المثقف العربي بين الركود والصحو

مشكلة المثقف هي من أعمق وأشد المشاكل التي تعانيها مجتمعاتنا.
غوستاف فون جرونباوم: الثقافة نظام مغلق من الأسئلة والأجوبة المتعلقة بالكون وبالسلوك الإنساني
إدوارد سعيد: من الممكن تقسيم المثقفين الذين عاشوا أعمارهم كلها أفرادا في مجتمعهم، إلى المنتمين واللامنتمين بصورة ما

إن مشكلة المثقف هي من أعمق وأشد المشاكل التي تعانيها مجتمعاتنا، فهي تكشف عن أزمة تكوين المثقف وتشكيل الفكر والثقافة والعقل في العالم العربي.
من هو المثقف؟ سؤال يُطرح ليتمّ تعريف وتحديد الصورة الحقيقية بعيدا عن الخلط والغوغاء وسط كل التحولات الاقليمية التي تشهدها المنطقة العربية. 
المثقفون هم كتلة الوعي الفاعل في المجتمع، وأحد أهمّ مصادر قوته وتأثيره وتدبيره، فالمثقف يشكل الجمال والمعرفة مُحطما القبح والجهل، فنحن إزاء مفكر نابض بالحيوية والتحدي وتخطي الرموز والأفكار الراكدة ليصبح منهجا ووجهة نظر وأسلوب تصوّر تُغذيها الخبرة والتفرد، لكن يظلّ في المفهوم الاصطلاحي هو الناقد الاجتماعي، مهمته أن يحدّد ويحلّل ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل. وفي تعريف المُثقّف ككلّ صورة للمفهوم العام في الثقافة العربية الحديثة.
في هذا الصدد يقول الفيلسوف الإيراني داريوش شايغان: المثقفون يبدون محاربين أكثر منهم مفكرين يتأملون بهدوء وراء طاولات عملهم.
أما الثقافة فيُعرّفها المستشرق النمساوي غوستاف فون جرونباوم في كتابه عن هوية الاسلام الثقافية بما يلي: إنها نظام مغلق من الأسئلة والأجوبة المتعلقة بالكون وبالسلوك الإنساني.
لكن ما نلاحظه في الحقبة الأخيرة يُظهر جليّا تلك العلاقة المُعتلّة بين المثقف مع مجتمعه، وعدم نجاعته في إحداث تلك الخطوة الفارقة لإيصال صوته ووضع بصمته في ركب الحياة ككل، فنحن نرصد عزلته وكذلك العجز عن إدراك التحديات والتحولات التي تمرّ بها الأمة العربية، وأحيانا يصبح مجرّد عابر يتبع الصفوف في آخر الركب، وهذا الأمر جعل فئة من  المحللين تٌحمله مسؤولية كل الأزمات.
ورغم مشاهد التواجد لمثقفين وكتاب عرب في منصات تلقي الضوء عليهم وعلى نتاجهم الفكري والثقافي الغزيز (روايات، قصص، مسرحيات، شعر، نقد، مقالات، حوارات...الخ) لكنها لا تبرز كل الحقيقة، بل تكاد لا تخلو من الاستفزاز الذي يُروّج لأهداف ما تظل نمطية ولا تتجاوز تلك التحديّات المناطة بعهدته، ومن جهة أخرى وجد المثقف العربي نفسه مُكّبلا بأنظمة تعيق تأثيره الملموس في سائر الحركة الثقافية أو بالأحرى التوعوية.
 لكن حسب آراء بعض الباحثين، فهو مطالب بحراك مع منظومة كاملة للفكر المعاصر لصقل التقارب والتحاور مع الآخر في ظل تمازج مع الزمان والمكان.
وعلى ضوء ما جاء آنفا، أضحى المثقف أيضا متوجّسا من شيوع العولمة وثقافة الاستهلاك، باعتبار وجوده الضئيل أمام سطوة معايير ثقافة جديدة جارفة تُبطل من ضراوة تأثيره وأهميته، رغم أن هناك مثقفين جسّدوا حالة نضالية فارقة فكانوا في طليعة المجتمع وبارزين في المشهد الثقافي والاجتماعي.
ولكن من المؤسف حقا أن يقبل بعض المثقفين العرب بتوزيع ولاءاتهم لتغذي خلافات الأنظمة والحكام، رغم أن البعض الآخر حاول التغلب على الواقع المأساوي بمشاريع إصلاحية هدفت للخروج من هذه الأزمة الضيقة، لكن باءت مشاريعهم بالفشل، الأمر الذي أدّى إلى تخلف حضاري لم تعرفه الأمة العربية على مرّ العصور.

