مكاشفات الروح ومصنفاتها التعبيرية

في روح الشاعر إبراهيم عواودة حيرة وانشغالات تغزل حالات شعرية بكل تجلياتها.
باقة من التفاصيل الإنسانية في حضرة المجاز الشعري 
الشاعر الأردني يطوّع النص للحالة ذاتها، فيندلع شعره بالحميميّة 

من معين اللغة والتراث والمعاصرة، نغترف من صهيل شاعر متفرد، تميز بقصائد عالية الجودة تزخر بالصور والدلالات المتعددة، لها عمقها الإنساني وذات قيمة جوهرية تلوذ إلى ديباجة لغوية باهرة، لنحظى معها بحالة نشوة تخلد في الذاكرة والنبض.
إنه منجز شعري وفني مشحون بمعجم لغوي فاخر، يكّرس تلك الأشكال التعبيرية الحديثة والرهانات الشعرية الخالصة المكللة ببوح وجدانيّ، ونحو ذلك من النسج الأدبي الذي أنتجته بحور متعددة وتفعيلات محمولة بشتّى الرسائل الضمنيّة والمضمّخة بفعل الإبداع.
إن في روح الشاعر حيرة وانشغالات تغزل حالات شعرية بكل تجلياتها، شكّلتها 55 قصيدة ضمن ديوانه "روح حائرة" الصادر سنة 2018، لنتأبط الشعر والنثر، ونرصد باقة من التفاصيل الإنسانية في حضرة المجاز الشعري والتداخل بين التجربة الذاتية والعامّة.
المعاني الإيحائية ومصنفاتها
بلا هوادة نحن أمام ديوان ما فتئ ينصاع إلى حالة شعرية خاصة، وينهض على توظيف باقة من المفردات ذات مكاشفة معلنة لقريحة تفّتقت فانسابت من بين جوانحها أعذب القصائد المكلّلة بالصور والتجارب. بل بعض من شعره يشفّ عن محاكاة لما عايشه من ترحال وغربة بحكم عمله في السلك الدبلوماسي.
وأكثر ما يلفت الانتباه أن شاعرنا يطوّع النص للحالة ذاتها، فيندلع شعره بتلك الحميميّة التي تتخبط فيها النفس البشرية بين الحيرة والشغف والأمل والرجاء.
وعلى هذا النسج، يقول في مطلع قصيده "حنين":
نفث القلب شوقه وحنينه ** لزمان فيه رضى وسكينة
وسعى ناشرا شراع رجاء ** راحلا من مدينة إلى مدينة
حسِب الحلم في مدى البحر، لكن ** عاد منه هشّا يعدّ شجونه
ومقطع ثان من قصيده "روح حائرة":
فراشة حرّة تشكو من الالم   
يروي تردّدها أشواق مضطرم
تسعى بلهفتها الظمأى، تفتش عن
نور يبلغها، كالريح للديم
ما بين فلّ زها، صدري له وطن
وبين وردٍ جريح سال منه دمي
إنه إبداع مخاتل للروح كيفما شاءت تلك العوالم المتقاطعة بين المرئي واللامرئي ليعكس من خلال عناصرها الذاتية بوصلة لمضامين شتّى، ذات أبعاد كونية وملامح شعرية.
كما تقاربت الألفاظ في رقّتها وتشكّلت بين أعطافها معاني مؤثرة وصور لا تخلو من العمق التخييلي. 

Poetry
يا رب فيك رجاؤنا

وفي هذا السياق يقول في قصيدته "اندماج":
وحين حضنت بكفّك كفّي
تراقص قلبي مثل فراشهْ
ودارت به الأرضُ،
كالأم حين تهدهد مولودها المٌستفَزَّ
تغني له، وتعد فِراشه
ليهنأ في حلم تتنزّل فيه عليه الملائكٌ
من خلال النص الشعري يمكن كشف النقاب عن الدلالة الإيحائية ومعرفة مصنفاتها الرمزية، وتجلى ذلك في عديد القصائد المصحوبة بملامح شتّى. وقد كان للوطن النصيب الأوفر في مصنفات النص لما امتاز به من شعرية عالية خصوصا في قصيده "في حب الأردن".
وهذا مطلعها :
لِعمّان صوت جامع ومؤلفُ ** وقلب لأمجاد العروبة يهتفُ
وفيها لنور الله غيرةٌ ناصح ** يٌبلغ بالحسنى، فيهدي ويُنصِف
لكَ الله يا أردن أرض كرامةٍ ** وأهلِ بِهِم بيض الصّنائع تٌعرف
وتتجلّى خصوصيّة القصيدة في الدندنة الصوفية وموقعها في السبك بكل شفافية، إضافة إلى تحفيز المفردة الشعرية، والتي يلخصها بشكل بليغ هذا الدعاء :
يا رب فيك رجاؤنا
قد ضاقت الدنيا بما رَحٌبت
وهمَت غيوم الغمّ في القلب
ياربّ فيك رجاؤنا فعسى
تحنو على الظمان بالسحب
ربّاه عبدك جاء معتذرا
فاكشف بلطفك عتمة الدرب
تفعيل الأنماط الفنية والسياقات المتعددة
انفتاح النص على الأنماط الشعرية من خلال اللغة والإيقاع والبناء، هو بمنزلة تشكيلات جمالية في أجلّ صورها وجزء مهم ومكمًّل للقصيد، في سياقات ذات منحى فني وأدبي وذو آفاق إنسانية تترجم نضوج التجربة المنفتحة على عوالم فسيحة. فنغدو أمام شاعر مترع بدفق روحي ورؤى شعرية اخّاذة تستوجب الوقوف عندها.
لقد استطاع عواودة ابتكار تراكيب شعرية مختلفة فهو لا يغرق في الإشارات والرموز ولا ينحاز إلى التجريد، لكنه راهن على تفعيل أسلوبه النابع من تصوره الخاص للشعر وتوظيف الأشكال التعبيرية الحديثة وانصهارها في سياق القصائد ومنتهاها.
كل تلك الشفافية المضمخة بصدق فنيًّ، أهّله ليحقق معادلة شعرية لا تنصرف عن الأحاسيس ولا تبالغ في الارتباط بالوجدان، لكنه ممتزج بأطياف الواقع وتداعيات العالم الذي تنقّل فيه من مكان إلى آخر ليتوّج مسيرته بالإبداع والأصالة وفنتازيا اللغة.