الماشية لا تأكل فيجوع الناس

الصوماليون إلى طريق اللجوء إلى الغرب بعد نزوحهم خوفا من الموت صارت عودتهم أشبه بالكوميديا السوداء التي تسلي لتفجع.

ما من مدينة في الغرب إلا وترى فيها حيا صوماليا. في عدد من البلدان قليلة السكان صارت الصومالية لغة شبه رسمية. بل أن هناك معاجم سويدية ـ صومالية. كل ذلك من أجل ترويض الصوماليين الذين لا أحد في إمكانه أن يستنطق لاوعيهم ليعرف ماذا يريدون؟ ذلك سؤال مزدوج وحائر وعلى قدر من الغموض. "ماذا يريدون من العالم وماذا يريد العالم منهم؟"

كانت الصومال ولا تزال وستظل بلدا تعيش غالبية سكانه تهديدا مستمرا بالمجاعة. ذهبت أيام سياد بري الاشتراكية إلى غير رجعة. الكثير من الصوماليين لا يعرفون من هو بري وكيف انتهى زمنه بالهزيمة واين يقع إقليم أوغادين. عن طريق النزوح واللجوء نجح الصوماليون في أن يصدعوا رأس العالم الذي أراد أن ينفرد بموقع بلدهم الإستراتيجي من غير أن يدفع الثمن. ولكن شبح المجاعة لا يزال مقيما هناك. فهو رفيق الحرب الذي لا يغيب.

لم تعرف الصومال الجوع في كل مراحلها التاريخية وهي بلد قديم شهد عصورا من الرخاء والترف بسبب تجارة البخور واللبان والتوابل. لطالما اتهم الأفارقة الصوماليين بالمتاجرة بالعبيد. تلك تهمة لم يتم اثباتها. ولطالما مد الصوماليون يد المساعدة للشعوب المجاورة لهم. غير أن الخراب حل بهم وببلدهم يوم غزاهم الأوروبيون ليسيطروا على أطول ساحل بحري في أفريقيا. وضع الأوروبيون ومن ثم الأميركان أيديهم على الأرض فتبخرت النعمة وضاع الصوماليون. لم تنفع جمهورية سياد بري ولا اشتراكيته في مقاومة التطرف الديني الذي تم اختراعه من أجل أن لا يلتفت الصوماليون إلى مشكلتهم الأصلية.

اشتعلت نار الحرب الأهلية ولم تنطفئ. تدخل الأميركان بالمارينز وتعرضوا لنكبة دفعتهم إلى المغادرة ولم تتحرر الصومال من حروبها الأهلية الصغيرة المتلاحقة. هناك شيء ما صار استرجاعه عسيرا. وحين اهتدى الصوماليون إلى طريق اللجوء إلى الغرب بعد نزوحهم خوفا من الموت صارت عودتهم أشبه بالكوميديا السوداء التي تسلي لتفجع. اما مَن بقي في تلك البلاد المنكوبة التي صارت مثالا على التيه فصار عليه أن يعيش على سلال الغذاء التي توزعها منظمات الإغاثة الدولية. صارت "الصوملة" عنوانا للذهاب إلى جحيم لا عودة منه.

"هدفي من الكتابة محاولة لإبقاء بلدي على قيد الحياة" يقول الكاتب الصومالي بالإنكليزية نورالدين فرح. وفرح كتب روايات عديدة، كان الصومال مسرحها غير أنه عاش بعيدا عنها خوفا من بطش الحكومات المتنازعة وحين عاد إليها رحل بسرعة إلى جنوب أفريقيا وهو مرشح دائم لجائزة نوبل.

فرح الذي يفكر في إنقاذ بلاده عن طريق الكتابة لا يحبه معظم الصوماليين. أما لأنهم يجهلون عبقرية بلادهم أو لأن أجيالا منهم تعرضت لغسيل دماغ وهب الإرهاب سمة وطنية. وحين اراد الصوماليون أن يقدموا أنفسهم مرة أخرى إلى العالم لجأوا إلى القرصنة البحرية فصار العالم يضع يده على قلبه كلما تم خطف سفينة من مياه بحر العرب. بعد كل عمليات القرصنة التي استدعت أن يقوم الأوروبيون بحروب استباقية على المنظمات الارهابية في الصومال لا ينفع القول "إن الصوماليين ليسوا قراصنة" لم يفكر أحد في رغبة شعب في الانتقام.

بعد كل ذلك العذاب فقد الصوماليون علاقتهم باللغة العربية. ذلك رد فعل قاس بعد أن أهدرت أموال كثيرة من أجل أن يتكلم الصوماليون العربية لتكون عضوية بلادهم في الجامعة العربية مقنعة. لقد ذهب سياد بري وذهبت معه اللغة العربية إلى غير رجعة. الأجيال الحالية تنكر أن يكون الصومال بلدا عربيا. وهي على العموم أجيال تعيش خارج الصومال في حالة انكفاء على نفسها في أماكن مغلقة تُذكر بالقرى الصومالية. يفكرون ويلبسون ويأكلون ويتصرفون كما لو أنهم كانوا هناك. ولكنه "الهناك" الذي لا يرغبون في الذهاب إليه.   

عام 1999 ذهبت في مهمة صحفية إلى "جمهورية أرض الصومال" وهي بقعة انفصلت عن الصومال رفضا للحرب الأهلية ولم يتم الاعتراف بها دوليا. يومها رأيت الخراب شاملا واستقبلنا الرئيس في بقايا مدرسة ثانوية كانت هي قصره الرئاسي وكان كريما في مائدته التي بُسطت على الأرض في أحد الحقول. لم يقدم لنا سوى اللحم. في السويد اكتشفت بعد سنوات أن الصوماليين يستهلكون كميات هائلة من اللحوم ومطبخهم لا علاقة له بالنبات. لذلك فإنهم يجوعون حين يختفي اللحم. في زيارتي رأيت بلادا خضراء يحيطها الخراب من كل جانب. تلك بلاد لا يمكن أن تجوع. تقول الأخبار أن الجفاف المستمر يهدد الصومال بمجاعة كبرى. ألان الماشية لم تعد تجد ما تأكله؟