هل للمثقف المعاصر فعلا صيت لا يُنكر، وقدرة على إماطة اللثام عن الحقائق، وكشف الأوهام التي تلتصق بالمجتمع لتضفي عليه فسيفساء فكرية وحرية؟

هذا الأمر عبر عنه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد قائلا :"من الممكن تقسيم المثقفين الذين عاشوا أعمارهم كلها أفرادا في مجتمعهم، إلى المنتمين واللامنتمين بصورة ما ".
فهل يشترط للنهوض الحضاري وجود ثقافة عالمية إنسانية ذات خصائص محددة؟  
إن الغزو الثقافي والسياسي الغربي شلّ الإمكانيات الداخلية الذاتية التي أدّت إلى انفلات واضح والهروب إلى الثقافة الغربية، مما جعل بعض المثقفين العرب يلقون أسباب أزمتهم وأزمة ثقافتهم على السياسين واستبدادهم. 
وفي هذا الصدد وجّه المفكر علي حرب نقدا لاذعا للمثقف العربي وانطلق في هجومه من مقولة إن المثقف يسعى من خلال عمله الفكري والتنظيري إلى توظيف سلطته العلمية والمعرفية لزيادة نفوذه الاجتماعي.
ويعزو الدكتور لؤي صافي عجز المثقف عن التأثير في محيطه وتطوير ثقافة مجتمعه، إلى طبيعة الحلول التي يقدمها والتي لا تتوافق مع طبيعة المشكلات التي تمرّ بها الشعوب العربية في الوقت الراهن.
إذا، فالتفاعل الفكري المُنعش للثقافة مرتبط أساسا بالتقارب والتواصل ومرهون بالمعترك الفعلي للثقافة والفنون بالساحة الفكرية وبالمثقف، وبما يدور فيها من فكر، وللمجلات الثقافية الدور الأكبر في الإنعاش الفكري كما تطرقت إلى ذلك الاعلامية الإمارتية عائشة مصبح العاجل، لتضيف أنه حين يتم الإعلان عن ولادة مجلة ثقافية فهي ولادة حقيقية لحياة يتنفس من خلالها المثقف، ويطلق حمامات فكره في فضاء يشعّ بالتجديد، مخاطبا العقول ومشركا طيوف الأرض لتدور في فلك التكوين الجديد للخطاب المتسامي مع النور والتنوير.
وبالتالي فإن المجلات الثقافية تعمل على إفراز مكونات جديدة تواكب زمن التحولات المتسارعة، وتجعل من المثقف متمرسا أكثر في تدوين مطارحات واقعية شبيهة بالبيئة التي تندفّ منها شواغله المعاصره، إذ يسعى جاهدا لجعل هذا المفهوم يتجذّر في معالم الواقع المحيط به، وما تختزله الذاكرة الشعبية من مشاهد وترسّبات يومية، منطلقا من ذاته كفاعلة في المجتمع، لترسم مجالا فكريا ينخرط في السياق العام، وذلك بفتح الأبواب أمامه و خلق فضاءات تفضي للعطاء والتخاطر من خلال الحوارات والمنتديات الفكرية.
ولنا أن نتساءل هل للمثقف المعاصر فعلا صيت لا يُنكر، وقدرة على إماطة اللثام عن الحقائق، وكشف الأوهام التي تلتصق بالمجتمع لتضفي عليه فسيفساء فكرية وحرية؟