء خياله لإدراك التفاصيل والعيش مع اللحظة التي يصورها الرحالة".
وتابع "إضافة إلى تميز الكتابة الرحلية في المدونة الكتابية العربية المعاصرة بسردية متقنة روائية الطابع، تارة، قصصية الإهاب، تارة أخرى، مع نزوع تقريري بيّن غايته التوثيق المضفور بخيوط حكائية طيعة، تجعل الالتفات من سياق إلى آخر سمة جلية تكشف عن تمكن الكاتب من أدواته الفنية مما يحقق المتعة لقارئه. وبهذه المعطيات يلامس الكتاب بعض ملامح مفهوم "الرحلة ما بعد الكولونيالية" وتجلياتها في الرحلة العربية المعاصرة، وذلك في أفق تمييزها عن الرحلة العربية التي تمت في الزمن الكولونيالي. وبطبيعة الحال يحتاج أمر هذا التحديد والتعريف إلى مزيد بحث ودراسة".
 وهكذا يكفي القراءة التي يقدمها د.محمد المسعودي أنها تطرح أسئلة، وتنبه إلى هذا الأفق الممكن للبحث في الرحلة العربية الجديدة، التي تُكتب الآن في أصقاع جديدة من بلاد العالم، بحكم أن المبدعين الذين يصوغونها دفعتهم ظروف عيشهم في المنافي، أو داخل مجتمعاتهم، إلى طرح أسئلة ثقافية وحضارية وإنسانية جديدة تتصل بزمنهم، وبما يعج به هذا الزمن من تحديات وعوائق أمام الذات الفردية والجماعية العربية.