اللغة المشهدية المليئة بالإيحاءات في 'قبس من نار'

رواية حسين عبدالخضر تكشف لنا عن سر داء وبيل أخذ يفت في روح الواقع العراقي برمته بعد سقوط النظام، حيث تم نخر النفس البشرية من خلال الصراع الطائفي.

أهل القرية يتمتعون بذكاء فطري، لا يفوتهم أمر دون أن يعرفوا حقيقته، لكنهم يبدون مستسلمين، ضعفاء، لأنهم يبحثون دائما عن الشخص الذي يحرك فيهم روح الانتفاضة، حتى إذا ما وجدوه تبعوه إلى حيث ينجح، أما إذا لمحوا شبح الفشل فإنهم لا يبالون كثيرا في أن يتركوه وحيدا يواجه قدره، ينسحبون دون أن يعترفوا بأنهم اقترفوا عارا."

تمكن الروائي حسين عبدالخضر في روايته "قبس من نار" اختيار بدقة وتامل - العنوان والتوطئة والغلاف من جذب المتلقي إلى عالم روايته،ووضعه في دوامة جريمة الحدث السياسي المسترجع والمتخيل سرديا بأسئلته..

فقد بنيت الرواية على حدث غير عادي تحدث عن اواخر التسعينات "استشهاد الولي المقدس" وما تبع ذلك من انتكاسات نفسية على مريدية وعشاقه..الكاتب سرد الاحداث بتقنية الجذب والتشويق، حيث بدت لغة الكاتب لماحة تومض دون أن تصرح، حين يتحدث عن مفهوم ودلالة النور في حياة الاشخاص حينما يشتد الظلام ويصفه ب"المشكاة" ودوره في نفس البطل الرئيسي..

في هذه الرواية البطل ومن صغره بدا يتلمس التحولات الفكرية تنضج فيه .

لعل هذه المعطيات هي من أسباب اختراقها القلب دون استئذان.أدهشتنا لغة التصوير التي تماثل بين الإنسان وضوء المشكاة، فقدم الكاتب المشكاة كمعادل موضوعي للشخصية المحوري فعل "الحدث"ودورها النفسي - الاجتماعي معادلا فنيا للإنسان عن طريق تصوير مصير هذا الصبي .

اقول ان ما يميز أعمال هذا الكاتب الموهوب من رهافة وشاعرية، وبما ينفرد به أسلوبه المراوغ من خصائص سردية يبدو معها وكأنه يحكي لنا شيئا غيبيا أحدث زلزالا أدار حركة المجتمع فكريا من حيث انتقاله من الظلمة الى النور بعد صراع نفسي مع السلطة الغاشمة،من يتأمل تفاصيل هذه الحكاية، ويتعرف على مفاتيح السرد الخاصة لدى الكاتب، يكتشف أن وراء هذه البساطة المتناهية عوالم متشابكة من الرؤى والدلالات، مترعة بالمعاني والإحالات، متراكبة الرموز والإحاءات.

فالقصة البسيطة التي يبدو أنها تحكي لنا ما دار في أحد بيوت تلك القرية النائية..

فنجد ثمة وعي حاد في التعاطي مع المكان الروائي حيث مسيرة الانتقال من (القرية الى المدينة) وما تبع ذلك من اشكالات حيث يتقاطع هذا التحول مع العالم الخارجي في كونه فاضحا للأقنعة، وكاشفا للزيف والتسلط، رواد القرية يختلفون بالكلية عن رواد المدينة، ويأتي ذكر التفصيلات الخاصة بهم، حتى علي مستوي الخطاب و الزي الذي يرتدونه:

مثلت "القرية –المدينة" المفردة المركزية بداخل الرواية، وبما يشير إليها من فضاءات مغلقة تتواشج مع العنوان الدال الذي يصرح به الكاتب في روايته، غير أن انفتاح السرد غادرت المفردة فضاءها الدلالي المادي، والمثير بداخل النفس - من القتامة إلي فضاء آخر أكثر وعورة،النور والذي يتجلي في التفكير والتامل - الروح والعقل-

والذي تكشف عنه الفصول المتعاقبة للرواية. نجد أيضا ثمة وعي عميق بآليات تشكيل النص، يبدأ من العودة إلى جذور الحكاية، إنها اللحظات الأولي التي يتفتح فيها وعي "الشخصية الرئيسية" علي هذا المكان (القرية) حين كان طفلا صغيرا.

وقد حاول الكاتب من خلال سرد الاسترجاع أن يصل بقارئه إلي فعل الإدهاش، متجاوزا المألوف من الحكايات .

الحوار هنا يمثل أحد أبعاد الرؤية السردية بداخل الرواية، و اللافت أن ثمة تواؤما بين وعي الشخوص و اللغة التي يتحدثون بها، و من ثم جاءت الحوارات السردية طبيعية و بلا افتعال، و يلاحظ أنه قد يلتحم أحيانا خط القص الرئيس مع الحوار السردي، و بما يسهم في تعميق الرؤية داخل الرواية فالجزئيات التي اختار النص إيرادها لما جرى في حياة البطل كانت تتصاعد أحداثه واصبحت محفورة في ذاكرة القارئ ولاوعية الداخلي دون أن تطفو أي من تفاصيلهما المباشرة على سطحه. وتحدد هذه الجزئيات كذلك مسار القراءة وعلامات التأويل، لأنها تتطلب وضعها في مواجهة جزئيات أخرى منتقاة بعناية.

