المالكي رجل تجاوزه العراق

هناك مَن يسعى إلى أن يضع المالكي في مقدمة المشهد باعتباره عرابا للعملية السياسية.

يوم وقف أعضاء الكونغرس الأميركي عام 2006 مصفقين لنوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي الأسبق، كان ذلك الحدث واحدا من أسوأ أحداث تلك المؤسسة الديمقراطية وأكثرها انحطاطا وبعدا عن القيم الإنسانية. فالرجل الذي قاطعوا خطابه غير مرة معبرين عن اعجابهم به سيجر بلاده بعد عامين من الحرب الأهلية التي لا تزال ملفاتها في طي الكتمان إلى نفق فساد غير مسبوق في التاريخ البشري وسيضع بنفسه ألغاما لن تقوم بوجودها دولة عراقية جديدة، لا في حياته حسب، بل وأيضا في مستقبل مظلم، ستسوده النزاعات ما بين فئة حزبية قليلة استولت على ثروات العراق بحكم القوانين التي سنها وبين الغالبية المحرومة من التمتع بثروات بلادها وستظل تنزلق في هاوية الفقر، جيلا بعد جيل. وليس احتلال الموصل من قبل تنظيم داعش الإرهابي بعد هزيمة القوات العراقية عام 2014 إلا واحدة من ثمار مزرعة الفساد التي أشرف المالكي بنفسه على إقامتها وتوسيعها لتغطي مساحة العراق كله.

وبالرغم من أن كل التقارير التي كتبتها اللجان الرسمية قد أكدت مسؤوليته المباشرة عما حدث وهو ما دفعه يومها إلى الهرب إلى إيران غير أن الحماية الإيرانية كانت كفيلة بإعادته إلى العراق من غير أن يكون مهددا بأية ملاحقة قانونية. ولم يكن ذلك ليحدث بمعزل عن الموقف الأميركي الذي وهب في الوقت نفسه تنظيم داعش ثلاث سنوات انتظار من أجل أن يعلن دولته في سوريا والعراق وينصب خليفة ويؤسس سوقا للسبايا ويفرض النقاب على النساء ويفتك بالمدنيين ويؤسس جيشا من المهمشين ويدمر ما يقع بين يديه من آثار الحضارة العراقية القديمة. ومثلما مُنح نوري المالكي فرصة استئناف حياته السياسة كما لو أن شيئا لم يقع فقد تم منح داعش ثلاث سنوات راحة، يستعد فيها التنظيم لحرب ستدمر الجزء الأكبر من المدينة التاريخية. كانت تلك الخطة أشبه باستبطان للعقل التآمري الذي وضع المالكي كل أسلحته في خدمته. فالرجل الذي تلقى علومه الحزبية في أقبية حزب الدعوة يكره الموصل مثلما يكره الكثير من مدن العراق التي يعرف أن سكانها يعتزون بعراقهم العربي.

وإذا ما كان أنصاره قد قدموه باعتباره مختار العصر المنتصر فإن المالكي كان عنوانا للهزيمة. غير أن استمراره عرابا للعملية السياسية انما يؤكد سخرية الأميركان من ديمقراطيتهم التي وضعوها في خدمة الدولة الدينية الحاكمة في إيران. ومثلما هناك انتخابات في إيران هناك انتخابات في العراق. ترعى الولايات المتحدة ديمقراطيتها في العراق التي تسمح لرجل تحوم حوله شبهات الفساد ومتهم بارتكاب جرئم في حق وطنه مثل المالكي بإستعادة سلطته بحيث يكون زعيم الكتلة الكبرى في مجلس النواب الذي يحق له تنصيب رئيس حكومة في وقت فرضت إيران على الآخرين التخلي عن كل استحقاقاتهم الدستورية. لقد انسحب مقتدى الصدر من البرلمان وكان منتصرا من أجل أن يكون المالكي وهو عدوه الرجل الأول الذي يقرر المصير السياسي للبلاد.

أما حين تم تعيين محمد شياع السوداني رئيسا للحكومة فقد قيل إنه رجل المالكي. وبالرغم من أن السوداني لم يخرج عن الحدود المرسومه له. ذلك لأنه مقيد بالقوانين التي سبق وأن وضعها المالكي بنفسه غير أن حرب الشائعات أضفت عليه هالات رجل الدولة المستقل وهو كلام ليس صحيحا ولا يمت إلى حقيقة ما فعله السوداني بصلة. ليست هناك انجازات حقيقية. بدليل أن برنامج الحكومة يخلو من أية إشارة لخطط تنمية حقيقة ولا إلى تطور ملحوظ في خدمات البنية التحتية. وإنسجاما مع حرب الشائعات فإن هناك مَن يسعى إلى أن يضع المالكي في مقدمة المشهد باعتباره عرابا للعملية السياسية. وهي محاولة لتلميع صورة المالكي الذي يشعر أن هناك أطرافا في تحالف الإطار التنسيقي الذي يتزعمه قد تجاوزته ولم تعد تنظر إليه إلا باعتباره جثة محنطة، آن الأوان للتخلص منها.

المالكي رجل تجاوزه العراق. بل أن المحيطين به صاروا يتمنون أن يختفي من المشهد السياسي في أية لحظة. وليست الخلافات داخل تحالف الإطار التنسيقي الحاكم الذي يسعى المالكي إلى توريطه في انتخابات تشريعية مبكرة قد يخسرها إلا مؤشرا على قرب نهاية الرجل الأسوأ في حياة سياسية، فخخت حياة وعقول العراقيين وضمائرهم بألغام فساد ليس من المتوقع أن تكف عن الانفجار في المستقبل. لكن المالكي حتى وإن اختفى فإن التاريخ سيخلده باعتباره واحدا من أهم مخترعي الفساد عبر العصور.