وان الحياة الاجتماعية الهادئة التي عاشها البطل في القرية تقابلها الحياة الفردية الخاوية التي عاشتها في المدينة وكأن الرواية تطرح جدل بين الاجتماعي مقابل الفردي في بنية يوشك مل شيئ فيها وان يخضع لعملية تعارض وتقابل تنهض عليها آليات توليد المعنى في الرواية،

وتتحكم في مسار تأويل أحداثها المتناهية فنيا وهذا المحور هو محور السرد الاسترجاعي الذي يوشك السرد فيه أن يكون نوعا من المنولوجات الداخلية الموشحة برداء السرد الموضوعي بضمير الغائب، وإن كان منظور السرد فيه هو منظور الشخصية التي تقوم باسترجاع بعض ماضيها،

أن الرواية في جوهرها هي رواية العلاقة المعقدة بين "النور والظلام" والقصة لازالت ماثلة في حياة البطل في رؤيته وتصوره للعالم وأن فهم هذه العلاقة لابد أن يتم في سياقها الاجتماعي والتاريخي . لأن الرواية تعكس في هذا المجال المقولة السائدة بأن القرية هي مستودع التماسك الاجتماعي والمدينة هي ساحة التفكك والتحلل القيمي والأخلاقي، فتقدم عالما قيميا متماسكا بالمدينة، تنهض العلاقات فيه على أصول راسخة، يقابلها آخر متهرئ في القرية تنهار فيه أبسط القيم وهي قيمة الوعي الفردي، وكأن النسق المضمر في الرواية يريد أن يلفت نظر القارئ إلى هذا الوضع المقلوب وتؤكد تاريخيته.

فالتقابل هنا ليس تقابلا بين واقعين وفضائين جغرافيين فحسب، ولكنه تقابل بين مرحلتين مهمتين في تاريخ العراق الحديث والذي تصطرع فيه كل عوامل الانكسار والدمار، وكل صراعات المدينة والقرية، وتنصب فيها كل صبوات الوعي الزائف دون أن يستطيع احد منا أن يغير حال الآخرين..

البطل حاول أن يستحوذ على مايريد بعد ان انتقل الى العاصمة بغداد للدراسة والتعرف الى فتاة جميلة اخرى غير زوجته بنت عمه ليعترف أمام نفسه بأنه قادر على التغير ولو بالاماني..

نحن إزاء رواية لا تقيم يوتوبيا خاصة عن تحولات الأفراد او مصائرهم، و إنما تعرف جيدا آليات حركة هذا الواقع الموار، إنها تصف الأشياء كما هي، لتوقف متلقيها على حافة المراجعة لواقع غاصب لايرحم بعد أن فقدنا البوصلة..

وبدا كل شئ فيه خانق.. اقول في هذه الرواية الحزينة استطاعت أن تتناول كل هذا الوجع الفردي دون أن تبارح منهجها التعبيري الجمعي أو تتخلى عن أسلوبها السردي الهادئ المتجرد من كل انفعال، أو عن لجوئها إلى السرد المباشر وربط الدلالة بين الذات والموضوع وبين الموضوع والقارئ دون تهويمات أو تكهنات بما لا يظهر على السطح وما لا تلتقطه العين. فالكاتب مشغول أساسا برواية قصة واقعية حدثت بالفعل ولازالت آثارها باقية..

هي سجل من الإخفاق في عالم مضطرب وكيف أن كل شخصية من شخصياتها تنازلت عن شيئ أساسي فيها من أجل تحقيق هذا الامل المفقود أو التواؤم مع المتغيرات الجديدة بغية رؤية ضوء في آخر النفق.

لكن هذا التنازل نفسه، والذي ينطوي بطبيعته عن تخلي الشخصية عن أهدافها بعد موت والهدية والانتقال إلى المدينة،

ما يلبث أن يساهم هذا اليتم في إعاقة احلامه، ومن هنا يظل الجميع جزرا معزولة تدمر نفسها بنفسها دون أن تستطيع الفكاك من لعنة هذا الدمار الذاتي الجهنمي.

واخيرا اقول انها رواية بالغة الأهمية، لأنها تكشف لنا عن سر الداء الوبيل الذي أخذ يفت في روح الواقع العراقي برمته بعد سقوط النظام، حيث تم نخر النفس البشرية من خلال الصراع الطائفي.. نفوس عقيمة لم يدخلها نور المشاة الحقيقي، ولم تعد لهم القدرة على الحفاظ على القيم الأصيلة، وعلى سلامة الأخلاق فيصبح الانهيار تحصيا حاصل وقد كشفت الرواية عن حقيقة هذا الانهيار..